صفحات مختارة

انهيار الغرب والعالم الجديد

null


صالح بشير

هل تراجع الغرب، سطوة ونفوذاً وانفراداً بهما؟ بعض الأمارات يوحي بذلك، تلقّفها في المنطقة العربية لا سيما، خطاب بعينه، ذو نبرة ظافرية موغلة في الظافرية، لا يتورع عن توقع انهيار وشيك للولايات المتحدة، جراء مصاعبها في العراق أو في أفغانستان، ويبشر بنهاية أضحت دانية في المتناول للدولة العبرية، أداتها صواريخ «حماس» أو سلاح «حزب الله».

هو قول تفاؤل ورغبات وأمانٍ، قد يستخفّ، لسماته تلك، بواقع الحال وبوقائعه، وقد يكون، لنفس تلك الأسباب، خطِراً على القائلين به، وهم على ما يبدو كثرٌ بين ظهرانينا، جمهورا يستشعر ظلماً فادحاً بعيد الغور، يعتبر، عن وجه حق في الغالب وتوهّماً أحياناً، أن الغرب مصدره الحصري أو يكاد، ونخباً دأبت على تأويل الأمور تأويلاً «مغرضا»، أي غير موضوعي، هو نتاج نشأة إيديولوجية وعادات تفكير منتسبة إليها أقرتها.

لذلك ربما توجب التوقف عند خطاب التراجع ذاك، خصوصا أنه ليس بالجدة التي نتصورها، إذ رافق المغامرة التاريخية للغرب الحديث منذ انطلاقها تقريبا، قال به مفكرون كثر، وإن اختلفوا مشارب وتيارات، من أوزوولد سبنغلر إلى نيتشه إلى بول كيندي في الزمن الراهن، على سبيل المثال لا الحصر. فالمغامرة تلك لابسها النقد، وهو نقد لا يتوانى عن الجذرية أحيانا وقد يبلغ مبلغ الدحض، وكان منها بمنزلة الملمح التكويني، ولكن النقد ذاك كثيرا ما أخطأ في تشخيص انهيار أو تراجع لم يتحققا أو أنهما تأجّلا، أقله حتى اللحظة (وذلك لا يعني، بطبيعة الحال، امتناعهما) وفي ذلك ما من شأنه أن يدعو إلى الحذر في الأخذ بذلك الخطاب أخذاً حرفياً دون تمحيص ودون الاستهانة بكل علامة وهنٍ قد تبدو على الغرب.

غير أنه لا جدال، من وجه آخر، أن العقود الأخيرة جاءت، في ما يتعلق بتوزيع النفوذ على الصعيد الكوني بمستجدّات لم يعهدها العالم منذ أن استتبت الغلبة للغرب مع الثورة الصناعية أو حتى قبل ذلك، منذ عصر النهضة. إذ شهد ذلك التاريخ المتأخر، الذي يمكن تحقيبه، على وجه تقريبي بالتأكيد، بنهاية الحرب الباردة، بروز قوى تطمح إلى احتلال موقع الصدارة في شؤون العالم، تنافس الغرب وتنازعه النفوذ، من خارج المجال الغربي، هي في المقام الأول الصين، وبدرجة ما الهند وبعض قوى أخرى، في أميركا اللاتينية، قد لا تكون «غيريتها» قياسا إلى الغرب ناجزة تماما أو بديهية، ما دامت تربطها به وشائج متينة وأصلية عرقية و/أو ثقافية.

ذلك أمر غير مسبوق في العصر الحديث، ويشكّل تحولاً بالغ الأهمية ربما لم ينل حظه من التحليل، من زاوية النظر هذه. صحيح أنها ليست المرة التي تترشح فيها أطراف غير غربية إلى موقع القوة والنفوذ الكونيين، لا سيما خلال حقبة الحرب الباردة. وتقدم اليابان وروسيا، كل على طريقتها، نموذجين بليغين في هذا الصدد، اليابان كقوة اقتصادية وروسيا (في عهدها الشيوعي) كقطب إمبراطوري، تقاسم السطوة مع الغرب، بما في ذلك في عقر داره الأوروبي، فضاهاه وتحدّاه. ولكن التجربتيْن تيْنك تحققتا ونالتا ما نالتاه من نجاح، على حساب خصوصيتهما، إن جازت العبارة، أي على حساب ما يميزهما عن الغرب، أي من خلال إعلان الانتماء إلى المجال الغربي، وإن من موقع نزاعي كما تدل الحالة السوفييتية.

حصل «الانتماء» ذاك في ما يخص اليابان، بالاقتصار في طلب القوة والنفوذ على الصعيد الاقتصادي، أي على أساس تبني الاقتصاد الرأسمالي الغربي واكتساب الكفاءة فيه، وقد تم ذلك عن طريق التضحية، غير الطوعية طبعا، بالدور السياسي، بل بالسيادة، وهما من بين أبرز ما يُفترض أنه مناط «الخصوصية»، أي مناط التمايز عن الغرب، والمعبّر عنه. وحصل «الانتماء» ذاك في ما يخص روسيا السوفييتية، بواسطة السعي إلى محو «شرقيّتها»، التي يراها الغرب لصيقة بها وآية «غيْريّتها» التي لا تُذلّل، وذلك باعتماد الماركسية عقيدةً، وهي فكر غربي يزعم تجاوز الغرب «البورجوازي» و«الرأسمالي» من خلال تبنّيه مع إبطاله، ليس باسم خصوصية ما بل باسم الاضطلاع بمهمة اجتراح مستقبله، أي إقامة المجتمع الاشتراكي الذي هو، حسب التعاليم الماركسية، منتهى المجتمع الرأسمالي ونقيضه ومآله الحتمي.

وتلك ليس حال قوى مثل الصين (مع أن هذه الأخيرة لاتزال تدين رسميا بالشيوعية) أو مثل الهند. إذ إن القوتيْن تيْنك لا تنكران صفتها غير الغربية بل تعلنانها، أو أنها لا تستوي إشكالا بالنسبة إليهما، حتى أنه يمكننا إعادة التأكيد أنهما أول قوتين تبرزان من خارج العالم الغربي في العصر الحديث.

وهكذا، إذا كان من تراجع مُني به النفوذ الغربي (وذلك يعني الولايات المتحدة في المقام الأول)، فهو ذلك المتمثل في هذا المستجد الذي قد يكون مؤسسا لعالم جديد غير ذلك الذي أرست أسسه الغلبة الغربية منذ قرنين أو ما يزيد، وليس في فشل موضعي، في مواجهة هنا أو حرب هناك، قد يكون بالغ الأهمية أو بعيد الأثر، ولكنه أبعد عن أن يكون فاعلا في تحوير توزيع النفوذ العالمي على نحو بنيوي وعميق.

هذا ناهيك عن أن المستجدّ ذاك، إن سلمنا بحصوله، يُطلق مسارا تدريجيا، بطيئا وئيدا بطبيعته، لا يفضي إلى انقلابات في ميزان القوة سريعة ووشيكة، كتلك التي «يتوقعها» خطاب الأماني السائد بيننا.

* كاتب تونسي


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى