صفحات مختارةوهيب أيوب

حَفنَةُ تنويرٍ وكُثبانُ التكفير

وهيب أيوب
مُنذُ انطلاق أول فكر تنويري وفلسفي في التاريخ العربي الإسلامي، كان على أصحاب ذاك الفكر الحرب على أربع جبهات، لا تقلُّ إحداها عن الأخرى عتواً وشراسة.
أما الأولى، فهي السلطة السياسية المُمسكة بزمام الحكم والخلافة، ولا حاجة للقول باستبدادها وطغيانها، فتاريخها يشهد لها بذلك. وأما الثانية وهي سلطة رجال الدين وخاصة الأصوليين منهم، فلم يكونوا أقل استبداداً وقهراً للفكر والفلسفة من السلطة السياسية، وهم في تأرجحٍ دائم بين موالاة السلطة والحاكم ومنازعته إياها، وتبقى النتيجة واحدة على أصحاب الفكر والرأي والتنوير، فهم الواقعون دائماً بين حجري الرحى، ليكون طحنهم وسحقهم نافِذاً في مجمل الأحوال.
وتتشكل الجبهة الثالثة من مُثقفي السلطة والحكم، الذين أسماهم المتنبي بـ “العضاريط”، وهم المثقفون النهّازون الذين يرتزقون، أي الذين يأكلون من طبقِ السلطان ويضربون بسيفه، سواء لملء بطونهم أو جيوبهم. وهم مُجرد تَبَعة، وما أكثرهم بالأمس واليوم، وقد يزدادون غداً.
والجبهة الرابعة، وهي الأكثر عدداً وعبثاً وجهلاً، فهي جمهور الغوغاء، الذين ما اجتمعوا يوماً إلا وناصروا النقل على العقل، والنص على الاجتهاد، والثابت على المتحوّل، والسلف على الخلف، والمتشدّدين على المنفتحين، وأهل الدين على أهل العلم والفكر والرأي. فلا ترى الغوغاء إلا مهللةً مزغردةً تكبِّر لله، كلما ذُبح أو جُلِد أو أُحرق أحدٌ من أهل الفكر والعلم والفلسفة. ولكم في بعض النماذج عِبرة..
المُعتزِلي الشهير، غيلان الدمشقي، عارضَ، بإرادة لا تُقهَر، سلطة الأمويين واضطهادهم للناس وإفقارهم، فأمر الخليفة هشام بن عبد الملك بتقطيع يديه، فما ارتدع، ثم أمر بتقطيع رجليه، فاستمر بإثارة الناس على الظلم، فقال أحدُ المقرّبين للخليفة هشام: لقد قطّعت يديه ورجليه، وما الفائدة وقد أبقيت على لسانهِ…؟ فأمر هشام بقطع لسان غيلان، فمات على أثرها، ثُمّ صُلِب على أسوار دمشق.
الفيلسوف الشهير، يعقوب بن إسحاق الكندي، الذي ألّف ما يفوق الـ300 كتاب في مختلف العلوم؛ كالفلسفة والفلك والحساب والهندسة والطب والفيزياء والمنطق والموسيقى، وغيرها، عوقِبَ على ما اقترفت يداه من كتابةٍ، وعقله من تفكيرٍ، بأن جُرِّد من ملابسه، وهو في سن الستين من عمره وجُلِد ستين جلدة، وسط تهليل الناس وتكبيرهم.
الآخر هو الفيلسوف الطبيب، أبو بكر الرازي، الذي اتُهِم بالإلحاد والزندقة، والذي ألّف ما ينوف على المئتي كتاب، أيضاً في مُختلف العلوم، كان نصيبه بأن يُضرب على رأسه بأحد الكتب التي ألّفها حتى فقد بصره، وجماهير الغوغاء فرحة تهلل للعقاب الذي أُنزِل بهذا الزنديق….!
وأكثر ما يُثقِل على النفس أسىً وحزناً، هو قصة ما جرى لأعظم فلاسفة عصره، الذي استقى منه الغرب علمه وفلسفته، هو الأندلسي ابن رشد، الذي أُحرِق بيته وكتبه، وطُرِد من قرطبة بعد أن كان قاضي قُضاتها. وكفاية المهزلة، أنّه حين وصل إلى منفاه في مدينة فاس بالمغرب، أُوقِف على باب مسجدها، لكي يبصق عليه الداخلون إليه والخارجون منه.
وأما الفيلسوف المتصوّف أبو حيّان التوحيدي، فقد ضاق ذرعاً بعصره، فقام بجمع كتبه وإحراقها، لمّا أيقن بعدم جدواها، وأقدم كُتّاب آخرون على دفن كتبهم تحت التراب، خوفاً من اكتشافها وما قد ينالهم من سوء نوازلها.
وعبّر شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، و “زوبعة الدهور” كما وصفه مارون عبّود، ورهين المحبسين، أبو العلاء المعري، عن ضيقه وحنقه بجهلِ العامة، حين قال:
ولما رأيتُ الجهلَ في الناسِ فاشياً **** تجاهلتُ حتى ظُنَّ أني جاهِلُ
ومن أراد الاستزادة من تلك النماذج، فعليه بكتابين، أحدهما للمفكّر جورج طرابيشي “مذبحة التراث”، والآخر للدكتور يحيى الجبوري “محن الشعراء وما اصابهم من السجن والتعذيب والقتل والبلاء”، الذي يقع في 294 صفحة، ويتناول شتى صنوف القتل والتعذيب، كقطع الرؤوس وسمل العيون، وتقطيع الأعضاء والحرق والجلد والسلخ وتكسير العظام وغير ذلك، وكان من بين الضحايا الشاعر الأعشى وهو من فحول الشعراء كما قال عنه الأصمعي، والذي قطع رأسه الحجّاج بن يوسف الثقفي. يستعرض الجبوري في كتابه، 29 شاعراً وأديباً وعالماً وقاضياً، وهؤلاء مُجرّد عيّنة قليلة من المذبحة التي ذكرها طرابيشي في كتابه السالف ذكره.
ما كُنا لننكأ جراحاً مرّت عليها قرون من الزمن، فلسنا من هواة هذا النبش المؤلم، لولا استمرار المذبحة حتى يومنا هذا؛ من قتل الفكر والمفكرين ومحاكمة المبدعين بحجج الكفر والبدع.
إن أعظم داءٍ تواجهه الثقافة العربية والمثقفون في عصرنا الراهن، هو خيانة غالبية المثقفين لدورهم الطليعي المفترض القيام به والتضحية من أجلهِ، فترى معظمهم يناوئون نظاماً استبدادياً في مكانٍ ما، ويرتمون في أحضان نظامٍ آخر من ذات الصنف الاستبدادي، فيجلسون في حجرِهِ ويكيلون له المديح، ثمّ يُدينون قمع الاحتلال الأجنبي، ويسكتون، بل يسايرون أنظمة القمع والاستبداد في أوطانهم..! تارة يقفون إلى جانب المظلوم، وتارة الظالِم، مرّة مع الحق وأُخرى مع الباطل، ثُمّ يدينون أمريكا والغرب بازدواج المعايير…؟!
لهذا فإن مفهومهم للحرية والتحرّر ما زال مشوّهاً ومُجتزأً لدى المثقف العربي، ولا يصبُّ مُطلقاً في دور المثقف النزيه الصادق في توجهاته من أجل التغيير الحقيقي في المجتمع. ولا يُفهَم هذا التناقض الصارخ لدى المثقفون العرب إلا في سياق التحليل التاريخي للشخصية العربية النمطية وموروثاتها المُختَزَنة، وعدم اكتمال وعيها ومفهومها، لِما تعنيه كلمة حريّة ومفهوم الحق والعدل، بمعناها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والأخلاقي الإنساني، وهم ما زالوا يجّترون التراث. لهذا فبعضهم لا تُفرقهم عن الغوغاء.
في هذا الشأن، ومع اختلاف المفكرين في تحديد معنى الثقافة والمثقف، إلا أن الفيلسوف الفرنسي جوليان بندا، وخلافاً لغرامشي وسارتر وغيرهم، وضع مفهوماً صارماً في تعريف المثقف، في كتابه “خيانة المثقفين”، يذهب إلى حدّ، أن المثقفين هُم عصبة صغيرة من الملوك- الفلاسفة، الذين يتحلَون بالموهبة الاستثنائية وبالحس الأخلاقي الفذ، ويشكّلون ضمير البشرية.
وهؤلاء على استعدادٍ دائم للموت والحرق والتعذيب، دون أن تنال من عزيمتهم وتصميمهم أي سلطة كانت، وهم غالباً معارضون للأوضاع الراهنة. ويضع بندا على رأس هؤلاء السيد المسيح وسقراط وفولتير وسبينوزا.
ونختتم هنا بالمقولة: إما أن يكون المثقفون الحقيقيون أول فدائيي الحرية، أو ضحايا الاستبداد الأُوَلْ.
الجولان المحتل/ مجدل شمس

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى