صفحات الشعر

الزقزقة على الزجاج وما من عصفور في الحقل المجاور

null
فاروق يوسف
المياه باردة يا صديقي

بعد أن نسينا أن للميت وجهاً، صرنا نبحث عمّن يشبهه. ولأن الميت لا يتذكر طقسه اليومي، سيقال إنها يده التي تقع على الوسادة. سيقال أيضا إن اصبعا منه ترتفع من بين النباتات عند النافذة. شيء من نومه يذكّر بالمياه الباردة. سكين على المنضدة وشفتان من بصل ونصف ليمونة ستجعل منه مائدة لحوار متأنٍّ. له ما يشبهه، من يتشبه به، من يجاريه في الغياب، غير أنه ينفرد بموته كما لو أن أحدا لم يمت من قبل. المياه التي تذكّر به تظل باردة.

يدان عزيزتان
على الصخرة الوحيدة فراشة لا تُرى وأنا
على جناحي الفراشة صخرة لا تُرى وأنا
على تلك الصخرة التي لا تُرى قنديل
في الضوء القليل هناك يدان. يدان من ورق أخضر. من ورق لا ينام. متعباً من ضجري كما لو أن زورقاً سينزلق بي إلى الهاوية في أية لحظة ليتركني وحيداً، أفكر بالندم، بالجار الذي يلصق صورة امرأة على باب شقته، ربما تكون أمه. “لم يعد لنا سوى أن ننسى”، يقول لي قبل أن يختفي إلى الأبد.

صلّيتُ
من أجله، وقد أحزنني ترابه. من أجل طبائعه وقد أوحى لملائكة بريدي بالنوم. من أجل رائحته وقد امتزجت بطعامي صلّيتُ. الزقزقة على الزجاج وما من عصفور في الحقل المجاور.

أكثر من أنثى
تحت القناع، في ذروتها، بعد قيامة زهرتها، على اليمين من رملها، في لمعة عشبها، الساعة الرمادية لفجر يقع على ركبتها. مثل كتاب تضعني في الحقيبة.

الأخت البريئة
مشيتها تعزز ثقتي بالنهار. الإبرة التي تتسلل من الثوب، الكلمة التي تبلل يد الخياط، البريئة من خيالها، العارية مثل غصّتها، المستلهَمة مثل ثعلب نسي مكره. في علبتها دمية وفي فمها طفل. “ألم يعد الغراب؟”، تساءلت وهي تعيد الإبرة إلى الثوب وتمسح يد الخيّاط بزيت قبلتها.

جارتي الحلوة
“حافية لأني شيوعية”، يضحك الأطفال. “مجنونة لأني شيوعية”، تمسك موظفة الرعاية الاجتماعية بيدها وتنظر إلى عينيها العميقتين. “شيوعية لأني هنا”، تخرج من حقيبتها خريطة للاتحاد السوفياتي السابق وتفرشها على العشب ثم تضع إصبعها على موضع فيها. ولدت جارتي هناك وحُملت صغيرة بين البضائع في قطار ليلي.

أمجد ناصر
بلاد كثيرة تحت يدك. في أخدود ما نُسيت طفلاً. يتذكرك الأعمى من عصبتك. عينك مكتظة بما لم تر. عينك غزيرة. الهواء من حولك، الهواء الذي جلبته معك، الذي وهبته عاداتك، رافقني متأنقاً بزرقتك في “هامر سميث”. لو راقبتَه قليلاً لرأيتَ صورتك. لو استعدتَه لما استعملته. يهبك بلداً ويأخذ آخر. حزنك يجعله مضطرباً. يضربه بعصاه. التايمس يأتي متأخراً. خرائط قدميك لا تنفع لإرشاده. بلاد كثيرة تحت يدك وعينك حائرة.

على الخط
الميت هو من أقربائي. نظرتُ إلى المدعوين فشعرتُ برغبة في الاصغاء. أنا ميت آخر ولي الحق في أن أكون موجوداً في الحكاية. على الجدار صورتي. ولا جدار في المقبرة. هناك الهواء يتحقق من صبواته: ضربة الأنثى التي لا تخطئ هدفها. لقد كنت ميتاً وحسبتُ المدعوين من أقربائي.

معنى الظلم
فكرتي عن الرصيف المقابل سيئة. هناك قتلة وعاهرات وباعة جوازات مزوّرة ومندوبو الشيطان وكتّاب روايات رائجة وخونة أنيقون وطبّاخات مطرودات بسبب شغفهن بالتوابل الهندية الحارة وسماسرة عقارات مسروقة وباعة مايوهات لا تُرى وأئمة جوامع لم تبن بعد ومتسلّقو سلالم وهمية وعابرات سبيل صرن بسبب الحظ العاثر أيقونات محلية. غير أنني حين عبرتُ الشارع ونظرتُ من هناك إلى الرصيف المقابل، الرصيف الذي كنت أقف عليه قبل لحظات، لم أر شيئاً. لحظتها عرفتُ معنى الظلم.

من أجل الكلاسيكيات الحزينة
الأب حزين. الكنيسة صارت مقهى. أمين المكتبة وقد كان بورخيس نفسه يتعذب. المكتبة صارت متحفاً. بيتي هناك في بغداد. ماذا دهاه؟ إنه فارغ. حطب الجيران في الموقد وكلامهم في فمي. لقاء متخيل. في الحديقة. في اوكسفورد. جلست على الاريكة أحلم مدافعاً عن حق بيتي في أن يكون مستقلاً عني ¶

ملحق النهار الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى