قضية فلسطين

خوف إسرائيل والدم الفلسطيني

د. رشيد الحاج صالح
تشير التفسيرات المتداولة للحرب الصهيونية الانتقامية على غزة، هذه الأيام، إلى أن إسرائيل دولة عدوانية متغطرسة تريد أن تفرض وجودها ومصالحها بالقوة على الفلسطينيين، وأنها تستفيد من القوة العسكرية الهائلة التي تملكها، مقارنة مع الفلسطينيين شبه العزَّل، لكي ترغمهم على التخلي عن قسم كبير من أراضيهم وحقوقهم.. وأنها ستبقى تضغط على الفلسطينيين بالحرب والحصار والدمار، إلى أن يرضخوا في نهاية الأمر، ويقبلوا بالفتات الذي تتركه لهم.
غير أن المتأمل في فلسفة الحرب والتحليل العميق للأعمال التدميرية الإسرائيلية، سرعان ما يكشف أن الحروب لا يشنّها الأقوياء فقط، بل أحياناً تشن من قبل الخائفين. واليوم نجد أن خوف إسرائيل على وجودها ومستقبلها هو الدافع الحقيقي وراء كل هذه الأعمال التدميرية والانتقامية المفرطة. ولعل في الهدف المعلن من الحرب على غزة، وهو إسكات الصواريخ المنطلقة في اتجاه إسرائيل، ما يفيد هذا التفسير. فإسرائيل خائفة من هذه الصواريخ، وتخشى أن تدخلها هذه الصواريخ في حرب استنزاف طويلة، لذلك هي تضرب بكل قوة ووحشية حتى تنهي الأمر بأسرع ما يمكن.
كما أن تسابق قادة إسرائيل على توعّد الفلسطينيين بالتدمير والانتقام، الذي يراد منه إرضاء الإسرائيليين والانتخابات على الأبواب، هو تسابق زائف، لأن قادة إسرائيل خائفون من هذه الحرب التي قد تطيح ببعض الرؤوس وتقلب الموازين الانتخابية في حال فشلها. والناخبون الإسرائيليون أيضاً يأكل الخوف قلوبهم، ولذلك نجدهم يطالبون قادتهم بالأمن كمطلب مطلق لا يمكن الحياد عنه. وعلى ذلك، فالأمن هو المطلب الأساس والجوهري لإسرائيل – شعباً وقادة – في أي مفاوضات تجريها مع أي طرف. ومعروف أن الأمن لم يكن في أي يوم من الأيام مطلباً للأقوياء.. والتاريخ أكبر شاهد على ذلك.
يضاف إلى ذلك أن التاريخ والانتروبولوجيا يبينان لنا الدلالة الفلسفية «للدم». فالمتوحشون القدماء كانوا «يشربون الدم » لكي يخفوا خوفهم أمام الآخرين، كما أن بعض الشعوب القديمة كانت تعطي الشخص الذي استولى عليه الرعب « قلبا مضرَّجا بالدم »، اعتقاداً منها أن أكل القلب يخلّصه من حالة الرعب. ويبيّن الانتروبولوجيّون أن وجود بعض الجماجم منزوعة الدماغ في بعض المقابر القديمة دليلٌ واضحٌ على أن أكل دماغ الآخر، كان يستخدم كدواء يعطى للجبناء من أبناء الطبقة المخمليّة، لكي تجعلهم أكثر جسارة وشجاعة. ناهيك بأن بعض الكهنة القدماء كانوا يقدمون لآلهتهم قلوب ضحاياهم وهي ما تزال تنبض، اعتقاداً منهم أن الآلهة سترضى عنهم، الأمر الذي يزيد من شعورهم بالأمان.
إن النزعة الإسرائيلية العارمة في «إراقة الدم» أو «اشتهاء الدم» الغزَّاوي تعود في أساسها إلى الخوف الإسرائيلي اللامرئي من :
أولاً : عدم قدرة إسرائيل على فرض حلول ترضيها للمشكلات العالقة مع الفلسطينيين منذ أكثر من نصف قرن.
ثانياً : تحوّل «حماس» إلى قوة دائمة وأساسية لابدَّ من أخذها في الحسبان في مناقشة أي حلول مستقبلية.
ثالثاً : القلق المتنامي من «القنبلة الديمغرافية الفلسطينية».
رابعاً : تحوّل القضية الفلسطينية إلى قضية حاضرة وساطعة في كل مكان، وذلك نتيجة التوسع الفضائي والإعلامي الرهيب.
خامساً : خوف إسرائيل المتنامي من أن التكنولوجيا والقوة العسكرية قد لا تكون هي العنصر الحاسم في صراعها مع العرب. فالشعوب كما توضح الحروب المعاصرة قد تكون أقوى من السلاح، والإرادة أقوى من الطائرات.
إن الدم الغزّاوي المسفوك في شوارع المدن والقرى، وعلى مداخل المشافي، ليس علامة على قوة إسرائيل بقدر ما هو «شربة رعبة» يحتاج إليها الإسرائيليون حتى يعيدوا التوازن لأنفسهم ويرفعوا من معنوياتهم.ولكن متى كان دم الأطفال يحقق الأمن للدول؟
كاتب من سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى