صبحي حديديصفحات العالم

الفاتيكان والهولوكوست: نار تظل متقدة تحت الرماد

null
صبحي حديدي
بمعزل عن مقدار الشكّ أو اليقين في صدد تنويعات نظرية المؤامرة التي تقول بتأثير مجموعات الضغط اليهودية في حياة العالم السياسية والإقتصادية والمالية، وكذلك الاجتماعية والثقافية والدينية كما يذهب البعض، فإنّ من الإنصاف القول إنّ هذه المجموعات أحرزت مؤخراً نصراً جديداً مؤزراً،
متعدد الأبعاد في الواقع، لأنه لا يقتصر على قضية واحدة، ولا ينتهي إلى تسجيل نقطة وحيدة. ففي تراجع الفاتيكان عن قرار إعادة الأسقف البريطاني المولد ريشارد وليامسون إلى الكنيسة، وما تعرّض له بعدئذ من تنكيل حكومي وكنسي في الأرجنتين، هزيمة على الصعيد الآخر الأهمّ ربما: الحيلولة دون إغلاق ملفّ الإنشقاق الأكبر الذي واجهته الكنيسة في العصور الحديثة، وكان وليامسون طرفاً فيه؛ وصبّ المزيد من الزيت على نار لم تهدأ أصلاً، منذ أن اندلعت ضدّ قرار البابا السابق يوحنا بولس السادس، بتطويب البابا بيوس التاسع. وتُنسب إلى هذا الأخير، الذي تولى الكرسي الرسولي بين 1846 و1878، سلسلة تصريحات معادية لليهود، بينها قوله إنهم ‘كلاب يتواجد الكثير منهم في روما، يواصلون النباح وإقلاق راحتنا في كلّ مكان’؛ وسلسلة قرارات تمييزية ضدّ اندماج اليهود في المجتمع، أو تمتّعهم بالخدمات المعتادة التي تتوفّر لسائر المواطنين.
وقد يساجل البعض، كما يفعل كاتب هذه السطور، بأنّ سجلّ وليامسون ليس وضاء مشرّفاً في عدد كبير من الملفات الأخرى، غير تلك التي تخصّ مواقفه الأشهر في التشكيك بحجم المحرقة النازية، والميل إلى نفي وجود غرف الغاز أصلاً، وهي المواقف التي جلبت عليه نقمة مجموعات الضغط اليهودية. إنه، على سبيل المثال، يناهض ارتداء النساء للبنطال، أو تسجيلهنّ في الجامعة، لأنّ ممارسات كهذه تنزع عنهنّ صفة المرأة؛ كما يعتنق موقفاً عدائياً متطرفاً من الحداثة، يبلغ درجة اعتبارها مسؤولة عن مجازر رواندا؛ ويرفض فكرة التعددية في الرأي أو المذهب، فيرى أنها التهديد الأكبر الذي تواجهه المسيحية عموماً، والكنيسة الكاثوليكية بصفة خاصة؛ وبين مواقفه الطريفة إدانته للفيلم الشهير ‘صوت الموسيقى’، لأنه يُعلي سلطة الحبّ الرومانتيكية على سلطة الدير والرهبنة.
هل كان، استطراداً، صيداً سهل المنال أمام كواسر مجموعات الضغط اليهودية، ممّا أحرج البابا والكنيسة، وسهّل هزيمة الفاتيكان امام الحملات المنظمة، التي شارك فيها عشرات من الكتّاب والصحافيين ورجال الدين (المسيحيين، وليس اليهود وحدهم)، وتبارى في إشعال نيرانها ساسة من أمثال الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل؟ ليس تماماً، وليس هذا التفصيل ضرورياً في المقام الأوّل! ثمة، بين الكنيسة الكاثوليكية ومجموعات الضغط اليهودية، تلك النيران المتقدة تحت رماد قرون من النزاعات الدينية والفقهية والتاريخية التي لا تهدأ حتى تشتعل، ولا تُصلح خلافاً حتى تفتح ما هو أشدّ استعصاء من سوابقه.
هنالك، أيضاً، ميل الكنيسة إلى تسويات جزئية فقط، أو مجتزأة ناقصة، في الملفّ الأكثر حساسية، والأعلى مسؤولية أخلاقية في الواقع، أي مواقف الصمت أو التواطؤ أو حتى المباركة التي اتخذتها بعض المؤسسات الكاثوليكية إزاء الجرائم النازية. وعلى سبيل المثال، في خريف 1997، أقرّت الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية، بعد 57 سنة، أنّ صمتها المطبق على ترحيل 75 ألف يهودي إلى المعسكرات النازية (لم يبق منهم على قيد الحياة سوى ثلاثة آلاف) لم يكن سلوكاً مسيحياً لائقاً، وهو بالتالي يستوجب الإعتذار العلني وبأفصح العبارات.
‘إننا نسأل الله الغفران، ونريد من الشعب اليهودي أن يستمع إلى كلمات توبتنا هذه’، غصّ الأسقف أوليفييه دوبيرانجيه وهو ينطق كلمات التوبة، محاطاً بما لا يقلّ عن ثلاثين من كبار أساقفة الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية. ولكي يقترن الإعتذار بالدرجة المطلوبة من التفلسف الذاكرة وجدل التاريخ، بدأ الأسقف دوبيرانجيه خطبته بهذه العبارة الدالة: ‘الحدث الرئيسي الأكبر في تاريخ القرن العشرين، أي محاولة النازيين إفناء الشعب اليهودي، يطرح على الضمير أسئلة جلية لا يمكن لأي كائن بشري أن يتجاهلها. ولأنها أبعد ما تكون عن المطالبة بنسيان ذلك الحدث، فإن الكنيسة الكاثوليكية تعرف أن الضمير يتأسس بفعل الإستذكار، وأنه ما من مجتمع، وما من فرد في مقدوره العيش بسلام مع الذات حين يكون الماضي مطموساً أو كاذباً’.
كان الكلام جميلاً وسليماً تماماً، سيّما إذا تذكّر المرء الصمت (الرهيب بالفعل) الذي التزمته الكنيسة الكاثوليكية إزاء ترحيل اليهود، وإخضاعهم لسياسات تمييز جائرة مثل تعليق نجمة داود على الصدر بصورة إلزامية، والمنع من الوظائف الدبلوماسية والعسكرية والتدريسية، ومصادرة الأملاك. أكثر من ذلك، ثمة تلك العبارة/المسمار التي رددها، أنذاك، الكاردينال بيير جيرلييه أسقف ليون: ‘الماريشال بيتان هو فرنسا، وفرنسا هي الماريشال بيتان’، ورددت أصداءها جدران كاتدرائية بوردو العريقة أثناء قيام الماريشال زعيم حكومة فيشي المتعاونة مع النازيين بزيارة الكاتدرائية. وثمة هذا النداء، الرهيب بدوره، الذي أطلقه الكاردينال الفرنسي الكاثوليكي بودريار عام 1941: ‘لأنني قسّ وفرنسي يمرّ بمرحلة حاسمة، هل في وسعي أن أرفض إقرار المشروع النبيل المشترك الذي تقوده ألمانيا، والذي يسعى إلى تخليص فرنسا وأوروبا والعالم بأسره من الهواجس الأشد خطورة، وإقامة تآخ صحي بين الشعوب على خلفية تجديد مسيحية القرون الوسطى؟ ها قد حان الوقت لحملة صليبية جديدة. وأؤكد لكم أن ضريح المسيح سوف يتحرر. ومن خلال أحزان اللحظة سوف ينبلج فجر جديد’.
الإعتذار، بالتالي، كان واجباً على الكنيسة، وحقّاً لا ينازع لآلاف اليهود الفرنسيين الذين أبيدوا أو اضطُهدوا أو خضعوا لهذه أو تلك من ممارسات التمييز على أساس المعتقد الديني. ولكن… ألم تكن المناسبة، أو ما يشابهها من مناسبات، تستثير اعتذاراً مماثلاً عن صمت الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية (ذلك الصمت الذي كان مطبقاً أحياناً، نسبياً أحياناً أخرى) إزاء مليون ضحية جزائرية، أثناء حرب التحرير؟ وإذا كانت تعقيدات أرشيفية سياسية وتاريخية تكتنف هذا الملفّ بالذات، فماذا عن المجزرة الرهيبة الشهيرة التي وقعت عام 1961، وذهب ضحيتها 200 من المتظاهرين الجزائريين، الذين قضوا غرقاً حين دفعتهم مفارز الشرطة الفرنسية إلى مياه نهر السين، في قلب باريس، أيام الجنرال دوغول دون سواه؟ وماذا عن المفارقة الرديفة لهذه الجريمة البشعة، والمتمثلة في أنّ قائد الشرطة الذي أعطى الأمر بقمع المتظاهرين إلى درجة إبادتهم جماعياً لم يكن سوى موريس بابون… الذي شاءت فرنسا أن تحاكمه علانية بتهمة تسهيل تسليم اليهود إلى النازيين؟
الفقه اليهودي، حول التاريخ والذاكرة مثلما حول الكارثة وتعريف الضحية، يميل هنا بالذات إلى تمييز نرجسي فاضح لا يليق بحقائق السجلّ التاريخي، ولا يساوي بين ضحية وضحية أخرى في الكرامة الإنسانية وحقوق واستحقاقات الذاكرة. وأبرز ‘فقهاء’ اليهود في هذا المضمار هو إيلي فيزل (حامل جائزة نوبل للسلام لعام 1986)، والذي رفض ويرفض أي وجه للمقارنة بين الجثث البريئة التي يحفظها الأرشيف التاريخي هنا وهناك في أرجاء البسيطة، وبين الجثث ‘الفريدة المنفردة’ التي تهاوت واحترقت في الهولوكوست. إنه، أيضاً، يرفض حتى الإستخدام المجازي (الركيك في واقع الأمر) لتعبير ‘الهولوكوست الجديد’ و’أوشفيتز الجديدة’، عند وصف جرائم الصرب في البوسنة والهرسك. ولكي يقطع الشك باليقين، سافر ذات يوم إلى سراييفو ليناشد الصحافيين الكفّ عن هذه ‘الميوعة’ في ابتذال ما هبّ ودبّ من مصطلحات مقدسة!
وليس الأمر أن فقه الذاكرة اليهودي لا يرى المأساة كلّ المأساة في ما جرى ويجري هنا وهناك، بل المنطق ببساطة هو التالي كما يجري على لسان فيزل: ‘أوشفتز سوف تظلّ فريدة في التاريخ المسجّل لأنها انطوت على إبادة شعب بأكمله، حتى آخر طفل وآخر أسرة وآخر نفس. لا أحد سيقنع الثاني بأن رادوفان كراجيش وراتكو ملاديش، على قسوتهما، يسعيان لإفناء آخر مسلم’. حسناً، وماذا إذا كانا يسعيان لإفناء المسلم ما قبل الأخير مثلاً؟ أو يحذوان حذو أبناء عمومتهما من الفاتحين البيض في إفناء عشرات الملايين من الهنود الحمر والأقوام الأصلية، وترك الآلاف فقط كعيّنات لتسميد العالم الجديد في أمريكا البكر، كمثال ثان؟ وفيزل لا يكفّ عن ارتكاب زلة اللسان (ممّا يسقط عنها هذه الصفة، في نهاية المطاف)، حين يطلق على ضحايا اليهود صفة ‘الشعب’، ويطلق على الضحية البوسنية صفة ‘المسلم’، فينقل تعاطفه الإنساني من المستوى المبدئي إلى مستويات الفرز، حيث يتوجب أن ينعدم أي مستوى في واقع الأمر. زلة اللسان ذاتها جاءت في نصّ اعتذار الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية، فتحدث الأساقفة عن ‘شعب’ يهودي، وليس عن فرنسسين يهود، مارست ضدّهم النازية سياسة تمييز على أساس المعتقد الديني.
بالمقابل، يذكّر الإعتذار الراهن بالصمت المطبق الذي ما تزال تمارسه الكنيسة الكاثوليكية الإسبانية، والفاتيكان بأسره بمعنى ما، إزاء عمليات الإبادة الجماعية التي مارسها الفاتحون الإسبان ضدّ الأقوام الأصلية الأمريكية (الهنود الحمر في تسمية كريستوفر كولومبوس)، وسط لامبالاة الكنيسة، ولكن… وسط مباركتها للمذابح في أمثلة عديدة! والتاريخ يسجّل أنّ المبشّر ورجل الدين كان العمود الرابع في تنفيذ الفتح، بعد الملاّح، والكاتب المؤرّخ، والفاتح العسكري. وفي كتابه الشهير ‘دموع الهندي’ يشرح الأب الدومينيكاني بارتولوميو لاس كاساس الفظائع الرهيبة التي سكت عنها الآباء والمبشّرون، بل شجّعوها تحت دعوى التنصير الإجباري لهذه ‘الأقوام الهمجية’. في موازاة دفاع الأب لاس كاساس عن المساواة بين البشر، توفّر دفاع الفقيه الإسباني خوان دي سيبولفيدا عن التمييز الصريح بين البشر، والذي تساءل بقحة: ‘كيف يمكن لأحد أن يعتبر غزوهم، وإبادتهم في حالة الضرورة، أمراً غير مبرر وهم على ما هم عليه من همجية وبربرية ووثنية وكفر ودعارة’؟
وهكذا، فإن اعتذار الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية من يهود فرنسا كان سيكتمل تماماً في معانيه الإنسانية والتاريخية والسياسية والفقهية لو أنّ الكنيسة تذكّرت الأنماط الأخرى من الضحايا… ضحايا آلة الدولة ذاتها والجلاّد الغربي ذاته. وكان الإعتذار سيكتسب معنى أكثر غنى للإخاء والحوار بين العقائد، لو أنّ الفقه اليهودي بادر إلى توسيع دائرة الذاكرة قليلاً. ومن مصادفات الأقدار، إذا كانت هذه محض مصادفات في نهاية الأمر، أنّ غضبة مجموعات الضغط اليهودية ضدّ الفاتيكان استعرت وتستعر في سياقات صمت العالم المتمدّن على الهمجية الإسرائيلية في غزّة، حيث تصبح صفة المحرقة ذاتها أعجز من أن تصف نطاق الحرق والإبادة والإفناء، وحيث أفران الغاز المعاصرة قائمة في الهواء الطلق، في رابعة نهار المجتمع الدولي الذي يرعى أخلاقياته أمثال ساركوزي وميركل وباراك أوباما.
وكان الفيلسوف الفرنسي اليهودي جوليان بيندا هو الذي قارن فرسان هذا الفقه من المثقفين اليهود، بموظفي الكنيسة الكاثوليكية أيام القرون الوسطى: إدفع من الدوقيات الذهبية، بقدر ما ترغب في احتكاره من أشبار الفردوس!

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى