أزمة النقاب في سوريةفلورنس غزلان

حســــــاســـــيــــة

فلورنس غزلان
أن تستجير بالعقل لتهرب مما يؤذي عينيك ويحافظ على سلامة رؤياك أمراً  منطقياً، لأنك تتعرض كل يوم، بل كل ساعة لمايؤذي بصرك ويمكنه أن يلحق الأذى ببصيرتك ، ــ إن لم تكن نافذة ومتوازنة ــ ، تتسلح بدروع تشبه دروع جنود القرون الوسطى لتواجه تخلف القبائل وهجوم السلالات المريبة عالية الصوت عديمة الأثر ، تُنزل صواعقها البدوية مسلحة بريح صرصر صحراوية التنقل والنقل لقطع أوتاد  خيمتك الرقيقة الهاربة من غزوهم، خيمتك الوطنية حملتها في حقيبة الكرامة عَلَكَ تنجو لاجئاً بديار لاتتقن لغتها ، لكنها تتقن لغة الإنسان، لاتريد مساحة كبيرة لحريتك الفردية ولا تحمل من زوادة سوى مجموعة دفاتر وأرغفة حنطة حورانية، تهرب من جحيم المكبوت في قلوب ترتعش عند أول صفارة لسيارة عسكر ، أو أول لمحة لنظارات سوداء يرتديها مغفل لايعرف هويتك، ترفل ثيابك وخطواتك بأخطار شتى، لكنك تعلن الحرب على الخوف وعلى الصمت.
هارباً من وحشة ليل تجول في طرقاته أشباح أزلام تدك حوافرها كل ذرة من كيانك ، لاينتظرك سوى قنديل محبة يغذيه زيت وطن تهز برديته جسدك المرهف وتشعل نيران حنينه اللغة في سطورك معتمداً عليها كطريق للعودة، لاتعرف زخرفة ولا تحمل بيارق نصر مزيف، بل خراباً في روح بلاد غطت في نوم  الذكريات ولم تعد تعرف من أناشيد الحرية سوى ومضات الماضي تجتره في حاضر يحمل اليأس والبؤس لنوافذ أُغلقت دون الهواء ودون الريح والعواصف، فقد هوت في وادي الغيب ودفنت جسارتها المحرمة في قوانين السلالات الجديدة مذ لاحق عسكرها جموع الثقافة ومشاعل الفكر، واصطادتهم كطرائد لمهرجانات التفوق في القتل وفي معارك الاحتجاج على الصمت والتنفس ، وحَوَّلتهم لنماذج يُقاس على أساسها اكتئاب المرحلة وتدني الحس في زئبق المواطنة.
لكن قدرة الكلمة الصادقة على الخروج من فخ الموت أثبتت مصداقية القول أنها البدء في الخليقة، وأن فتوحاتها لاتحمل سيوفاً ولا تقطر دماً ولا تسفح محرماً، لكنها تضيء عتمة العقل بعد أن غلفته أيدي الظلام وتغلغلت في روحه أعشاب السلطانيات الضارة.
تقف جزعة كلمتي في حلقي ومحتارة كيف ترتب حروفها أمام انحسار النجوم وتخلي القمر والشمس عن عقول تشتريها سوق النخاسة كبلهاء تتباهى بعرس يجرها ذبيحة مستباحة على درجات قصور الملوك وفي قواميس اللغة الكسيحة ، تصورها زهرة لبستان احتلته الصحارى ونَفَّذت فيه حكم إعدام بتهمة الاخضرار وتهمة الشرب من نبع تاريخ لايحمل صورة الموؤدة ولا الموطوءة.. طفلة تسابق سيقانها الريح وتعبث بشعرها نسمات الياسمين الدمشقي…لم تغوها عصور السلاطين ، لكن نفحات الزرقة البترولية صدعت جدرانها المقاوِمة فانخرطت في قتل نفسها ووأد ابنتها في إعلام يضعها في أقفاص اليتم النسوي…
فوجئتُ بمشهد كنت أتمنى أن أكون في العالم الآخر قبل أن أرى صورة المرأة الشامية تخسر أنوثتها وتخسر وجدان جنسها لتكسب دراهم محلاة بدم نساء قضين على مذابح المحبة والعشق وزرع الورود في باحات الدار وحول بحرات البنفسج
لم أر امرأة سورية على هذا النحو من الابتذال في إعلانات تسخرها لتظهر بمظهر الساذجة كنموذج للمرأة السورية…سقطت كل النجوم أمام عيني ورأيت جداتي ثكالى تنوح وتستنجد بمروءة لن تستنفر، لأنها في طريق الاندثار …
من أجل مسحوق للغسيل تراها امرأة في مجموعة من النساء اختصرت في واحدة، تحمل أثقالا من اللحوم والشحوم لايظهر منها سوى وجه ملطخ بكل أنواع المساحيق المُقشِّرة لأنوثتها ، التي انتهت صلاحيتها منذ زمن بعيد، منذ أن ارتضت هذا الذل وكل هذا الهوان لتكون جسداً ملفوفاً بطبقات من الأكياس القماشية ووجهاً محشوراً بين دفتي حجاب  يختفي وراء كميات من الأصباغ الكيميائية الملونة. …كرت السبحة بصور أخرى أكثر نفاقاً وأشد تزويقاً…هذه هي المرأة السورية!!!..كدت أختفي من أمام الشاشة،أبحث عن مخبأ يجهل سوريتي،  أصابتني حساسية مفرطة فراحت أظافري تحك بشدة  لاحدود لها مسام جلدي أحس بالاختناق أريد لجسدي السوري أن يتنفس ..أن يدخل الأكسجين مساماته حتى الأعماق…لا… لاتمثلني هذه الصورة..لاتمثل أمي ولا جدتي…لاتمثل جارتي ولا صديقتي…لاتمثل ابنتي ولا حفيدتي…إنها صورة للبيع…صورة للاختزال…تشوه معالم الجمال الشامي وتجعل منه كيساً من البطاطا محشواً بقطرميز من القماش…يدعي الطفولة وهي منه براء…يدعي الانتماء وهو هارب منها إلى فيافي الاختفاء..يغطي وجهه خوفاً وخجلاً…يريد أن يمحي صورة نجوم تمشي في جنازتها  .
هنا بدأ العد التنازلي نحو النهاية…وانحل السؤال في حلقي ليتحول لهيباً تحرق الجوف، لماذا؟ ألا تجدون بضاعة أكثر بشاعة؟ ألم تسعفكم عبقرية الإعلانات عن اكتشاف صور أقل نفاقاً وأقل استخفافاً بعقل المجتمع والمرأة…المأزق أنها المرأة السورية!…لم أر في عمري بشاعة أكبر من هذا المحتوى، ولم ألتق يوماً بصورة أشد قبحاً تجسد امرأة برسم البيع…أرى في عالم استغلال المرأة كبضاعة …على الأقل أجساداً ممشوقة تدفعك لرؤيتها وتبهرك كي تهرع نحو أقرب سوق يرسم صورتها على غلاف علبة ورقية…لكن الصورة المحشورة عنوة والمنتقاة خصيصاً …لهزيمتك وللشك في وعيك والحكم سلفاً على عينيك بأنها مصابة بقصور يتجاوز العدسات اللاصقة والنظارات المخترَعة ..هنا تتأكد أنها استخدمت خصيصاً للأذى…أذى يصيبك بحساسية لن تتخلص منها إلا عندما تتوقف عن مراقبة الشاشات الخليجية…، التي تستخدم ما تسميهم إناثاً وربات بيوت شامية تسيء لصورة تاريخ عشقته وعشقت نساءه.
تغمض العين أمام حجم المكبوت وقدرة الطاغوت وتوسع نفوذه ليشمل كل أرض تنطق العربية أو تفقه قواعدها، مهما تأججت نار الغيرة والايثار ونار الانحياز لحق خُطف من فم القاضي وطار، وحل محله الباطل يدور عن يمينه ويساره يدلق حروب الكلام من فمه ومن أكمامه، تذبحك المشاهد بسكين فجاجتها وحدة وقاحتها ، تقتلك الأخطاء ..تحاول أن تفتح كل أبواب الغفران ، لكن حجم المصادرة والمقامرة لاتترك لك منفذا للاختيار وكراسة الأسماء النقية تتطاير شظاياها قهراً وتتفكك أواصر عراها عسفاً..تزحف بكلتا يديك وعلى ركبتيك تبحث عن ماء  لإطفاء جفافك ، فلا تجد سوى الرمال تقع بين السطر والسطر ..تنداح بكل ما تحمله من ثقل الظل وعمى الغبار وتستقر بين مفردات الصحف وعلى شفاه من يبيع حكايات العشق ومن يتاجر بحليب الأطفال، ثم يبيعك قطعة من جنة في الحلم..تقبع في الغيب لاموطيء لها ولا مقام ، لكن على أساسها تقام العلاقات وتستقيم سلطات سلاطين السلالات عتيقة المبنى أو جديدة الحسب والمعنى..تعود لتضع رأسك بين ركبتيك وتخفي وجهك لتحجب أضواء تخرق دماغك لتحيله لذرات تحاول أن تعيد توازنها وتراكمها في قصعة الواقع ومعقوله الخيالي، يشنقك حياً ويميتك يومياً…
أنصحك عزيزي القاريء، أن تسمع الأخبار دون دعايات..أن تعود للمذياع فهو أرحم لعينيك..إن كنت حساساً فابتعد ..لأن حساسية جلدية ونفسية ستعمل على تلويث دمك  كلما اعتقدت أنك تريح جسدك المنهك أمام تلفاز عربي.
ــ باريس 23/07/2010
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى