الدور التركي في المنطقةصبحي حديديصفحات العالم

أوباما في تركيا: بلد واحد يختزل ‘العالم المسلم’

null
صبحي حديدي
كان لافتاً أن يختار الرئيس الأمريكي باراك أوباما البرلمان التركي (وليس الأندونيسي مثلاً، كما قالت ترجيحات مبكرة) لمخاطبة العالم المسلم، ولإعادة ترسيم العلاقات المستقبلية بين البيت الأبيض وهذا العالم، في مستوى شعوبه وقضاياها الكبرى، إسوة بأنظمته ومصالحها الصغرى. وكان أوباما قد استبق هذه الخطوة بإعادة تأكيد الموقف الأمريكي لإدارتَيْ جورج بوش وبيل كلنتون، حول ضرورة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي: ‘يجب على الولايات المتحدة وأوروبا الاقتراب من المسلمين بوصفهم أصدقاء لنا، جيراننا وشركاءنا في محاربة الظلم، والتعصّب، والعنف’، قال أوباما في براغ.
لكنّ خطبة أوباما أمام البرلمان التركي هي التي ستتولى التشديد على البُعد الثقافي (الديني والحضاري والتاريخي، في معانٍ أخرى) وراء خطوة كهذه بصفة خاصة، ثمّ إبراز الخلفية الستراتيجية والجيو ـ سياسية لعلاقة الغرب بالعالم المسلم، وبالإسلام عموماً. ولسوف يقول أوباما، في مثال أوّل: ‘ما يربط تركيا بأوروبا هو أكثر من مجرّد جسر على البوسفور. تجمع بينكم قرون من التاريخ المشترك، والثقافة، والتجارة. وأوروبا لا تضعف، بل تكسب، من تعددية العرق والتراث والعقيدة. وعضوية تركيا سوف توسّع وتقوّي الأساس الأوروبي من جديد’. وفي مثال ثانٍ، أوضح ربما، أعقب التأكيد على أنّ أمريكا ليست في حرب مع الإسلام، قال أوباما: ‘سوف نصغي بانتباه، وسوف نجسر سوء التفاهم، وسنسعى إلى أرضية مشتركة. وسوف نلتزم بالإحترام، حتى عندما لا نتفق. ولسوف نعبّر عن تقديرنا العميق للعقيدة الإسلامية، التي فعلت الكثير في صياغة العالم على مرّ القرون، بما في ذلك داخل بلدي. لقد اغتنت الولايات المتحدة بالأمريكيين المسلمين. والعديد من الأمريكيين الآخرين ضمّوا مسلمين في عائلاتهم، أو سبق لهم العيش في بلد ذي أغلبية مسلمة، وأعرف هذا لأنني واحد منهم’.
وإلى جانب مستقبل التعاون الأمريكي ـ التركي في ملفات سياسية كبرى مثل العراق وإيران والسلام العربي ـ الإسرائيلي والقضية القبرصية وأفغانستان والباكستان وناغورني ـ كارباخ، كانت الركيزة الفكرية، أو الثقافية لمَن يشاء، في خطاب أوباما هي امتداح التجربة الديمقراطية التركية. وهو مديح شمل سيرورة نشوئها (ومن هنا جاءت فقرة التغنّي بشخص مصطفى كمال أتاتورك)، ثمّ التطورات اللاحقة التي عزّزتها (إلغاء محاكم أمن الدولة، وإصلاح قانون العقوبات، وتدعيم قوانين حرّية الصحافة والتعبير، ورفع الحظر عن تدريس اللغة الكردية، وإنشاء محطة تلفزة كردية، وإعادة افتتاح معهد هالكي اللاهوتي الأرثوذكسي…). وأوباما لم يغفل الإشارة إلى قضية خلافية بين تركيا وأمريكا هي المسألة الأرمنية، وإنْ اعتمد اللباقة في وصفها بـ ”أحداث 1915 الرهيبة’، فتفادى استخدام مفردة ‘مذابح’، ووضع الأمر في إطار عريض هو ‘اشتغال كلّ أمّة على ماضيها’، حيث يكون التاريخ تراجيدياً غالباً، وثقيل الوطأة’.
فهل، في الحصيلة، بلغ أوباما غايته وخاطب العالم المسلم، بروحية رأب الصدع الذي زادت في اتساعه سياسات سلفه جورج بوش على مدى ولايتَيْن، انطوتا على غزوَين وحربَيْن في ديار الإسلام؟ أو، في صياغة أخرى للسؤال ذاته، هل يمكن لنبرة الإنفتاح على تركيا، التي هيمنت على خطبتَيْ أوباما في براغ وفي أنقرة، أن تؤتي ثمارها في المدى المنظور، أي في هذه الولاية الأولى على الأقلّ، بافتراض أنها سوف تؤتى ثماراً من نوع ما، في الأساس؟ وفي نهاية المطاف، كيف يمكن لهذا العطّار ـ ذرب اللسان، حسن النوايا، سليل أب مسلم، وأوّل رئيس أمريكي أسود البشرة… ـ أن يصلح ما أفسدته دهور، سبقت بوش الابن وبوش الأب، لكي لا يرتدّ المرء إلى جورج واشنطن نفسه، أوّل رئيس أمريكي؟
هذه أسئلة لا تستحثّ عليها التواريخ العاصفة التي صنعت عصوراً متواصلة من الإضطراب والمواجهة في علاقات الغرب بالعالم المسلم فحسب، بل هي أقرب إلى خلاصات حسابية يستولدها تساؤل بسيط: هل توجّه أوباما بخطابه إلى تركيا وحدها، في نظامها الديمقراطي ـ العلماني ـ الأتاتوركي تحديداً، وبوصفها دولة أطلسية تستضيف قواعد عسكرية أمريكية أساسية؛ أم خاطب العالم الإسلامي كما يتوجّب أن تمثّله تركيا، أو كما ينبغي أن يكون على شاكلتها؟ ذلك لأنّ الفارق كبير كما لا يخفى، أو هو ببساطة صانع كلّ الفارق بين تنميط واحد أحادي لهذا ‘العالم المسلم’، وبين تنويعات أخرى شتى، وأنماط وأنساق يكاد عددها يضاهي عدد الدول المنضوية تحت ذلك التصنيف المراوغ.
فإذا رجح احتمال الفرضية الثانية، أي قياس العالم المسلم على الأنموذج التركي وليس قياسه أو قياساته كما يوفّرها الواقع العملي، فإنّ خطاب أوباما لا يأتي بجديد على الصعيد العملي، وإنْ كان جديده البلاغي جدير بامتاع هواة اللفظ من عشّاق أمريكا وحدهم. أكثر من هذا، قد تكون مطالبة أوباما بضمّ تركيا إلى الإتحاد الأوروبي متماهية، في الجوهر العميق، مع رفض أناس مثل الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي لهذه الخطوة: الأخير يرفضها لأنها مسلمة، وأوباما يريد ضمّها لأنها… مسلمة! الأخير لا ينسى ـ عن سابق قصد وتصميم، ربما ـ فصول التاريخ الدامية، العثمانية أساساً وذات الصلة بالصراعات الثقافية ـ الدينية، التي خلقت اكثر من هوّة على مستوى الوجدان الجَمعي والمزاج الشعبي والميول الحضارية. والأوّل يتذكّر لوح الرخام الذي أرسله السلطان العثماني عبد المجيد، للمساهمة في بناء نصب واشنطن التاريخي، منقوشة فيه قصيدة تطري الصداقة بين الشعبين!
وليس مستغرباً، إذْ ثمة دلائل كثيرة تقود إليه، أن يكون قياس أوباما هذا قد تأثر مباشرة بالقياس الآخر، أو ‘القياس الأمّ’ إذا جاز القول، الذي لم يجترحه الساسة أو المستشارون، بل ابتكره برنارد لويس: المؤرّخ المستشرق المعتَمد في البنتاغون؛ نافذ الرأي، محطّ المشورة؛ المختصّ بالشؤون التركية، وصاحب أعمال مثل ‘انبثاق تركيا الحديثة’، 1961، و’إسطنبول وحضارة الإمبراطورية العثمانية’، 1963، و’لماذا تركيا هي الديمقراطية المسلمة الوحيدة’، 1994، التي باتت مراجع كلاسيكية في عشرات الجامعات والمعاهد ومراكز البحث العالمية.
والتجربة التركية في الديمقراطية كانت على الدوام محطّ إعجاب لويس، ليس فقط لأنها ‘علمانية’ في محيط شرس من الفقه اللاعلماني واللاديمقراطي (الإسلامي طبعاً، وليس اليهودي أو سواه)، كما رأى؛ بل أساساً لأنها في نظره المثال الوحيد الذي نجح في أيّ مكان من هذا العالم الشاسع الواسع المترامي الأطراف، الذي يحدث أن تندرج جميع أقوامه وإثنياته وعقائده وجغرافياته في تسمية واحدة وحيدة هي ‘دار الاسلام’. ولقد بشّر لويس طويلاً، واستبشر مراراً، بالتجربة التركية في الديمقراطية التعددية والعلمانية السياسية والدستورية، هذه التي ‘لم تكن من صنع الحكام الإمبرياليين، ولم تفرضها القوى الغازية الظافرة. لقد كانت خياراً حرّاً مارسه الأتراك حين انتهجوا طريق الديمقراطية الطويل والشاقّ والمزروع بالعقبات، ولكنهم برهنوا أنّ حسن النية والتصميم والشجاعة والصبر كفيلة بتذليل تلك العقبات والتقدّم على طريق الحرية’. (أصداء هذه الجملة بالذات تتردّد، بوضوح مدهش، في عدد من فقرات خطاب أوباما أمام البرلمان التركي).
وفي ما مضى من عقود، وقبل أن يجري تدريجياً تبييض الصفحة التركية تمهيداً لإطلاق مفاوضات ضمّها إلى الإتحاد الأوروبي، شهد العالم هذه الديمقراطية وهي تترنح تحت الضربات المتلاحقة التي لم يتردد جنرالات الجيش في تسديدها إلى قلب التجربة. وفعل الجنرالات هذا مراراً وتكراراً، كلما تعيّن أن يشهروا المسدّسات استناداً إلى تقديرات مجلس الأمن القومي التركي، بوصفه الحارس الساهر على العلمانية، والوحيد الذي يمتلك الحقّ في الإجتهاد العلماني وتحويل محتوى الإجتهاد إلى قرارات ملزمة للمجتمع. وكان يستوي هنا أن يلجأ الجيش إلى القانون (المحكمة الدستورية وحلّ الأحزاب)، أو إلى حبل المشنقة (كما في مثال عدنان مندريس)، أو إلى الإنقلاب العسكري بوصفه ذروة العلاج بالكيّ.
وفي ما مضى من العقود ذاتها، شهد العالم مهازل القضاء التركي ضدّ الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرّيات العامة. ولم يكن النواب الأكراد (العلمانيون تماماً، الماركسيون أو اليساريون أو الليبراليون غالباً) هم وحدهم ضحايا هذه العربدة الدستورية. ولم يكن نجم الدين أربكان، الزعيم السابق لحزب ‘الرفاه’ الإسلامي المنحلّ، هو الوحيد الذي طُرد من باب السياسة ليعود ثانية من نافذتها. وهنا، للمناسبة، يبدو السجلّ طريفاً بقدر ما هو كافٍ مكتفٍ بذاته: حزب ‘الرفاه’، الذي لجأت المحكمة الدستورية إلى حلّه سنة 1997، كان الحزب الثالث الذي يؤسسه أربكان خلال نحو ربع قرن. الأوّل كان ‘حزب النظام الوطني’، 1970، الذي تعرّض للحلّ على يد الطغمة العسكرية قائدة انقلاب عام 1971. الثاني كان ‘حزب الإنقاذ’، وتأسس بعد وقت قصير من انسحاب العسكر إلى الثكنات، لكي يحلّ مرة ثانية إثر الإنقلاب العسكري لعام 1980. وإذا كان أربكان قد التجأ إلى سويسرا في الإنقلاب الأول، فإن رجالات الإنقلاب الثاني ألقوا القبض عليه وحرموه من سلسلة حقوق مدنية، على رأسها ممارسة السياسة. هذه الوقائع جميعها لم تمنع لويس من الإمعان، أكثر فأكثر، في التغنّي بالديمقراطية التركية، وكأننا أمام القشة الوحيدة المتاحة أمام الغريق المسلم قبل أن تبتلعه لجّة الظلمات. وفي واقع الأمر كان خطاب لويس يقول ما معناه: حسناً… ثمة جنرالات، وانقلابات عسكرية، وأحكام عرفية، ومصادرة حريات، وحظر أحزاب. ولكن، لا بدّ من قبول هذا كله في سبيل صيانة التجربة الوحيدة، بعد امتداحها بعيوبها الفاضحة هذه. ألم يكن، هو الخبير في الشؤون التركية وأوّل زائر غربي للأرشيف العثماني، خير مَنْ يعرف أنّ حرص الجنرالات على اجتثاث التقاليد العثمانية من جذورها ينطوي، في الآن ذاته، على إحياء واحد من أسوأ تلك التقاليد: العقلية الإنكشارية في التجنيد الإجباري وترقية الضباط وتشكيل مجلس الأمن القومي؟
وفي المقابل، صحيح أنّ أوباما امتدح تركيا الراهنة، الديمقراطية العلمانية رغم أنّ الحاكم فيها هو حزب إسلامي يعود بجذوره إلى التيّار ذاته الذي خلّفه أربكان؛ وأنّ حكومتها أحرجت قيادة الحلف الأطلسي حين اعترضت على تسمية رئيس الوزراء الدانمركي أندرس فوج راسموسن أميناً عاماً للحلف، على خلفية موقفه المتعاطف مع الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول؛ وأنّ مواقف رئيس وزرائها، رجب طيّب أردوغان، صنعت للغرب حرجاً أشدّ في مشافي غزّة ومنابر دافوس… ولكن، أليس من الصحيح أيضاً أنّ ‘علمانية الجنرالات’ ما تزال تمتلك سوط الردع الأعلى، دستورياً وقضائياً؛ وأنّ البلد حليف أمريكا الثاني الأهمّ في المنطقة، بعد الدولة العبرية؛ وأنّ راسموسن سُمّي أخيراً في المنصب، بل ويحضر المؤتمر ذاته الذي أتى إليه أوباما؛ وسماء العلاقات التركية ـ الإسرائيلية عادت صافية، بعد أن انقشعت سحابة التوتر العابرة؟
وفي نهاية المطاف، أليست تجارة رابحة أن يختصر أوباما العالم المسلم في هذه الـ ‘تركيا’ تحديداً؟ أليست ضربة علاقات عامة مثمرة أن يدعو إلى ضمّ تركيا، هو الذي يعرف أنّ القرار في هذا يعود إلى سواه، من أمثال نيكولا ساركوزي وأنغيلا ميركل وسيلفيو برلسكوني، في رهط الرافضين بالمطلق؟

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى