صفحات ثقافية

طفولة الزعيم وشيخوخته!

null
خيري منصور
عندما قرأنا لأول مرة ما كتبه سارتر عن لوسيان في ‘ طفولة زعيم’، أوشكنا ان نصدّق بأن من يطلق عليهم لقب الزعيم في عالمنا العربي عانوا مثل تلك الطفولة، وتعرّضوا لافساد مبكر، بحيث توهموا احتكار السلطة والخلود معا، فهم معصومون واستثنائيون، لا يمرضون ولا يشيخون، ولا يمشون في الاسواق، وثمة متعهدون للدفاع عن خطاياهم، اما الاخطاء فيكفي ان تدخل الى المختبر للتجميل، بحيث تعتذر الضحية للجلاد المستغرق في قيادة الامة لأنها اخذت دقائق من وقته الثمين … وعندما كتب سارتر ‘ طفولة زعيم’ كان السجال في ذروته داخل اوروبا وخارجها عن دور البطل في التاريخ، وبمعنى أدق عن دور الفرد، فالحربان العالميتان اللتان عصفتا باوروبا والكون قادهما زعماء من ذلك الطراز الكاريزمي بحيث سميت حقبة الحكم لأحدهم، وهو ستالين، عبادة الفرد. بعد الحرب العالمية الثانية شهد عالمنا العربي انتقالة كبرى في مجالات الحياة كلها، ونقداً متعدد الأبعاد للثقافة والسياسة وانماط التربية وانقلابات عسكرية قادها جنرالات معظمهم كان عائدا للتو من هزيمة كبرى وفي النطاق القومي. ولم يكن لدينا من فائض الرفاهية والوقت ما يكفي للبحث عن طفولات هؤلاء الذين قادونا من هزيمة الى هزيمة ومن لجوء الى نزوح حتى بلغنا أرذل ما يمكن ان تبلغه أمة منكوبة، قلدت قافلة الخشب في كل شيء، بدءاً من الجِّمال التي تقتفي خطوات بعضها ومرورا بالحافرالذي يقع على حافر وانتهاء بقيادة القافلة التي طالما حسمت للحمار، لأنه يرمز الى الذاكرة وثقافة الصّبر، وبحثنا في حمى الأسئلة التي اجهضت قبل ان تتحول الى مساءلات عن لوسيان، فلم نجده، وكان علينا ان نتذكّرالاسباب التي تؤدي الى سيطرة العسكرتاريا ونفوذ الحرس الذي بدّل وظيفته، لنكتشف بعد فوات الاوان ان هناك زعماء ليسوا من طراز لوسيان او غيره، لأنهم بلا طفولات اساسا، وحين ظفروا بالسلطة وجدوا كالعادة في ظلالهم فقهاء في اعادة انتاج الوقائع والسير الذاتية فاخترعوا لهم طفولات تليق بالأوسمة والنياشين لكن دون اشارة واحدة الى ان جنرالات الهزائم كانوا ميداس العربي الجديد الذي يلامس الخيمة فيحولها الى قصر ويلامس الهزيمة فيحولها الى انتصار، ولا يكلفه تحول العار الى الغار سوى نقطة واحدة على حرف العين قد تكون من دم او ماء أو بصقة عدو!!
ان معظم ما كتب حتى الان عن السايكولوجيا المزدوجة للسادي والماسوشي، والديكتاتور والعادل قد يصلح مدخلا لاستقراء تجارب وقعت في اوروبا وآسيا الى حدّ ما، لكن الزعيم كما عرفته التجارب العربية لا يزال ينتسب الى القارة المسكوت عنها في حياتنا، وباستثناء ما كتبه اثنان عن مفهوم القيادة لدى العرب المعاصرين وسايكولوجيا المقهورين، الاول د. خليل احمد خليل، والثاني د. مصطفى حجازي، فإن معظم ما كتب تحت عناوين جاذبة سرعان ما انحرف عن الهدف لاسباب منها الاحتراز او الخوف من العقاب او البحث عن احتياطي يتيح للحالم بموقع ما ان لا يحرق قواربه الورقية كلها.
في كتاب د. خليل، ثمة رصد دقيق لما يسميه الاستزلام والفهلوة، والوصولية، وان كان ميدانه هو لبنان فقط، رغم ان اللّبننة تشمل هذا السياق ايضا، بعد ان تحولت الحروب الطائفية في لبنان ومفهوم الدولة الرخوة كما يسميها د. جلال أمين ظواهر قومية بامتياز، فالعراق مثلا تجاوز اللّبننة على صعيدي الحرب الاهلية وصراع الطوائف وما أعقب الاحتلال والنظام السابق برهن على ان هذا الفساد السياسي بنيوي ونسيجّي، وليس وقفا على ديكتاتور او زعيم، فما يتبدل هو الاسم واحيانا الشعار، لكن حليمة العرب في السياسية سرعان ما تعود الى عادتها القديمة، وهي تتلخص في ثلاثة أقانيم، هي الاحتكار والإقصاء وادّعاء المعصومية، ولا ادلّ على ذلك من ان المعارضات السياسية العربية نقلت على الفور جرثومة النظام الرسمي، وتبنت ثقافته الاحتكارية وجيناته الوراثية، لأنها مصابة بالانيميا ذاتها وهي فقر المناعة!

* * * * * * * * *
لقد أعاد فقهاء النظم التي تنتمي الى ما قبل الدولة انتاج طفولات قادة وجنرالات، بحيث بدت هذه الطفولات خارقة واستثنائية وواعدة باجتراح المعجزات. حتى من شنق قطة بحبل تعبيرا عن فائض العدوانية والسادية في طفولته وجد من هؤلاء الفقهاء والمتعهدين من يرى في هذه الجريمة عيّنة مبكرة من الشجاعة والقرار الحاسم، ولم يتجرأ أحد حتى الان على نبش الملفات والوثائق والبحث عن القرائن التي تفسر تحول الجنرال الى كاليغولا بحيث لا يتورع عن تعيين حصانه رئيسا لبرلمان او استبدال احد قادته بزوجته كما فعل ذلك الامبراطور المجنون الذي حلم بأن يحول القمر الى زر لمعطفه، لكنه لم يجد العروة التي تتسع له. ومنذ خمسة عشر قرنا او يزيد لم تتغير حكاية بني عبد المدان الذين كانوا قبل شراء الضمائر، شعرية او سياسية، لهم اجسام بغال وأحلام عصافير، لكن بعد ان أغدقوا على من يسيل لعابه على عظمة عفّ عنها كلب صاروا اصحاب العقل والبيان والفروسية. ان هذه الصلة بين فقهاء تسويغ الخطايا وشهود الزور وبين من تقمّصوا شخصية سانشو في رواية دون كيخوت هي في الأصل نمط انتاج، وما سماه المؤرخون العرب التكسّب سواء بالشعر او بالمقالة او الوشاية هو التعبير البدائي عن نمط الانتاج وفق معجم المصطلحات الاقتصادية الحديثة، لهذا لا يجد الحطيئة المعاصر حتى لو ارتدى ربطة عنق ودخن السيجار ما يحول دون ممارسة مهنته، لكن بتضليل اكبر ومهارة في ارتداء طاقية الاخفاء ولو الى حين، ومن قال ان قصائده هن بناته ينكحهن لمن يشاء يقول الان ان مقالاته والخطب التي يدبجها وتصريحاته هي ايضا كذلك، وان كان الفارق بين الحطيئة الجد والحطيئة الحفيد هو ان الجد لم يكن سببا في هزائم كبرى، ولم ينصح زعيما بأن يعلن حربا تتحول الى قبر جماعي لجنوده وشعبه معا!

* * * * * * *
الثقافة العربية التي لم تتحرر حتى الان من التعامل مع الطفل باعتباره رجلا غبيا او قاصرا لم تتحرر ايضا من اقتران الانوثة بالخبث والدسائس والانتقام، رغم ان معظم المنجز التاريخي حتى الان ذكوري بامتياز، بدءا من الحرب حتى الفساد بشتى مجالاته، وما قاله اراغون يوما وهو ان المرأة مستقبل الانسان كان يمهد شعريا لما سوف يكتبه فوكوياما بعده بأكثر من ستين عاما وهو تأنيث التاريخ، لكن من فهموا الطفولة على انها رجولة ناقصة، والانوثة على انها المرادف للرخاوة والمكر والخنوع، يدفعون الان ثمن اخطائهم الجذرية تلك، والزعيم الذي لا طفولة له، ولا يفسد ذكورته العمياء او الصّماء اي مسّ من انوثة الوجود، هو هذا الذي نحاول عبثا ان نتقصى مكوناته الاولى، وما شبّ عليه من هواجس وتصورات للذات والعالم والتاريخ والآخرين!
زعيم لم يكن طفلا لن يصبح حتى لو بلغ التسعين حكيما لأنه محكوم عليه بالمراوحة عند مراهقة لا شفاء منها بحيث لا يرى غير ما تشتهي عيناه ولا يسمع غير ما يروق له. لهذا يحيط نفسه بحاشية من الببغاوات الذين يرددون الصدى!!
ولا اظن ان هناك زعيما عربيا اتيح له ان يقرأ الحوارية الخالدة بين ملك سومري وأحد عبيده، فالعبد كان يردد ما يقوله سيده، حتى لو تناقص في اليوم الواحد عشر مرات، وعندما ضجر منه الملك السومري سأله لماذا يردد ما يقول فقط ويورطه بمواقف خاسرة لأنه يزين له الانتصار، وانتهت الحوارية بأن قرر الملك السومري قتل العبد لأن وجوده بلا معنى، وفي تلك اللحظة، وللمرة الاولى في حياته تمرد العبد وقال لسيده بأنه سوف يلحقه بعد شهور او اعوام او عقود لأنه ليس خالدا!
لو قرأ الزعيم هذه الحوارية لسأل عبيده مبكرا عن معنى وجودهم، لكن ما يقال عن محمد على باشا عندما قدم له احد مستشاريه كتبا ليقرأها منها كتاب ‘ الامير’ لميكافيللي صاح في وجهه قائلا: خذها انت واقرأها، فأنا صانع تاريخ ولست قارئا له. ويبدو ان هذا العرف استمر حتى أيامنا!
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى