صفحات مختارةعمار ديوب

في أزمة المثقف التقدمي

عمار ديوب
بدت سنوات الخمسينيات والستينيات حافلةً بالفكر والثقافة والسياسة والأدب، وعززت اتجاهات وسلوكيات وأفكار أساسية في الوعي العام. فقد حاول حينها المثقف تشكيل رؤية ونظريات وأفكار عن المجتمع والسياسة والاقتصاد والتراث والأدب بكل أنواعه. وبحدوث النكسة، وبتأبد مشروع الدولة القطرية، تكسرت الأحلام، المشاريع، وتهشمت الرؤى. وما ظهر بعد ذلك، لا يعدو أن يكون رجع صدى، أو أثار ثقافية لمرحلة سابقة أشرّت لسقوطٍ مريعٍ؛ تبيّنت فصوله لاحقاً في افتقاد العالم العربي لأي مشروع جديّ للتغيير فيه.
إذن، رويداً رويداً انسحب المثقف النقدي من المشروع العام لصالح الأمة أو المجتمع بكليته نحو مشروعه الخاص والعائلي. وتحوّل قسم من المثقفين عن المشروع التقدمي نحو المشروع السياسي الديني، ولاحقاً المشروع الليبرالي. ونظراً لهشاشة المشروعين وانعدام جاذبيتهما في العالم العربي، ومحدودية البرامج والأحلام التي يحملانها، فإن المثقف المتحوّل أصبح عبئاً ثقيلاً على المجتمع بدلاً من أن يكون مساهماً في تغييره. وبخلاف ذلك فإن من استمر في تقدميته، لم يستطع تجاوز إشكالية سقوط الدولة السوفياتية وتراجع دور اليسار فكراً وأحزاباً عن الفعالية المجتمعية، وإشكالية السطوة الإعلامية الأميركية عن تغيير العالم ديموقراطياً.
ولو حاولنا التحديد الدقيق لابتعاد المثقف العربي عن دوره التقدمي فقد نعيده للأسباب التالية:
ـ هيمنة قيادات تاريخية،لا تحول، ولا تزول، عن المواقع القيادية للأحزاب السياسية.
ـ ملاحقة الدولة القطرية بواسطة أجهزتها الأمنية لكل صوت نقدي أو تحليلي وكرهها لأية رؤى أو تنظيرات فكرية، وإيداع عدد كبير من الشخصيات المثقفة في السجون.
ـ سيادة عقلية فاسدة، تحلّل وتبرّر، كل فعل رديء وتافه.
ـ عدم ثقة المثقف بالمشروع التقدمي، خاصةً مع تطور الأحزاب من أحزاب ثورية ضد الاستغلال وضد الكيان الصهيوني إلى أحزاب تشرعن الاستغلال باسم الإصلاح وتعمل من أجل «السلام الدولي» وتعيد تصالحها مع المؤسسات الدينية والتقليدية.
وقد أدت هذه الأسباب، إلى تحولات عميقة لدى المثقف التقدمي. ومن أبرز تجلياتها:
تخليه عن المشروع القومي والاشتراكي وتحوّله نحو المشروع القطري أو الديني أو الليبرالي.
البحث عن المشروع الخاص والتحاقه بمؤسسات السلطة من صحافة أو مراكز بحوث أو كراس جامعية. السفر والهجرة والاهتمام بقضاياه الخاصة مع اهتمامه الشديد بالمنظمات غير الحكومية المدعومة من جهات عولمية وربما من الدول الغربية. وكذلك الانخراط في المنظمات غير الحكومية من منظمات حقوق الإنسان أو لجان المواطنة أو المجتمع المدني أو لجان المرأة وما في حكمها.
عدا عن ممارسة النقد الإيديولوجي الليبرالي الممتلئ بالنقمة والثأر من كل ما يخص القومية أو الاشتراكية أو الشيوعية أو العمل العام.
وضعية المثقف هذه، تزامنت مع تكلّس المجتمع وتفتّته إلى بنى ما قبل حديثة، وهيمنة ليبرالية عولمية مترافقة مع صعود الهيمنة الأميركية على العالم، مع إفلاس نفسي ومعرفي وسياسي لأصحاب الفكر التقدمي، لا تزال أثاره جاثمة في ممارسات المثقفين على اختلاف أشكالها.
هذه الوضعية، جعلت المثقف وكأنه مقطوع الارتباطات عن العلاقات الاجتماعية والسياسية، ولديه قدر كبير من التناقضات في أفكاره، وغير ماسكٍ على جوهر قضيته أو على ذاته المشتتة لجهة ضبط موضوعات المعرفة. رغم محاولاته الاجتهاد والبحث عن جدارٍ يستند إليه في الدفاع عن رؤاه؛ التي، ولسخرية القدر، لم تعد تثير الالتفات والانتباه. أما الاتجاه الغالب لدى المثقفين، فكان التحوّل نحو الفكر والسياسات والمواقف المرتبطة بالليبرالية والدفاع عن الطبقة الرأسمالية والعولمة الرأسمالية، والاكتفاء بالتنظير الإصلاحي على أرضية التحوّل المشار إليه. وتبني هذه الأفكار، باعتبارها تتضمن الحلول للمشكلات المستعصية في عالمنا العربي.
ان الواقع ، دفع بعض المثقفين لإظهار الرهافة في الكتابة والبدء بالنقد الهادئ للعقيدة الليبرالية الجديدة، وإن ظل أصحاب هذه العقيدة، الأكثرية التي تفكر بدون عقل وتتكلم بدون منطق وترى بدون أعين ـ وهذه حال كل عقيدة هابطة ـ معجزات الليبرالية العربية والاحتلال الأميركي في اجتراح الديموقراطية والحرية والرفاه الاقتصادي!. وبالتالي ومن جراء ذلك، يحقق ـ بعض المثقفين ـ مشروعهم الخاص، حيث كل مشروع ليبرالي في عالمنا العربي في زمن الامبريالية العولمية هو مشروع خاص! وهو ما يعمّق أزمة المثقف التقدمي، ويبعده عن الإتيان برؤى وتنظيرات وبرامج تساعد في التخلص من أزمته وأزمة الواقع السوري والعربي.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى