صفحات سوريةنصر حسن

علمانية , ليبرالية, ديمقراطية, والحصيلة ماذا ؟!

null


د. نصر حسن

هل وقعنا في سخرية التاريخ والاستبداد معاً ؟!, يبدو الأمر كذلك ! فهل يعيد ” العلمانيون ” ترتيب المفاهيم وتجسيم النظرة لرؤية الواقع كما هو والتصالح معه ؟! ومعهم “الماركسيون ” السوريون نظرتهم إلى مفهوم زوال الدولة و”خرطوشة” انجلس ؟! مرةً أخرى ,أهي سخرية التاريخ كما وصفها هيجل من حيث أن الثورة التي قاموا بها لا تشبه أبداً الثورة التي كانوا يعتزمون القيام بها ؟! وهل حان الوقت للرجوع إلى الواقع وإعطاء مفهوم الدولة أبعاده العملية التي تفرزها حركة التاريخ البشري الاجتماعية وملحقاتها الحقوقية ؟!.

هم معنيون بالإجابة أمام الشعب والمفهوم نفسه أيضاً, وترجمته الواقعية في مسار التاريخ وكنه علاقاته وحاجته الدائمة إلى حارس مستقل عادل وأمين على مصالح الكل الاجتماعي, إذ على خلفية تحديد مفهوم الدولة تتحدد الكثير من نتائج الصراع السياسي والاجتماعي والأهلي وطبيعة السلطة ومفاعيلها , وأمام واقع عياني وشريط سياسي يمثل الصراع على خطف مساحة المجموع ( الدولة والسلطة) والعبث الفردي الديكتاتوري فيها ,عاشته شعوب ودول أكثر من نصف الكرة الأرضية لما يقرب من قرن في السلطة المستبدة , وواقع الخريطة الجغرافية والسياسية والاجتماعية والحقوقية ومفهوم الدولة نفسه في عموم المعسكر الاشتراكي وملحقاته سابقاً يجيب على ذلك .

وهذا يفرض نقلة مفاهيمية محمولة على أسس جديدة أهمها تحرر العقل و المشروع السياسي معه من تخدير المثالية الثورية وحلم الإصلاح اللفظي , وإعادة القيمة لأسس الفكر والفلسفة الجامعة نفسها كمناهج , وينسحب هذا بدوره على الماركسية والعلمانية والديمقراطية والليبرالية وكل مفاهيم الحداثة والتطور التاريخي,وعليه مطلوب هجر التبعية والإسقاط النظري واعتماد التفكير الجدلي ما أمكن ذلك منهجاً لقراءة الصورة وإعادة تركيب المفاهيم النظرية ليس على قياس الرؤى الفردية التجريدية , بل على قياس الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي المتحرك بأفقه الإنساني التاريخي .

وما من شك بأن محرك التاريخ البشري في أحد أشكال قوته هو بروز فلاسفة ومفكرين ومبدعين بأبعاد كونية , واستطراداً وعلى أرضية النظرة المفاهيمية الجزئية واللاهوتية تلك , يمكن تفسير هذا الفشل الذريع للنخبة المثقفة من الدخول على خط الأحداث في مرحلة خطيرة من التخلف والتفكك وفساد السلطة في سورية.

فبداهةً ,المشكلة ليست في المفاهيم, بل في الواقع وأدواته الفكرية والثقافية الحالية ونظم السلطة فيه والأنساق السياسية الفاعلة فيه , وبقدر تعلق الموضوع بالماركسية والعلمانية والديمقراطية والليبرالية , بما هي أوجه لمجسم بشري واحد اسمه المجتمع في شكل الدولة تحددها مرحلة تارخية معينة, الدولة التي تعني مجموعة أو مجموعات من البشر لهم مصالح متباينة ورغبات مختلفة وغير ثابتة وهي حقائق اجتماعية نسبية مرتبطة أساساً بمستوى وعي الناس والدول والعلاقات المتداخلة بينها ,فمنها ماهو إنساني مشروع بانسجامه مع المجموع ,ومنها ماهو فردي ذاتي غير مشروع لأنه يتعدى على المساحة الاجتماعية العامة بما تمثله من قيم وأعراف وثقافات وعادات ومصالح وتكوين تاريخي طويل.

فهل قوى اليسار والعلمانية والديمقراطية على اختلاف تسمياتها مستعدة ومؤهلة الآن لنقد التجربة الماضية بعمق ومنهجية ونقض تاريخها السابق , والتواضع والنزول إلى واقع المجتمع والتعلم منه , بعد أن فشلت على مدى أكثر من قرن في تعليمه؟!…..يتبع

بداهةً ,أن الديانات والفلسفات المختلفة ,هدفها الإنسان والمجتمع ومحاولة دفع قدر من التوازن والتنظيم والاتساق في التاريخ , فالإسلام اعتبر الإنسان أنه خليفة الله تعالى في الأرض , وفي الفلسفات الحديثة اعتبره انجلس ” صحن صيني ” , واعتبره دعاة الحرية والتنوير قيمة شبه مقدسة , وبدلالاتها العامة تحاول بناء نظريات من المفاهيم تعكس نظم اجتماعية وسياسية واقتصادية معينة تنظم حياة الناس , هذه المفاهيم والتاريخية منها على وجه التحديد, ليست عاقر بل منظومات مولدة باستمرار, وسنة الحياة وجدليتها هي الاستمرار والاختلاف , من هنا نشأت المفاهيم والنظريات المختلفة, وهذا جد طبيعي لكن المشكلة ,هي في كيفية التعامل معها في صيرورتها الاجتماعية , وهنا بالضبط تفسر حركة التاريخ , والعالم العربي جزء من هذه الحركة يتأثر بها ويؤثر فيها , يولد الأفكار ويتمثل أخرى , وآلية التمثل تتحكم بشكل كبير في تحديد الدولة والنظم والنظام العام , وعملياً محصلتها تأسيس نظم حكم وإدارة تحقق أكبر قدر ممكن من العدالة والتعايش .

وبتكثيف الأمر على مستوى سورية المنظور الحديث, بدت جذور بعض المفاهيم من العلمانية والليبرالية والديمقراطية وملحقاتها , وكأنها طوارئ معرفية دخيلة لا تجيد لغة الواقع ولم تتفاعل معه ,ورغم ذلك إن بعض النخب الفكرية والثقافية السورية المحمولة على بعد أقلياتي في مجتمع شاب متوثب يبحث عن هويته ووحدته على بعديه الأساسيين القومي والإسلامي النهضوي , وجدت ضالتها فيها وفي الفلسلفة الماركسية واللينينية والمفاهيم المستوردة والمعربة تواً على وجه التحديد , وتعاملت معها كحلم ,وتعلقت بعمق وعطش إيديولوجي نظري بمرتكزاتها الأساسية الملخصة برغبة نظرية مثالية لتحقيق العدل للإنسان لكن بإلغاؤه نفسه !, أي في زوال العائلة والملكية الخاصة ( الاقطاع والبورجوازية ) والدولة ( الأمة) وغاصت في حلم الثورة والاشتراكية باستسلام ووهم كبيرين!.

وباختصار شديد , فاجأها الواقع العملي والتجربة الحية الأم ( الاتحاد السوفياتي) بأن العائلة أصبحت أكثر حضوراً وأضيف عليها نوع من القداسة وزيادة الحقوق ,والدولة نمت بشكل مخيف وبخصائص مركزية وصلاحيات مضاعفة شديدة, وتحول حلم الجيش الأحمر الذي يسيره ذاتياً قوة الوعي الإنساني الموعود, إلى أكبر الجيوش في العصر الحديث !, وصارت في عهد ستالين دولة لم يعرف لها التاريخ البشري مثيلاً من حيث ديكتاتوريتها وقوتها ولا إنسانيتها , وأوقفت حركة التاريخ أو بالأصح افترقت عنها إلى أن انهارت ركاماً وتفتت إلى أشلاء دول , واليوم وللمفارقة ,باتت تعول على الملكية الخاصة وتحرير السوق لخلاصها من ورطتها الاشتراكية وأزماتها المستعصية التي أنتجتها !, وتدورت الأمور والأزمات ومعها مجتمعات وعادت بعد أن دفعت ضريبة إنسانية مروعة ,إلى نمط على شاكلة دول ” نمط الإنتاج الأسيوي ” حيث الرعايا كما قال ماركس كلهم ” عبيد” , قبل ما يقرب من قرن من الزمان !.

والأمر بقدر كونه اشتقاق نظريات ونظم حكم مؤسسية للمجتمع وعلاقاته وليس الغوص في تحليلات فكرية مجردة , هنا بالضبط يبدو الوجه الاقتصادي ( الليبرالية ) وجدلية علاقته مع البعد السياسي الحقوقي ( الديمقراطية ) وكلتاهما من جنس الفلسفة , وباتت ضرورة تلازمهما في مسيرة التقدم والتطور والحفاظ على البعد الاجتماعي وحقوق الإنسان لامناص منها , هذا التلازم غاب على النخبة الفكرية لسبب أساسي وهو أنها سحبت الوعي إلى حقل السياسة محمولاً على ثقافة نظرية إسقاطية موجهة حسب المصالح والرغبات ,وعاندت السير ضد حركة الواقع وضد اتجاه التاريخ , وأصبحت أسيرة شبكة من المفاهيم النظرية التي ليس لها أي جذور في واقع المجتمع .

وعليه طغى الجانب النظري على المفاهيم في سورية بشكله الفردي الستاليني الشديد , بما هو منهج بالتعامل مع الفكر والثقافة وممارسة تسلط على الواقع , في حين أن الواقع السوري و العربي يحتاج إلى قدر كبير من ” الغرامشية ” المعرفية إذا صح التعبير , بمعنى أن الواقع حاضره وماضيه ومعطياته وتفاعلاته وتجاربه السياسية هي التي تلعب دوراً كبيراً في تأسيس الوعي واشتقاق المفاهيم , حيث لا يمكن فصل المفهوم عن الواقع الاجتماعي والسياسي ,أي عن حركية المجتمع الآنية , بخلاف ذلك يؤدي إلى تعطيل ديناميكية المفهوم نفسه ويحوله إلى منطق شكلي أجوف وهذا ما حدث بالضبط , أي وقعت النخبة في الجمود العقائدي والميتافيزيقية , وبالتالي ألغت أهم أسس مكونات المعرفة وهي الحرية والديمقراطية على مستوى النخبة وأحزابها , مما سبب خللاً خطيراً في بنيتها النظرية ودورها الثقافي والسياسي , فحصل التناقض والضعف في تقوية الروابط الوطنية ,وأكثر منه في عدم قدرتها على المساهمة في التنمية الفكرية والثقافية والاجتماعية في المجتمع ومواكبة التطور , وهي الآن تعيش نتائجه حائرة لا تعرف بأي اتجاه تسير , و بأي شعار تهتدي , وضمن أي رتل سياسي تصطف!……يتب

من التناقض بين الواقع ومستوى فهم ومفاهيم النخبة السورية أحزاباً وأفراداً وتشكيلاتاً ثقافية وسياسية , نتج شبه إطار فكري ثقافي سياسي هجين أفرز الطائفية السياسية التي مثلت الاستبداد بأبشع أشكاله , أطبق بفرديته وجهله وتخلفة وفساده على حياة المجتمع , وأفرغه من كل محتواه الثقافي والوطني , وفككه وأدخله في أنفاق ونفاق التشكيلات السياسية اللفظية الزائفة التي تخدمه وتصب بالمحصلة في طاحونته القمعية , والحال كذلك انحشرت قوى التغيير على اختلاف تسمياتها العلمانية والليبرالية والديمقراطية في دائرته,وهذا ينطبق على القوى القومية واليسارية والإسلامية التي استثناها الاستبداد بقدر مروع من القمع والعنف والإقصاء والتشريد .

والحال هذا يستدعي عملية غربلة المفاهيم والأفكار في وعي وعقول وممارسات النخبة ومعرفة حجم تقاطعها مع واقع المجتمع وتكبيره وتطويره بحوار عقلاني نقدي صريح وجريء , وتبني ما هو مطلوب وليس ما هو مرغوب من الصيغ والمفاهيم بنظرة جديدة عصرية شاملة , لمعرفة العلاقة بين المفاهيم الفكرية والسياسية وربطها مع بعضها ومطابقتها مع الواقع والبدء في تحديد الطريق الجديد, فالمفاهيم ليست أحادية الرمز بل هي سلسلة من المتغيرات التي تعكس العلاقات المعرفية والاجتماعية والاقتصادية المتغيرة والمتشابكة التي تربط المجموع الاجتماعي في حاضنة حقوقية سياسية هي الدولة ,الدولة الغائبة كلياً في حياة الشعب السوري.

ومقدمة حل الإشكال هي الخروج من أصولية الإديولوجيا المسلحة بالوهم والتعصب ونفي الآخر ,إلى فضاء الفكر الحر المتصف بالواقعية والعقلانية والتسامح ,ومن حدود الصياغات النظرية الجزئية الضيقة التي تعبر عن مصالح فئوية أو طبقية أو أهلية ,إلى رحابة المجتمع وروابطه الوطنية وثقافة المواطنة , ومن أحادية النظرة المحدبة أو المقعرة إلى المجتمع وعلاقاته, إلى النظرة الواقعية المستوية , وتجاوز الحول في الرؤية والفكر , ورؤية واقع المجتمع على حقيقته, وبالتالي يصبح الهدف واضحاً بأبعاده الفعلية , عندها ننتقل من الوهم النظري إلى حركية الواقع الاجتماعي ومحدداته الحقوقية , وعندها أيضاً يتحول الأفراد من ” رعاع وعبيد” إلى مواطنين أحرار لهم قيمة وكرامة إنسانية ودور في المجتمع .

من هنا نرى أن العلمانية ومشتقاتها والليبرالية وملحقاتها والديمقراطية ومتطلباتها, هي مترابطة مع بعضها في الواقع الاجتماعي والسياسي , والحاجة إلى إعطاء دور أكبر لأي منها يقرره الواقع والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية وشكل الدولة وفاعليتها في حياة المجتمع, رغم أن التجارب التي مرت فيها تلك المفاهيم في التطبيق العملي عكست عليها آلياتها وخاصةً في ” شرق ” مركزي مطلق مقيد لكل فعل ونشاط وممارسة اجتماعية وسياسية ,هتك الديمقراطية وغيبها وهجنها ,و” غرب ” يستند على الليبرالية ونسبياً في كل شيء ويعمل بالديمقراطية التي توفر له الحماية من السيطرة السياسية والاقتصادية على حد سواء, وعليه هي مفاهيم متحركة ومرتبطة مع تطور المجتمع السياسي والاجتماعي والاقتصادي وتأخذ أطواراً تعكسها مجمل علاقاته الداخلية والخارجية المتغيرة .

واستطراداً إن المفاهيم في الوسط الفكري والسياسي والثقافي السوري والعربي , تعاني من تجزيء أشبه بتكسير بنيوي هيكلي لها , مصدره ضعف عقلي ثقافي سياسي حقوقي أنتج بدوره وعي مشوه قاصر عن فهم جدلية العلاقة بين أسس تكوين المجتمع وتناقضاته الحقيقية وعلاقاته الداخلية من جهة , وخلط ولغط مفاهيمي فضفاض من جهة أخرى ,أنتج غياب النظرة الكلية الجدلية للتطور السياسي الاجتماعي التاريخي ,وأدى مرحلياً إلى الفشل في تحديد حوامله الأساسية في سورية والعالم العربي, وأوضح سماته هو الإخفاق في محاولة التصدي لأنظمة سياسية شمولية مطبقة على عقل الشعب وأوهنت عقل وفكر وإرادة المجتمع وهو بيت القصيد, فمن هو الشاعر الذي سينظم معلقة الحرية في سورية

أدى الفهم النخبوي الثقافي الجزئي على الساحة السياسية في سورية في الفترة الماضية إلى تمديد نزهة المثقفين في غابة الألفاظ , فوجدوا فيها ضالتهم وتحولوا إلى أسرى استبدادين اثنين ,استبداد النظام السياسي واستبداد الثقافة الفردية النظرية وضاعوا في متاهاتهما ,أنتج هذا بدوره تعثر الصراع مع نظام شمولي فردي , بمواجهة خجولة لحراك سياسي , كل مافي جعبته خطاب لفظي هش مبعثر مثلته معارضة مبهمة, تحكمها أحاديات طائفية أو اجتماعية أو سياسية, وثنائيات فكرية وتناثرات اقتصادية عملت على انفراد ,وكأنها متوازية لا تلتقي ولا تتقاطع ولا تتحاور , وبالتالي لم تنجح في توليد عوامل ربط وطنية بين المجموع الاجتماعي , فضعفت قدرتها على بناء منظومة فكرية جامعة تقترب من مفهوم الدولة الوطنية .

وكانت “الميليشيات” الثقافية ولا تزال منعزلة بفرديتها ونخبويتها وتبعيتها النظرية وتائهة فيها , وكأنها كتلة هلامية أشبه بالعدم المعرفي موجودة كماً وغائبة نوعاً واتجاهاًَ, وبالتالي ضعفت مشاركتها في الحياة العامة وغاب تأثيرها على مسار الأحداث, وبهذا الشكل السائب غير الواضح رافقت فترة التحولات الكبرى في نهاية القرن العشرين الذي اختتم بانهيار الاتحاد السوفياتي , ومعه انهارت الكثير من الأحلام الثورية والاشتراكية والتركيبات العقائدية والسياسية ,وتشتت معه النخبة ولاذت كل منها إلى كهفها أو إلى أقرب المقربين إليها , باحثةً عن بقايا غطاء فكري أو سند سياسي أو إرث طائفي أو متبني دولي جديد لها لتجديد وجودها والتقاط أنفاسها ومحاولة التأقلم بصيغة ما مع الوضع الطارئ الجديد , محاولةً إعادة التموضع السياسي والأهلي المحلي في سياق عالم جديد مهزوز هو الآخر , وأصبح ثقله كله في كفة ميزان واحدة .

والحال هذا , لازالت مصرة على الحصاد بنفس المنجل وفي نفس مساحة البور التاريخي, أي تكرر الفهم الأحادي لحركة المجتمع وتناقضاته وتتمسك بنفس الشعارات الإشكالية ,وتستخدم نفس الكيل وذات الأوزان التي فقدت كتلتها, وبالتالي وزنها وتأثيرها في عالم معلوماتي عولمي متحرك على الخط السريع , وعابر لكل الهياكل التاريخية التقليدية للدول والمجتمعات .

وكنوع من صراع البقاء, تحاول تلك النخبة اليوم إعادة إنتاج نفسها, لكن بأطر وأنساق نظرية لازالت بعيدة عن تناقضات الواقع وحركية المجتمع السوري وهمومه الأساسية, وضمن وضع عربي من لبنان إلى فلسطين إلى العراق إلى غربه وشرقه أصبح كله في مهب الريح , ريح السيطرة والاحتلال والتمزق ونهب الثروات وحشر المنطقة كلها في الفقر والتخلف والصراعات الداخلية , ورغم كل هذا الكم الهائل من النكبات , لازالت النخبة متناقضة في جزئية المفاهيم ومعانيها ودلالاتها وترتيبها وتائهة بين أولوياتها وثانوياتها ,ولم تدرك بعد أنه لا علمانية بدون حوار صريح مع الواقع واحترام مكوناته وتاريخه والمصالحة معها , وحسم مشاكله بأفق محلي استراتيجي مستقل , ولا ليبرالية بدون حسم اتجاه حركة المجتمع وشكل الدولة ومضمونها ودورها , ولا ديمقراطية بدون حرية فكرية وسياسية وحقوقية وإنسانية , ولا تقدم بدون تنمية بشرية وقانونية ومؤسسات ونظم إدارية عصرية ,هنا تبدو الحاجة ملحة إلى نوع من العقلانية النقدية العملية التي ترى ترابط العوامل وتقر بالتكامل , والنظرة المجسمة للواقع والمفاهيم وضرورة الإقرار أن خلاص سورية من الاستبداد كبنية وثقافة وعقلية وعلاقات أهلية واقتصادية ومصالح متناقضة بين شعب وسلطة طاغية , لا يتم سوى بنظرة مركبة متسقة مع واقع المجتمع وبجملة عوارضة الظاهرة والمخفية ,وبالتالي نجاحها في اشتقاق طريق جديد ينقل المجتمع إلى الأمام لا إلى الخلف .

وعليه , في هذه المرحلة الهجينة من تاريخ سورية التي طغت عليها سلطة فردية مستبدة فضفاضة حقوقياً ومتناقضة سياسياً وفاشلة وطنياً وتنموياً ,وسرطانية اقتصادياً قائمة على النهب واحتكار ثروة البلاد والسوق معاً ,وتتلاعب على الشعب بما يضمن لها السيطرة عليه وعلى ثروة البلاد , فتراها تتشدق بالاشتراكية حيناً وتنادي بالديمقراطية المركزية حيناً وبدولة الرفاه حيناً آخر , وبالقمع والنهب وعلى حامل سياسي واهن بادعاء الصمود والممانعة والتحرير في معظم الأحيان , والشعب غارق في الفقر والأزمات , والقمع هو الشيء الوحيد المتطور والمتجدد باستمرار!.

والحال هذا ,يدل أن النخبة السياسية السورية المعارضة للنظام انطلقت من نفس تناقضاته , وبدل حلها ضاعت فيها وانقسمت حولها وطغى على عملها مبدأ السجال ورد الفعل على النظام والمراهنة على عودة الوعي والوطنية إليه , وليس على قراءة الواقع الاجتماعي والاقتصادي ومعرفة أبعاده الداخلية , ورداً على فردية النظام وتغييب الحريات وانتهاك الحقوق ,ركبت النخبة الديمقراطية متأخرة عربة حقوق الإنسان , وركزت على القضايا الفردية حيناً,وعلى مفاهيم العدالة والمساواة بمسحة اشتراكية حيناً آخر,وعليه وقعت في نفس هلامية النظام وزكزاكيته.

واليوم ,بظل نظام مستبد محتكر للسياسة والاقتصاد والمجتمع معاً, ومجرداً من أية منظومة حقوقية أو قانونية أو سياسية ,ويفهم الاقتصاد على أنه حريته في النهب المتعدد الأشكال , وتترسب فيه كل مساوئ النظم السياسية في الغرب والشرق ,مضافاً إليها فشله المطلق في التنمية بكل أشكالها وبمشروعه القومي بكافة شعابه ,واستمرار عمله على الشعارات اللفظية والمساومات السياسية , وبهدف واحد هو ضمان استمراه في الحكم , يقابله على الجانب الآخر المعارض للنظام وفرة من الواجهات اللفظية المعروضة غير المؤثرة في موازين القوى المادية على الأرض , من العلمانية إلى الديمقراطية إلى الليبرالية إلى الحداثة , إلى أشكال أخرى من التصنيفات النظرية البحتة التي تتشبث فيها نخبة , ولا تعكس علاقات اقتصادية معينة ولا تحظى بقوة فردية فكرية أوسياسية أو أهلية جامعة أو جاذبة أو محركة للشعب , بهذا الشكل يبدو الأمر كأنه مجرد إسقاطات نظرية على واقع تعصف فيه تناقضات مركبة أكبر مساحةً وأكثر عمقاً في مستواها وشكلها ومضمونها.

والحال هذا , يبقى الأمر غائم وعائم أشبه بمراوحة في فراغ المفاهيم وتفريغها من بعدها العملي , تكرر النخبة محاولة إعادة تأسيس أو تسييس لما هو موجود بصيغ تراها جديدة , لكنها في أحسن أحوالها تمثل صيانة القديم بشكل تقليدي وأشبه بعملية رصف وهمي أو تجديد ” تبليط الوعي ” النخبوي بمفاهيم نظرية ديكورية تبدو حداثية , لكنها معزولة عن محيطها الاجتماعي والسياسي المحلي, فلماذا هذا الإصرار على التكسير الفكري والمفاهيمي والتشقق السياسي والمواربة بصلات البعد والقربى مع الاستبداد ؟!, و التمركز البائس على مخزون فكري وهمي من نزعة الفردية وحب التميز والدوران فيهما ! .

هنا السؤال يفرض نفسه , أما آن الأوان لنقد النظرية والممارسة وحصيلتهما ؟؟!و فحص محتوى السلة بعد طول انتظار موسم الحصاد الوهمي, الذي أنتج كل هذا الخواء والفشل والتشقق والقمع والتخلف والفوضى !.

أما آن الأوان بالنزول إلى المجتمع والتفاعل معه وبدء حوار مباشر وصريح مع واقع الشعب السوري ؟!.علَه , أي الشعب يحلم ببعض العنب بعدما أصبح ” الضَرَس ” جينة وراثية في أنساقه الفكرية والثقافية والسياسية , بل في حياته كلها!.

بعض الإجابة الفكرية والسياسية تأتي مفاجأة هذه المرة , من الجغرافيا السورية والعربية , التي بدورها تخضع الآن لنفس التعذيب والتغريب والتبويب ,الذي تعرضت له الثقافة والسياسة معاً ! وهي مفارقة العقل العربي “العاقر” وآلية عمله الموصوفة بالحث الخارجي لا بالتوليد الداخلي !.

د. نصر حسن
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى