صفحات الحوار

طارق علي: رواياتي تحاول تحدي المنظور الارثوذوكسي للتاريخ

null
ابراهيم درويش
طارق علي، الكاتب والمثقف والناشط والسياسي البريطاني المعروف، انهى مشروع عشرين عاما من خماسيته عن الاسلام التي صدر الجزء الاخير منها، ‘ليلة الفراشة الذهبية’، نهاية شهر نيسان ( ابريل) الماضي والتي حاول فيها تقديم ملامح من الحضارة الاسلامية في لحظات صعودها وهبوطها بدءا من روايته ‘ظل شجرة الرمان’. وبمناسبة نهاية المشروع الذي استنفد علي فيه جزءا من عمره واطلع على تراث الاسلام الثقافي، استشرفنا معه في لقاء في مكتبه في دار نشر فيرسو، التي يعمل فيها ويشرف على تحرير وقراءة مجمل اصداراتها، بعضا من القضايا المتعلقة بالخماسية. ولأن طارق علي متعدد الوجوه والاهتمامات، سياسية وجدلية يسارية وثقافية عامة فقد حاولنا استكشاف الاسباب والدوافع التي حدت بكاتب معروف بنشاطاته في احتجاجات الشوارع يقدم نفسه على انه رجل ‘غير مؤمن’ بدأ في حلقة اوكسفورد التي كانت تنادي بسقوط الالهة، لاختيار موضوع الاسلام والحضارة الاسلامية مركزا لخمس روايات متعددة الامكنة. وكان علي حميميا وصريحا في حديثه معي حول جذور رواياته خاصة الاخيرة التي تراوح بين التاريخ الماضي والحاضر ويحاول فيها الامساك بزمن مضى ويبحث عن شباب كانوا يكبرون وتكبر احلامهم وتنمو جذور الحب والخيبة في قلوبهم ثم يفرقهم الزمان ويلتقون في مرحلة قادمة وقد اخذ الزمن منهم ما اخذه. في اللقاء مع طارق علي يحاول المرء تجنب اغراء الخوض في القضايا التي تهم كاتبنا لان لديه موقفاً وتعليقاً عليها لكنه يقول في اجابة على سؤال لنا ان كان قد حاول في خماسية الاسلام استعادة جذوره الاسلامية وهو الكاتب والمناضل الذي ظل ينظر لنفسه على أنه لاديني او ملحد، ان ما دفعه للخوض في ارض الثقافة الاسلامية هو حرب الخليج الاولى والطريقة التي صور فيها الاعلام العرب والمسلمين في حينه، وما لفت انتباهه في ذلك الوقت ما قاله استاذ جامعي عن العرب ‘هم امة من دون ثقافة سياسية’. ويضيف علي ان هذا التصريح اغضبه لانه يعرف ان ما قاله ليس صحيحا. ومن هنا قرر الاجابة عن السؤال اضافة الى اخر تفرع عنه وهو يتعلق بلماذا لم تحدث في الاسلام حركة اصلاح ديني على طريقة ما حدث في المسيحية. ومن هنا رأى ان الاجابة يمكن العثور عليها في اوروبا وليس داخل الرواية الاسلامية التقليدية عن التاريخ. فالتاريخ الاسلامي، كما يؤمن، ليس خطيا، وليس فقط ما قرأناه في الكتب التقليدية عن نشوء الاسلام في مكة والهجرة وانشاء مجتمع المدينة والفتوحات والدول والممالك الاسلامية بل هو متنوع تسهم اطرافه في بناء رؤية عن التسامح والتعايش مع المجتمعات الاخرى. فالاجابة عن تراجع الاسلام وتشويه صورته لا تكمن في تصحيح طريقة رؤية الغرب لنا ولكن في اكتشاف تجربة الاسلام فيه. من اوروبا تبدأ معركة استعادة الهوية والثقافة الاسلامية. وعليه بدأ طارق علي رحلته الاولى في اكتشاف ثقافة الاسلام، وليس الاسلام نفسه، من اوروبا ومن تجربة الاسلام في اسبانيا. صحيح ان طارق علي يراوغ في الاجابة عن السؤال حول اكتشاف ‘اسلامه’ وهو ابن الثقافة الاسلامية قبل ان يصبح ماركسيا عن اقتناع، بل وناقدا لماركسية والده الشكلية. لكن في كتاباته يشعر القارئ المؤمن بـ ‘ايمان’ يسري بين الكلمات، فعلى الرغم من كل التعبيرات الالحادية والهرطقية الا ان القارئ يمسك بحس ايماني يقدمه كاتب غير مؤمن. يقول علي ان مرحلة حرب الخليج هي نقطة تحول في محاولته استعادة الثقافة الاسلامية، فتاريخ الاسلام في كتب المدارس البريطانية ومقرراتها لا يتعدى فقرة او فقرات، خاصة فيما يتعلق بتاريخ الاسلام في جنوب اوروبا ‘جاء الاسلام واخرجته فيما بعد الكاثوليكية من هنا’. ويشير إلى ان الجهل بالاسلام في الغرب كبير وان ما يعرفه الاوروبيون عن الاسلام مشوه. كما يتحدث طارق علي عن انتشار خماسيته وترجمتها إلى العديد من اللغات الاوروبية والعالمية، والرسائل التي يتلقاها من القراء.

تحولات في الاولويات

وقبل الحديث عن مشروع الخماسية لا بد من الاشارة إلى ان محاولة البحث عن ثقافة الاسلام جاءت ضمن تحولات كان يعيشها الكاتب بعد انهيار جدار برلين عام 1989 حيث قرر، بعده، تغيير الاتجاه من التركيز على ‘احتجاج الشوارع’ والعيش مع الجماهير، الى النظر لحركتهم وتحليل رد فعل الشارع. كان هناك بحث عن وجهة جديدة للكتابة توائم قلق المناضل. ومن هنا جاءت رحلته الى اسبانيا وزيارته إلى غرناطة وجامع قرطبة وكتب بعدها الجزء الاول من الخماسية ‘في ظل شجرة الرمان’ ( 1992) والتي حققت نجاحا واسعا خاصة في اسبانيا واصبحت ضمن المقررات المدرسية الاسبانية. لم يفكر طارق علي بكتابة سلسلة من الروايات التاريخية حول تاريخ الاسلام ولكن الاقبال على الرواية ثم التشجيع الذي تلقاه من الناقد الراحل اداورد سعيد، صديق الكاتب، والذي علق قائلا ‘لقد بدأت المشروع وعليك ان تكمله’، جعله يضع كتب ‘كتاب صلاح الدين’ (1998) الذي قدم فيه رؤية متعاطفة مع البطل المسلم و’امرأة الحجر’ ( 2000) التي جرت احداثها في قلب الدولة العثمانية، ثم ‘سلطان باليرمو’ ( 2005) عن الجغرافي الادريسي الذي كان يعمل في بلاط فردريك وخاتمة الخماسية ‘ليلة الفراشة الذهبية’. ويشير الى انه عندما كتب عن صلاح الدين والحروب الصليبية اكد التواجد اليهودي في الجانب الاسلامي ليظهر ان المسلمين هم الذين حموا اليهود وتعهدوهم في محاولة لالقاء ظل على الحاضر الحالي. ففي ‘كتاب صلاح الدين’ كان كاتب السلطان ابن يعقوب وراوي الحكاية هو اليهودي الذي اختاره علي ليكون في مركز الرواية، لكنه يقول انه تقصد هذا الاختيار لان ابن يعقوب وامثاله من اليهود الذين خدموا السلطان كان عددهم كبيرا، خاصة ان طبيب السلطان نفسه كان يهوديا، وهو موسى بن ميمون الفيلسوف الاندلسي المعروف. ويريد الكاتب هنا ان يشير الى انه لم تكن هناك اية جذور للعداوة بين المسلمين واليهود بل العداوة ابتدأت مع الاستيطان اليهودي في فلسطين، وتؤكد الرواية ان الاسلام حمى اليهود، ونموذج صلاح الدين تأكيد لذلك. وجاء الجزء الرابع من خماسيته ‘سلطان باليرمو’ استجابة لصديقة ايطالية اتصلت به عاتبة عليه ومتسائلة عن سبب تجنبه ايطاليا وتمازجها مع الثقافة الاسلامية واشارت اليه بالذهاب إلى صقلية، فهذه الجزيرة التي كان الرحالة يصفونها ببلد المئة مسجد لم يبق من اثر المسلمين فيها الكثير. ويعيد الباحثون سبب اختفاء الاثار الاسلامية منها الى تعرض الجزيرة الدائم للزلازل. وما ساعده على استعادة زمن الادريسي قراءته لكتاب من ستة اجزاء لمايكل اماري (1806 – 1889) وهو ‘تاريخ المسلمين في صقلية’ والذي يعتبر من اهم الكتب التي كتبت عن تاريخ المسلمين في الجزيرة قبل الغزو النورماندي. ومع ان علي لا يعرف الايطالية الا ان باحثة مصرية ساعدته على قراءة الكتاب مقابل حصولها على نسخة الكتاب النادرة. وذكر هنا ان الكتاب ترجم إلى اللغة العربية. ما يميز رواياته الخمس هو الاحتفاء بالتنوع والغنى الثقافي الذي ميز حضارة الاسلام ودور التنوع في بناء جسور للتعايش والتسامح بين الشعوب والحضارات، والكاتب واع ويؤمن بأن قدر الشرق والغرب هو اللقاء وليس العداء وتجارب الحضارة الاسلامية والتماس بين الغرب والشرق تظهر في النهاية ان العنف لم يحقق شيئا، وان ما بقي من الحروب هو الثقافة المتعايشة. يكتب طارق علي كما يقول وعينه على الحاضر فمرحلة حرب الخليج وان مثلت محركا له لبداية المشروع، إلا ان مرحلة ما بعد الهجمات على امريكا افرزت ثقافة متعصبة وعدائية واسلاموفوبيا تعيد انتاج كل ما افرزته الثقافة الغربية عن اليهود في الماضي ولكنها صارت موجهة الان ضد المسلمين. فاليهودي وصف في السابق بانه بلشفي- شيوعي نظرا لان عددا من قادة الثورة البلشفية كانوا يهودا، والان يوصف كل مسلم بالارهاب. ويتحدث علي عن فرنسا تحديدا كبلد ينتشر فيها التحيز والرهاب ضد المسلمين واتخذ قراره وبوعي بتضمين روايته الاخيرة بعض الفصول التي يسافر فيها الابطال الى فرنسا.

لحظة السقوط مجال للتفكير والتقييم

يلحظ في روايات علي الخمس انها تمسك بتاريخ الاسلام في لحظاته الاخيرة في هذه المناطق التي تقف على خطوط التماس بين الشرق والغرب والشرق المسلم وغير المسلم وفي هذا ملمح خلدوني عن صعود الحضارات وانهيارها. ويوافق طارق علي على أن رواياته واحداثها التاريخية تدور في لحظات يواجه فيها الاسلام تهديدا خارجيا ويؤدي الى الهزيمة والتراجع. كما ان لحظة التراجع تظل دليل الكاتب لقراءة ما حدث ففي اللحظة العثمانية ظلت الدولة منغلقة على نفسها ولم تستفق الا على وقع المدافع الاوروبية التي فتحت الباب امام استعمار بلدان السلطنة، وفي اللحظة الصقلية والاسبانية والصينية، في الرواية الاخيرة، يدخل الكاتب عالم ما بعد النهاية كي يصور الدمار والقتل والتشريد والاغتصاب وفوق كل هذا تدمير الحضارة والكتب، ففي ‘ظل شجرة الرمان’، يطلعنا الكاتب على لحظة ما بعد الخروح ومحاكم التفتيش وجمع الكتب الفلسفية والعلمية والقرآن وحرقها في الساحات العامة، فمن خلال الحرق قدم لنا طارق فكرة عن الاسهام الحضاري العربي للثقافة الغربية وتدمير هذه الثقافة على أيدي الاوروبيين انفسهم. وعلى أية حال فالعوالم التي تقدمها الخماسية تتجنب ‘اسطرة’ التاريخ وتصويره عبر منظور تمجيدي فهناك اعتراف من الكاتب بان التنوع والتعايش وان كان سمة الحياة الا انه لم يعن غياب الاختلاف ومعه الشقاق. ولا بد من الاشارة هنا إلى ان الكتاب الثالث ‘امرأة الحجر’ وان دارت احداثه في منزل في جزيرة مرمرة الا ان الكاتب اراد ان يقدم رؤية عن الكيفية التي تصرفت فيها الامبراطورية العثمانية تجاه اخوانها المسلمين في الاندلس الذين انتظروا قدومها لانقاذهم ولم تأت لان الامبراطوريات تتصرف بناء على مصالحها، مما يضع الرواية في قلب اهتمامات الاطراف وتأثيرها على المركز الاسلامي. الأمر الآخر هو قصة عائلة اسكندر باشا، الحب والخديعة والحسد في داخل هذه العائلة المؤثرة والتي يعكس انهيارها تحلل الامبراطورية نفسها وانهيارها.

الرؤية الخلدونية لحركة التاريخ

وفي هذا المجال، اي استلهام لحظة ما قبل السقوط، يجد الباحث فيها رؤية تستلهم المعنى الخلدوني للتاريخ والحضارة وطارق علي يؤكد تأثره بالرؤية الخلدونية عن التاريخ وصعود الامم وتراجع الحضارات ويصف ابن خلدون بانه ‘اعظم مؤرخ’. لكن ابن خلدون كان ناقدا للفكر الكلامي والفلسفة في مقدمته ومقارنة مع احتفاء طارق علي بالابطال المعادين للارثوذكسية كان ابن خلدون محافظا في نظرته للدين. فابن خلدون ينتصر للنص المؤسس والوحي مقارنة مع ابطال علي المهرطقين والخارجين عن النص. ومن هنا تمثل لحظة الهبوط بالنسبة للكاتب فرصة لاستعادة التاريخ والثقافة والتمازج، فمن خلال الكتابة والتفكير بالماضي الذي تمثله المعالم والاثار الباقية او ما تبقى منها تمكن استعادة التاريخ للحاضر.

هراطقة منتصرون

ويرى كاتبنا ان سبب تركيزه على الابطال الرافضين للنصية الدينية هو قلقهم، الداعي للابداع، وكونهم متمردين فهم يمنحون الراوي والكاتب فرصة اكتشاف ما وراء العالم الحدي، والخروج من عالم محكوم بيقينيات. طبعا في مسألة الخيارات لماذا كان يجب على طارق علي البحث عن مهرطقين وخارجين على المؤسسة الارثوذكسية في شخص الادريسي ودارا في عمله الاخير فلدى الثقافة الاسلامية مهرطقون او هكذا ينظر اليهم من الراوندي وابن المقفع والرازي الطبيب والخيام اكبر المغولي. المسألة بالنسبة إلى طارق علي ليست مسألة بحث بل خيارات واستراتيجيات في الكتابة الروائية فهو يحاول ان يرتاد مناطق جديدة والبحث عن شخصيات لم يكتب عنها من قبل، اي البحث عن الجدة وهذا سبب عدم اهتمامه مثلا بكتابة التاريخ الاسلامي على طريقة جرجي زيدان، بل هناك من يشكك في كون رواية طارق علي في خماسيته عن الاسلام رواية تاريخية بالمعنى المعروف عند بلزاك مثلا، والاخير من المحبذين لدى كاتبنا وبطلته زينب في روايته الاخيرة متعلقة بأعمال بلزاك وكتاباته. في اطار آخر لا تلتزم روايات علي بخط تاريخي وسردي محدد فهي تتجاوز الحقب التاريخية وتعود اليها واحيانا تختلط عهود التاريخ الاسلامي، فالتاريخ ليس خطيا يتجه باتجاه واحد والسبب هنا ان الكاتب اختار لحظات رآها مهمة في التاريخ الاسلامي ولم يكن يقصد كتابة رواية تاريخية شاملة ولهذا السبب جاء مشروعه في خمسة اجزاء فهو يعترف بكبر حجمه وانه لم يكن يقصد سرد تاريخ الاسلام كله روائيا. وتظهر الاعمال الخمسة اهتمام الكاتب بالتفاصيل وحرصه على الاستفادة من المرجعيات التاريخية ـ الكتب والسرديات والمعالم والسياحة وزيارة المدن التي يختارها مسرحا لاعماله كي يشم عبق التاريخ فيه ويعايشه. والاعمال الخمسة تقدم تفاصيل تاريخية مهمة ونقاطاً مخفية لم تلق اهتمام الباحثين خاصة في روايته الاخيرة. ويقول انه يقرأ كل شيء يتوفر لديه عن المنطقة التي يختارها ارضا للحكاية وقد تأخذ القراءة عاما او اكثر ولكن عندما يبدأ الكتابة فقد ينهي العمل في سنة او سنتين او حتى اشهر معدودة .’ امرأة الحجر’ والكتابة عنده تأتي مكتملة وبعد الكتابة لا يهتم بالعودة او مراجعة ما كتب ومع انه كان دفاعيا عن دور المحرر لكتبه الهام في اخراجها نهائيا الا اننا قلنا ان الكاتب يكتب ما عنده في لحظة تدفق ويخرجه مكتملا اما التفاصيل الاخرى من التصحيح ووضع النقاط والفواصل، وان كانت مهمة، في اخراج الكتاب لكنها ليست مهمة في نهايته الابداعية. وفي اطار الكتابة يقول انه يبدأ عادة بخطة للشخصيات الرئيسية واطار عام للاحداث لكن اثناء الكتابة يجد نفسه في مواجهة شخصية جديدة تفرض نفسها على سياق الاحداث وتخرج من داخل السرد نفسه لتؤدي دورها.

توأم سيامي

روايات طارق علي، عن التاريخ ومنغرسة في التاريخ وهي ممتعة وتظهر كاتبا ممسكا بزمام شخوصه والاحداث التي يحكيها وفيها اطروحة لا تتحدث عن التسامح والحوار فقط ولكن عن التأثر والتأثير واعتماد كل طرف على الاخر، فوجود كل منهما مستحيل من دون الآخر اي انهما مثل ‘التوأم السيامي’، وهذه الاطروحة يتجاهلها الباحثون في اوروبا ويرفضها الاسلاميون في بلده الاصلي والعالم العربي. وربما اشرنا الى ان طارق علي يظهر وكأنه يستكشف ثقافة الاسلام وحدوده وان بدا احيانا يتحدث بلغة المؤمن الا ان مشروعه، كما اشار في مقام آخر، هو عن السبب الذي يجعل الدين عاملا مهما في حياة الناس في القرن الحالي ويعتقد ان الوضع مرتبط بفشل العلمانية القومية في العالم العربي بتقديم حلول للفقر وللتخلص من التسيد الغربي والتخلف وما الى ذلك.

المرأة كلاعب ومحرك للاحداث

في رواياته الاربع الاولى تطل المرأة كلاعبة، محركة ومسيطرة على الاحداث، وتبدو في مركز الفعل التاريخي والروائي في حالة الجغرافي الادريسي، الذي تؤدي رعاية الحاكم المسيحي له إلى حنق المؤسسة الدينية عليه، ومن هنا تظهر المرأة كلاعبة تدير الاحداث عبر الرجال ولخدمة مصالحها. ومع ان المرأة لم تكن حاضرة كما تريدها الحركة النسوية الآن أن تكون لكن كتابة طارق علي تعترف بوجود المرأة كعامل مؤثر في السلطة ومحركة للاحداث من خلف الستار او من داخل الحريم. فقد لاحظت في قصر دولمة بهجة ان جناح ام السلطان أكبر وأجمل من جناح زوجات وحريم السلطان مما يعطي صورة عن تأثير والدة السلطان في شؤون الحكم. وهو يشير الى ان اميرات وسلطانات في العالم الاسلامي حكمن. وتحدث طارق علي انه في رواياته يبرز النساء كبطلات في محاولة منه لكسر الفكرة العنصرية عن اضطهاد المرأة في المجتمعات الاسلامية. ويبدو دور المرأة واضحا في روايته الاخيرة فالحاكيات وراسمات احداثها نساء، سواء في السياق التاريخي أو الحاضر. فرواية ‘ليلة الفراشة الذهبية’ عن جيندي واليس والجدة الصينية وزوجة السلطان سليمان، وحارسته في سلطنة دالي في منطقة يونان، وعن ام دارا اليساري وزينب التي زوجها اخوتها القرآن لحرمانها من الارث ولابقاء ممتلكات العائلة في يد الابناء والرجال في الرواية وان لعبوا دورا مهما في رسم الاحداث من زاهد الطيب المعروف ودارا الروائي والناشط اليساري وأفلاطون الفنان والبوهيمي الذي يعيش حياته الخاصة.

فظائع التقسيم

واهمية الرواية الحالية انها تحاول استحضار الزمن الماضي برؤية الحاضر مركزها الاول مدينة لاهور التي يجعلك سرد الكاتب تتمنى زيارتها، وينتقل السرد من لندن وباريس الى امريكا والصين. هنا مجموعة من ابناء البرجوازية الباكستانية ومن اصول متعددة بنجابية ومهاجرة وصينية يجمعهم الولاء العقائدي للفكرة الشيوعية، ومقاعد الدراسة والحب الاول وذكريات المصيف وخيبة الحب وخيانة الاصدقاء وتفرقهم في ارجاء العالم ليجتمعوا على مفترقات طرق يتذكرون فيها جلسات المقهى وحديث الايام الاولى في لاهور. يجمع طارق علي في هذه الرواية خيوط ازمنة مغولية، وفظائع التقسيم والقتل والقتل المضاد وهي التجربة التي تشكل حياة افلاطون – محمد الناجي الوحيد من مذابح التقسيم، الاستاذ البارع في الرياضيات والفن إلى درجة ان استاذا في كامبريدج دعاه إلى الدراسة بعد ان قدم تعليقات على دراسة له، لكن افلاطون يجد في العرض مجالا للبعد عن مدينته لاهور، وعلى الرغم من قرب كل من زاهد ودارا ومحمد حنيف ( كونفوشيوس) من افلاطون الا انه ظل شخصية غامضة وسيكتشف لاحقا دارا الذي خسر حبيبته جيندي الصينية الاصل ان صديقه زاهد لم يكن هو الذي خان التنظيم بل شخص آخر هو جمشيد. ولكن دارا ظل يحمل في قلبه حب جيندي التي لم ينسها ولم تنسه هي.

الكشف عن ثورة اسلامية في الصين

لكن علاقة جيندي مع دارا تفتح له الباب امام قراءة تاريخ المسلمين في الصين، فالكاتب يكشف عن دولة اسلامية في الصين في القرن التاسع عشر، وجاء اكتشافه هذا من خلال اشارة تاريخية تقول ان سلطانا مسلما في الصين طلب مساعدة الملكة فيكتوريا في تأمين لجوئه إلى بريطانيا لكن السلطان في النهاية يختار الموت ويبتلع سما من خاتمه في طريقه للتسليم وهو في زي السلطان الكامل إلى خصمه. وبعد نهاية السلطان يتشرد سكان السلطنة في الهند وبورما وباكستان حيث جاءت عائلة جيندي الى لاهور وظلت العائلة تتناقل حكاية السلطنة شفويا خاصة ان العائلة تعود في اصولها الى عائلة السلطان المهزوم. تمثل الحكاية اكتشافا مهما من ناحية الرواية التاريخية وبالنسبة إلى كاتب يساري ففي واحد من المواقف يقول دارا ( الذي يفهم انه الكاتب نفسه مع ان طارق علي رفض المقارنة او المماهاة هنا) لوالد حنيف، كونفوشيوس، انهم كيساريين لا يعرفون عن الصين الا الثورة ( اللافت للنظر ان كتابات علي ممنوعة في الصين كما يقول) ومن داخل السرد التاريخي يلقي الكاتب اضاءة على واقع باكستان المعاصر ونخبه السياسية وتنظيمه الطبقي الاقطاعي وبالنسبة إلي فالحديث عن فتاة تتزوج القرآن لم يكن في مجال التصديق وظننت انه من خيالات الكاتب ولكن البحث اظهر وجود هذه العادة بين الاسياد او الشرفاء او اصحاب الاقطاعيات الذين لا يريدون ضياع اصولهم المالية وممتلكاتهم وتفرقها بين الغرباء. يحتفي الكاتب هنا باللغة البنجابية القادرة على تمرير الفاحش والساخر والاصالة فوق اللغة المصطنعة ‘الاردو ـ لغة الجيش’. تختزن الرواية الكثير من جماليات اللغة والتاريخ وتحتفي بالرائحة والصوت والشعر والفن، فالكاتب يخصص في نهاية الرواية اكثر من ثلاث صفحات لوصف لوحة افلاطون الاخيرة التي رسمها قبل وفاته. وفي الحفل الاخير يجتمع من فرقهم الزمن حول ذكرى هذا الشخص الاشكالي الذي اصيب بالعنّة بسبب ما شاهده من فظائع التقسيم وظلت علاقته مع كل النساء اللاتي التقاهن افلاطونية مثل اسمه.

المنفى: رواية ووفاء الدين

والجدير بالذكر ان الرواية هي دين على كاتبها لانه في شبابه طلب من صديقه افلاطون مساعدته في ترتيب لقاء مع حبيبة الشباب جيندي عندما كانوا في المصيف واشترط افلاطون ان يحدد طبيعة الثمن فيما بعد. وجاء الطلب بعد اعوام من الانتقال والفراق بين ابطال الرواية على شكل رواية طلب افلاطون من صديقه دارا كتابتها عن حياته وحياته فقط ولكن كاتبنا لم يكن قادرا على كتابة الرواية من دون النظر إلى الظروف التي شكلت الصداقة وحياة افلاطون نفسه. فجاءت كما هي مليئة بالتفاصيل والحديث عن الازياء ورنة اللغة في الاذن ووقع الموسيقى ومهرجانات الشعر ‘مشاهر’ ورائحة الطعام الجميل ( ربما يعكس هذا موقفه من الطعام الانكليزي الذي تذوقه عندما وصل الى اوكسفورد في الستينيات من القرن الماضي) وفوق كل هذا استعادة لتاريخ المنطقة وتشكيلاتها الثقافية وفساد النخب الحاكمة والطبقات واثار الحرب. ومثل اخواتها من الروايات السابقة فالرواية وان تعاملت مع الذاكرة وقضايا التسامح والتعايش، الحرب والسلم، والحب والفقدان الا انها معنية بفكرة المنفى والرحيل مع أن علي يقول انه عندما جاء الى اوكسفورد ودرس في كلية اكستر الحقوق في الفترة ما بين 1963 – 1966 لم يشعر بصدمة ثقافية فالحياة في المدينة التعليمية لم تكن تختلف عن باكستان ( طبعا بالنسبة له) فهو كان قد درس في مدارس خاصة وتعلم في المؤسسات التي انشأتها المؤسسة الاستعمارية البريطانية حيث ولد طارق علي في الايام الاخيرة من استعمار بريطانيا لشبه القارة الهندية ( عام 1943).

غيفارا بطله ومثاله واعجاب بمالكوم اكس

في اوكسفورد وجد في الحياة الثقافية والنشاط مجالا له فاصبح ناشطا في نادي العمال، او مجموعات حزب العمال، ولكن ما اعجبه اكثر هو الجماعات ذات التوجه الانساني التي كانت ترفع شعار ‘موت الله’، وكانت الفكرة جذابة له خاصة عندما قيلت في المجال العام. لنتذكر ان علي هو ابن ثقافة الستينيات والتمرد وجيله الغاضب والخارج عن القيم والمثل المؤسسة في المجتمع والدين، ولهذا نجده وهو الرافض لكل ما يمثل المؤسسة يجد نماذجه في الثوريين فهو وجد الهامه في تشي غيفارا الذي عرف عن اغتياله من قبل فرقة الموت البوليفية عام 1967 من صديقه ريتشارد غوت، ويعتبر امثولته وبطله واعجابه بالمناضل المسلم مالكوم اكس ( مالك الشهباز) الذي اغتيل في نيويورك عام 1965 ينبع من كون مالكوم معجبا بالثورة الكوبية. وقد قابل طارق علي المناضل المسلم في نقاش في جامعة اوكسفورد. كان علي قد حضر مثل بطل روايته دارا الهارب من النظام العسكري في باكستان الى بريطانيا بعد ان اصبحت نشاطاته ضد نظام ايوب خان خطرا عليه فنصح ضابط او جنرال في الجيش قريب من العائلة والده بإرساله إلى الخارج للدراسة ولإبعاده عن المشاكل. وهو يعيش في بريطانيا منذئذ. الحديث مع طارق علي يكشف عن حياة جيل من الصداقات والحياة في قلب الاحتجاج والحلم بالثورة والتغيير والغريب انه وكل الثوريين نسوا ان بريطانيا التي ولدت فيها الحركة اليسارية والفكر الماركسي لم تتحول إلى دولة ماركسية، وبريطانيا معروفة باختراع الموضات ولكنها لا تستطيع الاحتفاظ بها، الكرة والتنس والركبي والكريكيت كلها العاب انكليزية لكن الانكليز ليسوا مبرزين فيها، والثورة ليست استثناء، ومع ذلك حصل طارق علي على تكريم من ميك جاغر الذي اطلق على نشيد ‘رولينغ ستونز’ اسم ‘رجل قتال الشوارع’ كتكريم له وبادله كاتبنا التكريم عندما اطلق اسم ‘سنوات قتال الشوارع’ على مذكراته.

رشدي والنجومية واوباما والامبريالية

مع التقدم في السن يزداد الثوريون حكمة ويميلون إلى قراءة الماضي والعودة اليه، فهم وان ظلوا يحنون إلى الثورة يعترفون ان الزمن يقهر الاقوياء، ونبرة الحكمة واضحة في حديث طارق علي لكنها حكمة ممزوجة، احيانا، بالغضب عندما يتحدث عن ‘بلير وعصابته’ من جماعة العمال الجدد، والمرارة من اصدقاء غيروا مواقعهم، كريستوفر هيتشنز، او سلمان رشدي الذي يرى ان آية الله الخميني بفتواه قتل ابداعيته الروائية فيما صدق رشدي حياة النجومية التي عاش فيها مما انهى ابداعيته فبعد ‘اطفال منتصف الليل’ و ‘عار’ لم يقدم رشدي جديداً. وقد تناول رشدي في كتابه ‘بروتوكولات حكماء سدوم’ وهو مجموعة مقالات صدرت العام الماضي فيها نقد وشجب ونعي وتكريم اصدقاء راحلين له مثل سعيد وعبدالرحمن منيف وفيها من الرحلة والاستعادة. وبعد ان ودعناه سألناه عن مشروعه القادم فقال انه يعمل على كتاب صغير الحجم عن باراك اوباما، اول رئيس اسود لامريكا. والكتاب عن حياة وشباب اوباما وفيه اعتراف بأن الرئيس ذكي وخطيب بارع لكنه يظل رئيسا امبرياليا وجزءاً من آلة الحزب الديمقراطي التي لن يستطيع الخروج من سطوتها، وما هو الا وجه ولكن بلون مختلف الان للامبريالية الامريكية، أما عن خماسيته، فلم يغلق الباب امام العودة اليها ولكن في الوقت الحالي تمت الخماسية. وقد يعود اليها مع انه جاء للرواية من الكتابة السياسية متأخرا مثل عبدالرحمن منيف، وفي حالة طارق علي فقد تنبأ في رسالة إلى جدته انه سيكتب، يوما ما، رواية. وفعلا كتب روايات وليس رواية واحدة.
ناقد من اسرة ‘القدس العربي’

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى