صفحات ثقافية

جناية المترجِم على رواية (العاشقات)

null
فهد الشقيران
فهد الشقيران من الرياض: عاد الجدل إلى موضوع الترجمة بعد أن فتح النقّاد النار على “مصطفى ماهر” حينما قام بترجمة رواية “عاشقات” للنمساوية الحائزة على نوبل الفريدة يلنيك، والنقد في نظري هو نقد صحّي لأنه أعاد موضوع الترجمة والمترجمين إلى الواجهة، ففي كل يوم تطلع علينا تقليعة أو شطحة من بعض المترجمين، وقد طُبعت هذه الرواية من قبل “الهيئة المصرية العامة للكتاب” هذا مع أن مصطفى ماهر مترجم نافع أسهم على مدى خمسين عاماً، في التعريف بكبار المفكرين الألمان مثل كافكا وجوتة وشيللر وهيرمان هيسه، لكنه فاجأنا بنظريته عن الترجمة، وقد صدمني شخصياً أنه حذف وأفسد في رواية “العاشقات” وقد برر فعله هذا في حديثٍ صحافي له قائلاً: (أرفض أن أنقل أي تعبير يتسم بالوقاحة أو الفجاجة، أنا أعرف حدودي تماماً  أنا صاحب رسالة وإذا صادفت في نص ما مفردات لا تعجبني، لا بد أن أتصرف) صحيح أن الترجمة تقتضي التصرف في عبارات ليس لها مقابلات في العربية، وهو التصرف الذي تبرره “استنادات لغوية” أما التصرّف الذي تسببه “استنادات ثقافية أو أخلاقية” فهو موضع اعتراضي ونقدي هنا.
لقد حذف صفحاتٍ من الرواية وهي جناية فادحة، والمشكلة أن عذره أقبح من ذنبه، اقرأه وهو يبرر فعله هذا قائلاً: (أود أن أشير إلى أن مَن يترجم النص بما ورد فيه من مفردات «قذرة» سيفسده، لأن يلنيك عندما كتبتْها كانت تتحدث عن عادات خاصة بالنمساويين وغير متعارف عليها عندنا، ليس مطلوباً مني أن أقدم خمس صفحات كاملة تصف فيها المؤلفة الحبيب وما يفعله معها بتفاصيل بالغة الحساسية)! كأنه هنا يريد تقديم نصٍ آخر! كان من المفترض على هذا المترجم أن يسمي الترجمة (مقتطفات من رواية العاشقات) وأن لا يخدع القارئ بأنه ترجم الرواية كلها، بينما هو مترجم أنقص من النص الأصلي، إنها جناية على الرواية، بحجة حماية “الأخلاق العربية” من الأخلاق النمساوية، وقد اعترف المترجِم أنه سبق وأن فعل الاجتزاء والرقابة المجّانية من قبل، قائلاً: (قدمت للقارئ العربي رواية “الأقزام العمالقة” وكان بها مشهد جنسي خطط له الأبناء بين أبيهم وأمهم لينجبا طفلاً يكمل لهم فريق الكرة! ولم أترجمه بكل تفاصيله كما جاء في الأصل) إنها ترجمات تعبث بنصوص عيون الأدب العالمي لمجرّد أن أصحابها يدّعون أنهم صاحب “رسالات”، وحول ذلك الحديث وتلك الملابسات أسوق مقاربات نقدية عبر المحاور الآتية.
صعوبة الترجمة في العالم العربي:
في مسألة الترجمة لا يمكننا إنكار الصعوبة التي تواجه المترجم العربي حينما يهمّ بإنجاز مشروع تحويلي من لغةٍ إلى أخرى، وهذا يعود إلى ضعف التجربة العربية في مجال الترجمة، مع أن “الترجمة” هي الوسيلة الأبرز للاحتكاك الإيجابي مع أي ثقافة أخرى، والانكفاء على الذات ضد الترجمة يعني نفي الذات بمحتوياتها خارج الزمن. والتجربة العربية القديمة مع الترجمة تجربة هامة، ففي معرض الحديث عن “العقائد” مثلاً في الأدبيات الكلاسيكية يتعرض عمل مشروع الترجمة الذي افتتحه المأمون لهجوم شرس، وتعزى إليه كل الانقسامات المذهبية التي تلت ذلك المشروع، بينما لا يلتفت إلى الثمار الإيجابية التي جاءت من تلك “الترجمة” ومنذ ذلك الوقت ومشروع الترجمة يرتبط دائماً بالحديث عن الهوية والانكفاء على الذات ويرتبط الحديث عن الترجمة بالرقابة على ما يمكن ترجمته، ومن جانب أعنف يتم إقصاء من يقوم بترجمة الأعمال المغضوب عليها في الغرب لذا بقيت الكتب المثيرة والمهمة والتي أثارت ضجيجاً في الغرب بمعزل عن “الترجمة” وأصبحت الترجمة الآن في العالم العربي في حالة ارتباك حاد وأصبحنا إزاء “فوضى دلالات” وفوضى “ترجمات” فنجد مثلاً في الترجمات الحديثة أن مفردة مثل (Déconstruction) والذي يترجم عادة على أنه (التفكيك) قد ترجم إلى أكثر من 12 كلمة مرادفة. ويدخل في سياق تلك الفوضى عدم تكوّن رؤية خاصة منهجية لدى المترجم تجعله يجمع بين “أخلاقيات الترجمة من الناحية الأدبية” والتي تعني أن النص المترجم يؤتى به من دون إنقاص، أما إن أراد ترجمة نصٍ ما مع اقتطاع أجزاءٍ منه فليكتب على عنوان الكتاب “مقتطفات” من الرواية الفلانية، أو الكاتب العلاّني، أما أن يقع المترجم في خداع القارئ لمجرد تهويمات ذاتية، ورقابة فكرية على مجتمع من المحيط إلى الخليج فهذه مجازفة، والعبء على المؤلف الأصلي أن يراقب من يترجم له، وأن يلاحقه قانونياً حينما يعبث بالنص الأصلي ويشققه ويحيله إلى أجزاء متناثرة.
-كل ترجمة هي خيانة، ولكن هذا لا يعني ممارسة الجناية:
أظن أن اقتراح جاك دريدا بالاستعاضة عن مفهوم “الترجمة” بمفهوم “التحويل”Transformation اقتراح علمي دقيق، حيث يرى دريدا أن الترجمة هي عملية (تحويل من لغةٍ للأخرى ونصّ للآخر) لذا لا يمكن أن تكون الترجمة كما تريد “الميتافيزقيا” أن تكون طبق الأصل، لأن إعادة الأصل ممتنعة، والترجمة تقوم بالأصل على منهجية تعني تفريخ الفوارق، وفعل الترجمة مهما كان دقيقاً هو فعل “نسخ” أو فعل “تأويل” خاصة في الجوانب الفلسفية، أو الجوانب الأدبية العميقة، كما هو الحال في الأدب الصلب، حتى أن هيدغر اعتبر “الشرح” حتى وهو يحدث داخل اللغة الواحدة نفسها ضمن أنواع “الترجمة”، لذا فإنني أتفق مع الباحث والمفكر المغربي عبد السلام بنعبد العالي حينما ألمح إلى أن “كل ترجمة هي خيانة للنص الأصلي” لكنها خيانة ذات أبعاد إيجابية، ذلك أن الترجمة هي عملية توليدية قيصرية تتم من رحم النص الأول، وربما فاقت الترجمة شهرة النص الأصلي، كما في شرح هيبوليت لهيغل، وربما أخفقت أيما إخفاق، كما أن بعض الشروحات قد تتخذ كتراجم كما فعل بعض الأوربيين مع شرح ابن رشد لأرسطو، لذا أعود إلى بنعبد العالي وأؤيده حينما كتب (الخيانة هي سمة الكتابة ذاتها) لكن الخيانة هنا ليست الخيانة السطحية الشعبية أن يتم العبث بالنص وإنما نعني أن أي ترجمة مهما كانت دقيقة فهي تحاكي النص الأصلي وتخونه، لذا ليس إثبات دوران الخيانة مع الترجمة يعني الاعتذار للترجمات السخيفة وإنما يعني أن الترجمة الدقيقة هي التي تستطيع أن تحاكي النص لدرجة خيانته، لا الترجمات التي تسرق النص وتختطفه لصالح فهمها وأغراضها فهذه ليست ترجمة وإنما جناية علمية تستحق النقد وللمؤلف الأصلي حق الملاحقة والمتابعة والمحاسبة.
-مهمة المترجِم:
مهمة المترجم أن يضع القارئ في نصٍ مترجَم فاهمٍ للنص الأصلي ومدرك لجذوره وعروقه، لذا فأنا أفرق-خاصة من الناحية الفلسفية- بين الترجمات “الحرفية” و “الترجمات البحثية” الترجمات البحثية العميقة حيث تتطلب الترجمات البحثية مترجماً واعياً بما يقرأ، فالفيلسوف حينما يُترجم عملاً فلسفياً ينتج إبداعاً إضافياً، تتجلى الترجمة هنا بوصفها تأويلاً يضيف على النص الأصلي نصاً حديثاً، حيث تتحول الترجمة البحثية إلى عمل فلسفي فاخر، لذا نجد الترجمات البحثية من أقل الترجمات في العالم العربي على الإطلاق، ذلك أن المترجم أحياناً لا يعرف النص الأدبي أو الفلسفي الذي يترجمه، ولا يعرف ظروف وخلفيات الأديب، ولا يعرف “القاموس الشخصي” الذي يستخدمه الأديب صاحب النص الأصلي، لذا تقع الأخطاء الفادحة. والكارثية. بالنسبة لحذف المترجِم لنصوص كاملة بحجة “حراسة الأخلاق” فهذا عمل رقابي تقوم به وزارة الإعلام أو الهيئات الدينية، أما أن يقوم به المترجِم نفسه، فإن هذه انتكاسة فادحة، حيث أصبح المثقف يمارس الرقابة والتقطير الفكري على المجتمع عبر سدّ نوافذ الآخر وتشويه نصوصه، فمهمة المترجم نقل النص بكل مراداته، فحينما نترجم نصاً لكاتب ملحد ليست مهمة المترجم أن يجعله يبدو ككاتب “مؤمن”!
-ممارسة الحراسة مهمة البوليس، وليست من مهام المترجم:
ممارسة حذف كامل لنصوص أو مربعات نصية كاملة هذا عمل غير علمي إطلاقاً وإنما هو فعل بوليسي، والترجمات التي مارسها المترجم العربي منذ عهد المأمون وإلى اليوم ترجمات كاملة، ويأخذ الناس ما وافق هويتهم ودينهم وآراءهم ومعتقداتهم، ويتركون ما خالفها، أما أن يقوم المترجم –شخصياً-بالشطب والطمس للنص الأصلي ليبدو متفقاً مع الأخلاقيات والعادات العربية فهذه ليست من مهام المترجم والعبء على صاحب النص الأصلي أن يحافظ على أي نصٍ يكتبه، من عبث المترجمين، وأن يختار من يترجمه، كما هو الحال لدى أدباء كثر من بينهم الفيلسوف والروائي الإيطالي “أمبرتوإيكو” حيث يقومان بمتابعة الترجمات لرواياتهما من عبث المترجمين وممارساتهم الوعظية. وكما فعل الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس حينما راقب ترجمة كتابه الأخير إلى العربية (نحو نسالة ليبرالية).
جناية المترجم على النص:
من غير المعقول أن يكتب الروائي روايته وهو يريد قصداً أن يبدو البطل “شريراً” ثم يقوم المترجم بتحويل بطل الرواية إلى “خيّر” هنا فعل (جناية) على الرواية، وفعل سطو يستوجب من المؤلف متابعة الترجمة وإيقافها بقوة القانون، لأن هذا (عبث) ولا يدخل في جانب الترجمة في شيء، لذا يجب أن يدرك المختص في مجال الأدب “الغش” الذي مسّ تلك الترجمة أو سواها وأن يحاول العثور على ترجمات أفضل وأدق، ولعل دخول جانب التجارة في مجال الترجمة خاصة الترجمات الحرفية جعل هذا المجال من المجالات المستباحة، مع أن الترجمة هي مجال حيوي من مجالات “علم اللغة”، وليس كل من أتقن لغةً استطاع ترجمة نصوصها، فالترجمة تحتاج أيضاً إلى ثقافة وعقل متميز فاهم ليتجنب مخاطر ومنزلقات فوضى الترجمات.
ايلاف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى