صفحات الحوار

لقاء خاص مع المفكر الاقتصادي الدكتور عارف دليلة

null
كمال شيخو – كلنا شركاء
ما زال يتذكر ذاك اليوم, بعد خروجه من الامتحان الأخير للسنة الأولى, في كلية التجارة بجامعة دمشق في نهاية يونيو عام 1963، وقبل سفره إلى أهله في اللاذقية، خطر بباله أن يمر على المصرف التجاري السوري, ويسأل عن أخبار المسابقة التي تقدم إليها من بين 400 متقدم, إلى وظيفة كان المصرف قد أعلن عنها قبل ستة أشهر. الوظيفة كانت أمله الوحيد في متابعة دراسته الجامعية نظراً لوضعه المادي السيئ آنذاك.

دخل إلى غرفة مدير المصرف وسأله: ما هي أخبار المسابقة التي تقدمنا إليها؟ نظر إليه المدير وسأله: ما أسمك ؟ فأجاب: عارف دليلة. قال المدير فورا: أين أنت يا رجل؟ ونحن نبحث عنك فأجاب: أنا هنا في دمشق، ادرس في كلية التجارة. طلب منه المدير الجلوس قائلاً: لقد صدرت النتائج، وكنت الأول من بين الناجحين, ولا نستطيع تعيين أحد قبلك. سأوقع قرار تعيينك الآن وبما أنك من اللاذقية فسأعينك هناك، وهذا أسهل وأوفر عليك. أجاب وقتها الدكتور عارف: ولكني ادرس في جامعة دمشق وأرغب التعيين هنا. فرد عليه مدير المصرف: أنت تأمر، فحسب نظام البنك، الأول في المسابقة هو الذي يختار مكان تعيينه.
رشح الدكتور عارف نفسه للانتخابات البرلمانية عن دائرة دمشق, نهاية العام 1998 واصدر بيانا انتخابيا حمل العنوان (الإصلاح التشريعي والإداري والاقتصادي المهمة الملحة لمجلس الشعب القادم) والذي أسماه “بيان النقاط العشرة” التي تضمنت الإصلاحات الشاملة المطلوبة لبدء مسيرة النهوض والتجديد, ولكن كما يقول د.عارف بعد الانتخابات في حوار مباشر على الهواء أجرته إذاعة مونت كارلو بينه وبين الأمين العام الحالي للحزب الشيوعي الأستاذ يوسف فيصل: “لم أرشح نفسي لكي أصبح عضواً في مجلس الشعب لأنني كنت واثقاً لو ان الشعب الصيني انتخبني بالإجماع؛ فلن أصبح عضواً وإنما رشحت نفسي لكي استفيد من الفرصة التي يتيحها لي القانون لأقول آرائي في الشؤون العامة خلال شهر الانتخابات”
ففي شهادة لعضو مجلس الشعب السابق, النائب رياض سيف, وكان أحد السجناء العشرة الذين اعتقلوا على خلفية ما سمي (ربيع دمشق) في أيلول 2001 وحكم عليه وقتها بالسجن 5 سنوات. يقول النائب سيف في شهادة عن د.عارف:” عارف كما عرفته عندما أفكر في عارف لا يمكنني إلا ان أتذكر تجربته الفريدة في انتخابات مجلس الشعب نهاية العام 1998 حينما أعلمني عن عزمه الاستفادة من تلك المناسبة لمخاطبة شرائح أوسع من المجتمع السوري عبر إصدار بيان انتخابي يعبر عن برنامجه السياسي والاقتصادي” الشهادة المذكورة نشرتها جريدة المستقبل اللبنانية بتاريخ 23\9\2007 من بين مجموعة شهادات أخرى في الذكرى السادسة لسجن الدكتور دليلة.
(كلنا شركاء) انفردت في لقاء خاص مع د.عارف دليلة الذي يعيش في منزله بدمشق, (ومازال مصروفاً من الخدمة بجامعة دمشق منذ أكثر من اثنتي عشر عاماً, كأستاذ جامعي, يدرس في كلية الاقتصاد, وحاليا ممنوعا من السفر رغم حاجته الماسة للعلاج في الخارج ومحروماً من كافة سبل العيش) للإطلاع على آرائه كباحث ومفكر اقتصادي, لنتعرف من خلاله على وضع الاقتصاد السوري, وأهم المعضلات التي تواجهه في ظل الأزمة المالية العالمية والأزمة الاقتصادية المحلية, وتأثيراتها على الاقتصاد والمجتمع وبالتالي على الإصلاح المطلوب. وبعد الإفراج عنه؛ قال د.عارف بعد إخلاء سبيله بساعات: ” لقد عدت إلى الحياة من جديد” بعد أن وصلت صحته إلى الحضيض مرات عديدة خلال السنوات السبع التي قضاها في السجن الانفرادي.
(كلنا شركاء) تبنت الخطة الخمسية العاشرة التي تنتهي هذا العام “سياسة اقتصاد السوق الاجتماعي” الى أي درجة برأيكم نجحت سياسات هذه الخطة؟
د.عارف: لقد انتهت الخطة الخمسية العاشرة وجميع محاضرات ندوة الثلاثاء الاقتصادية لهذا العام على اختلاف محاضريها؛ تكاد تنطق بلسان واحد تبين أن الوقائع المتحققة على الأرض هي خلاف كل ما جاءت به الخطة من أهداف، فالفقر والبطالة والأمية والهجرة الداخلية والخارجية والأجور الحقيقية ومستوى المعيشة العام، حتى معدلات التنمية المحسوبة رسمياً كانت كلها خلاف ما تضمنته الخطة. ولم يسجل أي مؤشر منها أي تحسن، وعندما سمعت عبر الراديو وأنا في زنزانتي الانفرادية تبني المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث شعار “اقتصاد السوق الاجتماعي” توجست شراً. وأدهشني شيوع مصطلح جديد في كتابات وعلى لسان الكثيرين من المنتقدين للسياسات الاقتصادية السائدة وهو – الفريق الاقتصادي- الذي يحملونه كامل المسئوليات عن( جر سوريا الى الكارثة) كما يقولون, وكأنهم بغير وعي أحيانا وعن وعي كامل في معظم الأحيان يعملون على التعتيم على الأسباب الحقيقية المسببة للانكماش السائد, وكان ( الكارثة) لم تبدأ ألا مع ظهور هذا ( الفريق الاقتصادي) وكأن أسلافه كانوا يصنعون من سوريا النموذج الأفضل في العالم, وكان كل ما قالته ندوة الثلاثاء عن سياساتهم وممارساتهم على مدى عقود سابقة لم يكن ألا تجن وكذب, وتحامل مغرض بدليل الوقائع الحالية!

وقد نبهت أثناء مداخلاتي الى هذه المغالطة التي تستخف بعقولنا, وتمنيت من ذوي النظرة العلمية السليمة عدم تكرار هذا المصطلح لا في القول ولا في الكتابة, طالما أن ما يجري حاليا ليس بجديد بل هو استمرار لما سبق بكامل الوعي والإصرار.
والآن نعيش موسم الترويج للخطة الخمسية الحادية عشرة, لنقرا ان الدخل القومي سيصبح 85 مليار دولار عام 2015. ( من حوالي 50 مليار دولار في العام 2009) كما يدعون! وان استثمارات هذه الخطة ستبلغ 100 مليار دولار, وسيترافق ذلك كله مع انخفاض الفقر والبطالة وتحسن في مختلف المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية وبقدر ما يتمنى المرء ذلك من كل قلبه بقدر ما تثور التساؤلات الجدية: من أين؟! ما دام هجوم الخواص يزداد كثافة على الأملاك والحقوق العامة للدولة والشعب, من الأراضي والعقارات في المدن الكبرى والشواطئ ورؤوس الأموال والسيولات في القطاع العام والتأمينات الاجتماعية والودائع في المصارف الحكومية, واحتياطات النقد الأجنبي, ففي عدة مداخلات لي في ندوة الثلاثاء الاقتصادي لهذا العام تساءلت: قبل عشر سنوات كنا نتخوف من ارتفاع مديونية الحكومة للمصارف العامة الى أكثر من 200 مليار ليرة سورية, وكان البعض يتفاخر بان الدولة تملك ما يزيد عن 15 مليار دولار من الاحتياطيات الأجنبية, ثم لاحقا, ومع تسوية الديون السوفيتية وغيرها سمعنا من المسئولين ان سورية أصبحت اقل دول العالم مديونية خارجية. والآن نقرأ في المجموعة الإحصائية ان ديون الحكومة من المصارف فقط حتى عام 2008؛ بلغت أكثر من 600 مليار ليرة سورية, وان الاحتياطيات الأجنبية تتبخر وان الديون الخارجية قد ارتفعت حسب تصريح لوزير المالية الى 5,5 مليار دولار. وقد يكون ها الرقم ارتفع أكثر. هذا كله الى جانب الارتفاع الكبير في عجز الموازنة العامة رغم رفع الدعم الحكومي عن الوقود والأسمدة وغيرها من المواد, وكذلك التصاعد السريع في عجز الميزان التجاري والذي بلغ حسب تصريح لوزير الاقتصاد في العام 2009, (132) مليار ليرة سورية.
وما دامت سياسات التفريط بالموارد السيادية للدولة وباعترافات رسمية من الجمارك والضرائب مستمرة ومادامت سياسة التنازل عن حقوق الدولة في الهاتف المحمول, الذي جرى الترويج له في البداية باعتباره نهر الذهب الذي سينهمر على الميزانية الحكومية وباعتباره سيحل محل النفط الناضب في السنوات القادمة ويغطي الدعم الحكومي للفئات الفقيرة؛ ولكنه للأسف أصبحت السرقة الأكبر في تاريخ سوريا, لمال الدولة والمواطن, مادام ذلك كله مستمر ومتصاعد فكيف سنتفاءل بالخطة الخمسية القادمة؟
(كلنا شركاء) في دراستك ( القطاع العام من الحماية الى المنافسة ) قلت فيها” أن القطاع العام ضرورة ووسيلة لتحقيق الرفاه والأمان للعاملين فيه ولأبنائهم, ولا يتحقق كل ذلك بغيابه ” هل مازلت متمسكا بوجهة نظرك هذه؛ ولماذا؟
د.عارف: كنت ومازلت ادعوا للتحفظ على المواقف الإعلانية التي تؤكد التمسك بالقطاع العام والدفاع عنه, ومعارضة التخصيص والتي لا تتجاوز نظرتها الى القطاع العام الشكل الحقوقي وهو الملكية الحكومية, بل وأحيانا من اجل التستر على عمليات تجريف القطاع العام من الداخل, أو نقل رؤوس أمواله ونواتج العاملين فيه, الى جيوب مافيات الفساد لنهب القطاع العام. وكنت خلال بحوثي اكشف عما تحتويه السياسات المخادعة التي اسميتها (التخصيص الضمني) عندما تساعد على نقل الثروة الوطنية إلى جيوب خاصة محددة. وقد أسماها الدكتور عابد فضليه في محاضرة له في ندوة الثلاثاء الاقتصادي لهذا العام (الخصخصة الصامتة) وقد تحالفت على هذه الخصخصة وزارة المالية والجهات الإدارية في القطاع العام, فالأولى كانت تسحب سيولات القطاع العام المتمثلة باحتياطيات الاستهلاك التي كان يجب في الأصل أن تستخدم لتجديد وسائل الإنتاج؛ إضافة إلى الأرباح بما في ذلك حصة العمال من الأرباح المنصوص عليها بالقوانين والتي أوقفت بشكل تعسفي، وبالتالي منع القطاع العام من مواكبة التجديد والاحتفاظ بالقدرة التنافسية للمنتجات من حيث الكلفة والنوعية، وكانت الإدارات التي تختار من فئة الموثقين بهم وهم غالباً ليسوا إل( ثقاة) وإنما المجربين في إرضاء الذات وإرضاء الداعمين على حساب أموال القطاع العام أي الذين يضعون المصالح الخاصة فوق القوانين والمصالح العامة ومصالح العاملين في القطاع العام وصولاً بالقطاع العام إلى “كومة من الخردة المعدنية والبشرية” كما كنت احذر خلال الثمانينات والتسعينيات من القرن الماضي.
ففي دراستي التي أشرت أليها, قلت:” وما شهده القطاع العام خلال السنوات الأخيرة؛ ضآلة نسبة استهلاك رأس المال الثابت في الناتج المحلي الإجمالي وتبلغ 2% فقط (وبالقيمة بأسعار 1995 الثابتة بلغ التكوين الرأسمالي في الاقتصاد الوطني 155 مليار ل.س. منها 58 مليار ل.س. فقط استهلاك آلات وتجهيزات) وذلك لعام 1997 وهو مؤشر من مؤشرات الاقتصاديات المتخلفة والذي يعكس ضعف القاعدة المادية-التقنية للإنتاج، وضعف الادخار القابل للاستثمار. كما يشير إلى ذهاب الاستثمارات الجديدة إلى المشروعات الجديدة وإهمال تجديد رأس المال الثابت في المشروعات القائمة، مما أدى إلى انخفاض الإنتاجية وارتفاع تكاليف الإنتاج وتدهور القدرة التنافسية في جانبي السعر والنوعية للإنتاج الوطني. وكان نصيب القطاع العام في الإنتاج الصناعي بالأسعار الجارية قد تضاعف ما بين عامي 1985-1996 بمقدار 8.13 مرة، بينما تضاعف نصيب القطاع الخاص 13.15 مرة”
(كلنا شركاء) في آخر محاضرة قبل أسبوع من اعتقالكم “الاقتصاد السوري المشكلات والحلول” التي ألقيتها في منتدى الاتاسي بتاريخ 2-9-2001, قلت فيها:” لدى السوريين في الخارج ما يزيد عن 100 مليار دولار” ما سر هذه الأموال؟
د.عارف: استذكر هنا بأسى؛ غباء الأسئلة التي وجهت لي في التحقيق, والتي أصبحت جرائم محددة مسبقا من بين هذه التهم التي وجهت لي” نشر أخبار كاذبة” ووجه لي في أحدى الأسئلة: “انك تقول في المحاضرات ان للسوريين في الخارج أموال تقدر ب 100 مليار دولار ولا تملك دليلا على صحة هذا الرقم, اي انك تنشر أخبارا كاذبة وتوهن نفسية الآمة زمن الحرب؟”
أجبت على هذا السؤال بالتالي: ” انا اقتصادي ولا احتاج الى مصادر سرية للمعومات علما بان هذا الرقم نشر في الجرائد الحكومية مرات عديدة. يكفي ان أقول ان السلطات الرسمية تقول ان الدخل القومي ينمو بنسبة كذا وكذا, بينما الأجور الحقيقية ومستوى المعيشة ينخفض بنسبة كذا وكذا لاستنتج بان هذه الزبدة لم تصل الى الشعب وإنما كانت تشفط وتقشط وتهرب الى الخارج ولقد برهنت على ذلك من خلال المحاضرات”
ثم قرأت لاحقا وأنا في السجن ثلاث تصريحات لوزير الاقتصاد الجديد آنذاك نشرتها الجرائد الحكومية على مدى سنتين. حيث يقول وزير الاقتصاد في تصريحه الأول: ” ان لدى السوريين في الخارج ما يزيد عن 70 مليار دولار, ثم يقول في تصريحه الثاني:” ان للسورين أموال في الخارج تتراوح بين 80-120 مليار دولار, اما في تصريحه الثالث:” ان لدى السوريين في الخارج أموال تتراوح بين 120-180 مليار دولار” ولا ادري لو بقي هذا الوزير سنوات أخرى فهل كنا سنسمع منه ان لدى السوريين في الخارج أموال تتراوح بين 180-250 مليار دولار وربما أكثر؟! وبالأخص وان السيد الوزير كان مستشارا للبنك الدولي لمدة 30 عاما, ويعرف أكثر من غيره هذه المسألة مما دعاني الى تذكيرهم في السجن بان (الأخبار الكاذبة) مازالت تتضخم ولكن هذه المرة على لسان وزير في الحكومة وليس على لساني انا السجين, وعلى كل حال فقد نشرت جريدة تشرين بعد 6 أشهر من اعتقالي على صفحتها الأولى وبالخط العريض في عددين في 9 و10-3-2002, بمناسبة الذكرى الثامن من آذار لعام 1963 مقالا لكاتب صحفي لبناني:” ان لدى السوريين في لبنان ما يزيد عن 17 مليار دولار, وفي الأردن 4 مليار دولار, وفي تركيا 2 مليار دولار, وفي قبرص ودول أخرى أكثر من ذلك بكثير.
(كلنا شركاء) يكثر الحديث هذه الأيام عن وعود للإصلاح مع توقع قرب انعقاد المؤتمر القطري الحادي عشر لحزب البعث الحاكم, ونسمع عن قرب اتخاذ إجراءات سياسية واقتصادية لتحسين ألأوضاع العامة في البلاد. الى اي مدى لديكم ثقة بتحقيق هذه الوعود وتوقعاتها؟
د.عارف: هل هناك من لا يتمنى الخير لبلاده, كم تمنيت ذلك وانا اسمع في زنزانتي الانفرادية عام 2005 المؤتمر الصحفي اليومي عن نتائج أعمال المؤتمر القطري العاشر, من يرجع الى مقررات ذلك المؤتمر والى تلك المؤتمرات الصحفية لا بد ان يكتشف بدون اي عناء ان كلمة واحدة مما أعلن لم تجد طريقها الى التطبيق, بل ان ما جرى في السنوات الخمس التي تلت ذلك المؤتمر هو تماما عكس ما قيل. حيث قرأت تمهيدا للمؤتمر ان تحقيقا اجري لمعرفة عدد الجهات التي يحتاج اي مواطن لتوقيعها لإقامة ابسط نشاط مثل حلاق او بياع فلافل, فبلغت تلك التوقيعات المطلوبة 67 توقيعا, وتفاءل المواطنون بأنهم سيتحررون من هذه التواقيع ومن سطوة وابتزاز أصحابها بعد هذا المؤتمر.
لكن ما حدث لاحقا هو ان القضايا التي تتطلب تواقيع جديدة تكاثرت وتكاثر عدد الجهات التي يجب مراجعتها سرا وعلنا, وقد قيل ان المؤتمر كلف القيادة القطرية لمتابعة تطبيق قراراته كل ثلاثة أشهر, والآن نتساءل من الذي كان يتابع وأي شيء كان يتابع؟ وقبيل المؤتمر قرأت في جريدة الثورة أراء لبعض المستقلين المعارضين وتمنياتهم على المؤتمر ورأيت صورة كبيرة للأستاذ ميشيل كيلو, وصورة كبيرة أخرى للأستاذ حسن عبد العظيم يزيد حجم كل منها عن مساحة الكلام المنشور على لسانهما, ويعد الاثنان من رجال المعارضة العلنية, وجرى الترويج لقرب إصدار قانون للأحزاب وان كان احد البعثيين قد وصفه آنذاك بأنه قانون مضاد للأحزاب, وتمنى عدم صدوره. حتى أنهم أوحوا لاحقا لأحد المعارضين الأستاذ حسين العودات بان يلغي محاضرة في منتدى الاتاسي لمناقشة مشروع القانون وكأنه سيصدر غدا. الآن وبعد خمس سنوات الجميع يعلم ان ميشيل كيلو قضى حوالي ثلاث سنوات في السجن وحرم حتى من حقه القانوني من أخلاء سبيله قبل انتهاء مدة الحكم بربع المدة.
اما قانون الأحزاب فلم نسمع خلال السنوات الخمس الا التصريحات الرسمية بان أصدارة ليس بالوارد, ذلك لان السلطة تتأكد أكثر فأكثر بان سورية لا تحتاج الا الى أصلاح اقتصادي لأنها غير ناضجة لاي أصلاح سياسي, فالخبز أولى من الثرثرة!!
اما بشان الحصاد السلبي جدا في الإصلاح الاقتصادي الذي ترافق بالإصرار على استبعاد الإصلاح السياسي فقد تحدثت عنه, وتحدث عنه جميع المشاركين في ندوة الثلاثاء الاقتصادي السنوية التي انتهت مؤخرا, واختصر الجواب على السؤال, بشان الخطة الخمسية الحادية عشرة القادمة, وهو: ما الذي تغير حتى تكون السنوات القادمة أفضل من السنوات السابقة؛ او حتى نتوقع من الكلام الذي سنسمعه ونقرأه من الان حتى انتهاء المؤتمر الميمون غير ما حدث للكلام الذي قرأناه وسمعناه بمناسبة المؤتمر العاشر السابق.
وعلى كل حال سنبقى نتفاءل بالخير علنا نجده دون ان ننسى الحكمة القائلة” ان المستأثر بالشيء لا يعطيه” والتي تخص فقط السلطات التي تؤكد بمناسبة وبغيرها ان شعوبها غير مؤهله للتنطع لإدارة شؤونها وللبرهان على ذلك فهي لا تفـتأ تعمل ليل نهار وبجميع الوسائل على استئصال كل (من يبدو على وجهه الضوء) حتى “تنظف” الوطن من أمثالهم سواء بالسجن او بالترهيب من السجن او منعهم من السفر, او عن طريق سياسية التهجير القسري, او بالتكتيم والتعتيم وهذا أحسن الأحوال, وذلك عملا بالقاعدة البوشية “اما أنا او أنت, ومن ليس معنا فهو ضدنا” وهذا يعني عربيا اما السلطة او الشعب. فبلاد العرب أوطاني لم تعد تتسع للاثنين معا.
(كلنا شركاء) أثناء تدريسك بكلية الاقتصاد بجامعة حلب, كنت تنظم نشاطاً أسبوعيا في الكلية أسميته “ندوة الأربعاء الاقتصادية ” ماذا تحدثنا عن هذه الندوة؟
د.عارف: ندوة الأربعاء الاقتصادية, كانت تنظم بشكل أسبوعي في الكلية, وكان يشارك فيها مسؤولون في المحافظة وأساتذة الكلية, وكانت الدعوة مفتوحة يشارك فيها طلبة الكلية والجامعة وحتى ومواطنون من خارج الجامعة. وكانت النقاشات فيها حرة ومفتوحة, وان اقتصار الأستاذ الجامعي على إلقاء الدروس على الطلبة يحول الجامعة إلى مدرسة تقليدية ويفصل الجامعة عن المجتمع. وبرأيي تكمن في ذلك المشكلة الأكبر للجامعات العربية ولكن هذه الشكل هو ما تحرص عليه الأنظمة السياسية خوفاً من شيوع التحرر الفكري والاهتمام بالشأن العام, ولعل هذا أحد أهم أسباب غياب البحث العلمي في الجامعات العربية وبالتالي عدم دخول اي جامعة عربية واحدة في قائمة 500 جامعة الأولى في العالم. وان أساتذة الاقتصاد في الجامعات من أكثر المساهمين في نقاش الأوضاع العامة والسياسات الاقتصادية وهم الأكثر تأثيرا في معظم دول العالم وفي وسائل الإعلام عدا في جامعاتنا العربية فإنهم آخر المؤثرين إن كانوا يؤثرون في شيء أصلاً.
(كلنا شركاء) حسب المحاضرة الأخيرة في ندوة الثلاثاء التي ألقاها المدير السابق لمكتب الاستثمار الدكتور مصطفى عبد الله الكفري, بلغ حجم الرأس المال الأجنبي المباشر المستثمر في سوريا حوالي مليار ونصف مليار دولار فقط, رغم كل القوانين والتشريعات المسهلة لاستثمار هذا الرأسمال, ما هي المعوقات التي تقف في وجه تدفق هذا الاستثمار الى سوريا؟
د.عارف: كما تقول المحاضرة ان حوالي 500 مليون دولار من 1,5 مليار دولار, من مجموع الاستثمار الأجنبي تعود وبشكل أساسي لمستثمرين سوريين وتتركز في قطاع الخدمات, وبشكل أساسي في قطاع الاتصالات ( الخليوي) والحقيقة ان هذه الأموال هي ليرات سورية مأخوذة من جيوب المواطنين وتزيد الإرباح السنوية لهذه الاستثمارات على عشرة إضعاف رأس المال( المسحوب أصلا من جيوب المواطنين) واعتقد ان بيل غيتس الذي غطى الكرة الأرضية ببرامجه الكمبيوترية العبقرية ليجمع ثروته خلال أكثر من 35 عاما, ويصبح أغنى رجل في العالم؛ قد يفقد صوابه لو سمع بنسبة الإرباح التي تحققها هكذا استثمارات في سورية.
لقد خضت معارك فكرية واقتصادية ضد ما يسمى” سياسات تشجيع الاستثمار” في سورية في التسعينات نظرا للممارسات التي خرقت وخالفت حتى قانون تشجيع الاستثمار ( رقم10) البائس للعام 1991, فقد أدت الممارسات الفاسدة الى حرمان الخزينة من عوائد الجمارك والضرائب مع هدر كبير في الأموال في استثمارات طفيلية غير منتجة وإخراج هائل للأموال والثروات بدل إدخالها من الخارج للداخل, بينما سمعت إذاعة دمشق وإنا في السجن تقول: ” ان متوسط ما يدفعه رأس المال الأجنبي المستثمر في تركيا من الضرائب على أرباحه 27%” والآن بعد حوالي عقدين من السياسات التفريطية نجد ان حصيلة الاستثمارات الأجنبية اقل بكثير مما كان يمكن ان يتحقق لو لم تتبع هذه السياسات التفريطية ( الإعفاءات من الجمارك والضرائب والسماح باستيراد مستلزمات يمكن بيعها في السوق الداخلية وتحقيق إرباح تزيد عن رأس المال المخطط استثماره وغيرها كثير)
ففي الصين مثلا ورغم نظام حكم الحزب الواحد؛ والذي يفتقر الى الكثير من شروط الديمقراطية السياسية, فإنها نجحت في التحول الى البلد الأكثر جذبا للاستثمار الأجنبي والأعلى نموا في العالم وصاحب الفوائض الأكثر يقف في طليعة الاستثمار أموال الصينيين المهاجرين وبالمقابل يتخذ الحزب الحاكم أقصى العقوبات ضد المتورطين في الفساد من أعضاء وقيادات حزبه, فالنظام الصيني يقايض الليبرالية السياسية بالنزاهة.
(كلنا شركاء) شهدت سوريا انفتاحا عربيا ودوليا في الآونة الأخيرة, ما هي الآثار المحتملة لهذا الانفتاح على الداخل؟
د.عارف: نرحب بالانفتاح العربي والدولي على سوريا. ونتمنى أن تكون لسوريا مكانة هامة في النظام الدولي وعلاقات إقليمية ودولية مميزة, فنحن لسنا من أنصار أن تنعكس السياسات الدولية بشكل سلبي على الشعب السوري. ولكن من المفترض أن هذا التطبيع يبدأ من الداخل الى جانب تطبيع العلاقات مع النظام الدولي, ولكن النظام الحاكم في سوريا قام بتطبيع علاقاته مع الأسرة الدولية ولم يغير سياساته تجاه الداخل, مع تزايد تدهور حقوق المواطنين. فحقوق المواطن اشمل من حقوق الإنسان, لان حقوق المواطن يتضمن حقوقه في نصيب عادل من الثروة الوطنية في دولته, وهذا ما لم تشر أليه مواثيق حقوق الإنسان. نريد من النظام الحاكم تطبيع علاقاته مع الداخل والاعتراف بالمعارضة الوطنية التي من حقها أن تتساوى مع الموالاة في الحكم, وان يكون لكل مواطن سوري حقوق متساوية سواء كان في الموالاة أو في المعارضة, وعدم التمييز بينهم.
وان الذين يتحدثون فرحا او تفاخرا عن عدم وجود معارضة في سوريا؛ أو أنها فرطت ولم يتبق منها شيء؛ كأنهم يقولون أن سوريا غير قابلة للتطور والتقدم, فالخروج من حالة الفقر والنهوض لأي دولة هو مشروع يتطلب مشاركة المعارضة مع الموالاة في أدارة الدولة, فيجب أن يكون الهم الأول للسلطة أعطاء المعارضة كامل حقوقها. وهذا هو ما حقق التقدم الذي تعيشه الدول الديمقراطية.
(كلنا شركاء) تعتقل السلطة كل فترة مواطنين مهتمين بالشأن العام, لأسباب مختلفة, ثم تحيلهم الى المحاكم؛ وغالبا ما يصدر بحقهم بعد أشهر أحكام بالسجن لسنوات متعددة, هل برأيكم هي استمرار للسياسات الاستثنائية؟
د.عارف: ان الدولة التي ليس فيها اختلافات في الرأي, كما تعتقد سلطتها الحاكمة, هي دولة غير طبيعية, او غير موجودة على هذه الأرض, ولكن اذا اعتقدت السلطة التنفيذية ان اختلاف المواطنين معها قد تحول الى اضرار بالنظام العام؛ فمن الطبيعي ان تحتكم الى السلطة القضائية, شرط وجود سلطة قضائية تتوفر فيها المعايير المعترف بها للتقاضي. وعندها ومادام الاختلاف يدور حول الشأن العام ويمارس سلميا وعلنيا من قبل المواطنين, فلماذا لا يحاكم المواطن طليقا اذا؛ في محكمة علنية مفتوحة للإعلام وللناس ويتمتع فيه المعتقل بكل حقوق المواطن البريء حتى تثبت أدانته, ولماذا بدلا من ذلك يعتقل لأشهر طويلة ويخضع خلالها لأسوأ أشكال المعاملة, ليقدم بعدها الى “مقصلة مغلقة, صامته, كاتمة للصوت” لا لتحاكمه, بل لتقرأ عليه حكما مسبقا, ما أنزل الله به من سلطان؟
لقد أثبتت التجارب ان قانون الطوارئ والمحاكم الاستثنائية استخدمت للحيلولة دون قيام دولة الحق, كما استخدمت بشكل أساسي في قمع أعداء الفساد والاستبداد, ولهذا لا يمكن لسوريا ان تخطو خطوة واحدة الى دخول العصر قبل إلغاء قانون الطوارئ والمحاكم الاستثنائية, والعودة للحياة السياسية الطبيعية الكاملة والحرية المصونة على قدم المساواة لمختلف المواطنين, ما داموا يمارسون واجبهم في المشاركة في الشأن العام بالأساليب السلمية والعلنية.( انتهى الحديث مع الدكتور عارف دليلة)
جدير ذكره, ان الدكتور عارف دليلة من مواليد محافظة اللاذقية عام 1943, تخرج من كلية الاقتصاد بجامعة دمشق في العام1966- 1967, وحصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة موسكو (لومانوسوف) عام 1972, وعمل مدرسا في جامعة حلب من العام 1972 حتى العام 1981, ثم انتقل الى التدريس في جامعة دمشق, الى ان شغل منصب عمادة الكلية بين عامي 1988-1990, حتى صرف عن الخدمة في 28/03/1998 بقرار صادر من رئيس مجلس الوزراء بشكل تعسفي على حد تعبيره.
اختير مستشارا اقتصاديا في الكويت بين الأعوام 1981-1986 في المعهد العربي للتخطيط ثم وزارة الصناعة والنفط الكويتية، له العديد من المؤلفات والأبحاث والمقالات في الاقتصاد الدولي والعربي والسوري, وفي القضايا السياسية.
اعتقل الدكتور دليلة في 9-9-2001, على خلفية نشاطاته العلمية والمدنية, مع مجموعة من المثقفين السورين أطلق عليهم ( ربيع دمشق) اعتقاله كان قبل ثمان وأربعين ساعة من أحداث أيلول سبتمبر في نيويورك, تلك الإحداث التي هزت العالم حيث انهار برجي التجارة العالمية في الولايات المتحدة الأمريكية على أيدي إرهابيين. وقتها انشغل العالم عن قضية الباحث والمفكر الاقتصادي الدكتور دليلة ومعتقلي ربيع دمشق. فبعد تولي الرئيس السوري بشار الأسد زمام السلطة, أطلق وعود الإصلاح في خطاب القسم أمام مجلس الشعب. شهدت سورية حراكا مدنيا ونشطت المنتديات الحوارية, كما أطلق مجموعة مثقفين من بينهم الدكتور عارف عدة بيانات طالبوا فيها الإدارة السياسية البدء بالإصلاح الموعود. ووقعوا عرائض مطالبة بإجراء إصلاحات سياسة واقتصادية, كما كان الدكتور دليلة من مؤسسي لجان أحياء المجتمع المدني التي جمعت نخبة من الكتاب والسياسيين ممن حملوا لواء التغيير السلمي التدرجي.
أحيلت قضية الدكتور دليلة مع رفاقه؛ الى محكمة أمن الدولة الاستثنائية, التي حكمت عليه بتاريخ 31-7-2002 بالسجن لمدة عشر سنوات. وجهت أليه تهم بالاعتداء الذي يستهدف تغيير الدستور بطرق غير مشروعة, وإلقاء الخطب بهدف أثارة عصيان مسلح ضد السلطات الشرعية, ووهن نفسية الأمة. وكان الدكتور دليلة قد تلقى أشد الأحكام قسوة من بين معتقلي ربيع دمشق العشرة- حيث كانت أحكام البقية تتراوح بين عامين وخمسة أعوام- لأنه كان من أبرز الشخصيات المطالبة بأجراء إصلاحات سياسية اقتصادية. كما انه رفض كل المغريات التي قدمت له قبيل اعتقاله, مطالبا العودة الى طلبته وتدريسهم.
وفي 26-7-2008, طالبت 36 منظمة حقوقية سورية وعربية ودولية, تنشط في مجال حقوق الإنسان, الإفراج الفوري عن الدكتور دليلة نظرا لتدهور ظروفه الصحية, واخلي سبيله في 7-8-2008, بعد إن قضى في السجن 6 أعوام, وعشرة أشهر و28 يوميا.
كلنا شركاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى