صفحات العالمما يحدث في لبنان

حكمت المحكمة الدوليّـة قبل أن تحكم

أسعد أبو خليل*
آليت على نفسي ألا أتطرّق إلى موضوع المحكمة الدوليّة لا من قريب ولا من بعيد. لا لشيء، بل لأن خبث فريق الحريري الحاكم، وغباء المعارضة في الأداء منذ اغتيال الحريري، ينفّران. ماذا تقول عن معارضة اعتمدت في سلوكها على تطمينات وأكاذيب كانت تصلها من أعدائها هي؟ هناك في المعارضة من يظن أنه ذكي بالمناورة والتقيّة، ناسياً أن أخصامه يناورون ويلجأون للتقيّة هم أيضاً. ماذا تقول في الفريق الحاكم؟ مستوى النفاق بلغ حدّاً لا يجوز معه إلا السخرية. أي إن التعامل مع هؤلاء بجديّة يهين القارئ والقارئة، كما أنه يضفي جديّة على ضخ دعائي من الدرجة المتدنية (أي «الترسو» بالعاميّة المُستوردة).
حكمت المحكمة الدوليّة (أي الأميركيّة) قبل أن تُنشأ المحكمة بأشهر طويلة، وكان واضحاً أن شيئاً ما يُعدّ. وكان لافتاً أن إدارة بوش لم تُفصح مرّة عن وجود أدلّة سريّة ضد النظام السوري، وخصوصاً أن الإدارات الأميركيّة لا توفّر فرصة ولا تحفظ سرّاً إذا كان يدين أعداءها. وكان لافتاً أن الإدارة الأميركيّة التي لم تكن تنتظر قرائن في اتهاماتها لأعدائها في الشرق الأوسط، تحفّظت في موضوع الاتهام ولم تسارع إلى اتهام سوريا ولم تشر إلى دلائل معيّنة. كانت حريصة على غير عادتها، ولم تشطح مثل حلفائها في لبنان إلى الإصرار على اتهام سوريا. التزمت بتأجيج وكلائها الصغار في لبنان، وبمدّهم بالدعم المالي واللوجستي والدعائي، كما أنها سخّرت هيئات ما يُسمّى هزليّاً هذه الأيام «الشرعيّة الدوليّة» من أجل احتضان مزاعم فريق آل الحريري في لبنان وأباطيله وأكاذيبه. المحكمة الدوليّة يجب أن تكون فرصة لفضح ما يتستّر بالرداء «الدولي». ومن أسبغ شرعيّة على الكيان الغاصب إلا «الشرعيّة الدوليّة» عينها؟
إدارة بوش لم تقل بوجود أدلّة ضد سوريا واكتفت بتأجيج وكلائها في لبنان وتسخير «الشرعيّة الدوليّة»

ولكن كيف يمكن أن تأخذ هؤلاء في الفريق الحريري الحاكم على محمل الجدّ؟ أين تبدأ؟ بعضو جديد في المكتب السياسي لحزب عائلة الحريري الذي جلس معي في مقهى «سيتي كافي» قبل عامين أو أكثر من اغتيال الحريري ليسألني بجدّ: أنت مَن تعرف مِن طاقم النظام السوري؟ أجبته: لا أعرف أحداً، بالطبع، وخصوصاً أنني لم أستطع المجيء إلى لبنان لسنوات بسبب مقالة كتبتها في كتاب صدر بالإنكليزيّة اعتبره الأمن العام اللبناني مسيئاً لحافظ الأسد. نظر إليّ، وقال: «لا، لا يمكن أن تكوّن صورة واحدة نمطيّة عن كل فريق الاستخبارات السوريّة. هناك منهم المثقّف مثل بهجت سليمان»، قال لي. «يجب أن تتعرّف عليه». أم تذكر النائب البارز في فريق آل الحريري النيابي الذي حاول إقناعي في كانون الثاني (يناير) من العام الجاري بأن رستم غزالة مظلوم، وبأن فكرتي عنه جائرة؟ هؤلاء اليوم أدعياء للسيادة ومن الصادحين بشعارات الحريّة والاستقلال.
بدأ الاتهام ضدّ سوريا. وكان واضحاً أن هناك من يعدّ ومن يُفبرك (وهذا الموضوع لا علاقة له بموقفي السلبي من النظام السوري أو من النظام اللبناني في عهد رفيق الحريري). تسمع رواية لآخر لقاء بين الحريري ورستم غزالة. الرواية تتغيّر بتغيّر الراوي. هو مرّة يهدّده بالمسدّس. مرّة أخرى، لا يهدّده بالمسدّس، بل يرفع صوته بوجهه. وفي رواية أخرى، يرمي غزالة الحريري بمنفضة سجائر. رضوان السيّد (الذي أصبح عضواً قياديّاً في فريق العائلة في مؤتمر حزبها الأخير الذي وصفه واحد من كتّاب نشرة العائلة بـ«المحطة النضاليّة» ـــــ والنضال أشكال وألوان)، روى لي الرواية بعد أشهر من اغتيال الحريري، وقال إن غزالة أمسك بياقة الحريري وأهانه. زاد فريد مكاري على شاشة التلفزيون من الرواية حول نزف للدم أصاب المسكين الحريري. أذكر أنني سألت رضوان السيّد يومها: ماذا تقول عن رجل كان يقبل هذا النوع من الإهانات التي تصفها أنتَ؟ أليس هذا دليلاً على شهوة السلطة عنده؟ صحيح، قال لي يومها. ولم ينسَ فارس بويز أن يحشر نفسه في الموضوع، وهو من البارزين في خطب «وحدة المسار والمصير» وهو الذي كان يزهو أن حافظ الأسد هو من اختاره، وليس الياس الهراوي لتبوُّؤ منصب وزارة الخارجيّة. أصبح كل من يريد أن يدخل في مهرجان الجنون الإعلامي الذي رعته وموّلته عائلة الحريري بالاتفاق مع آل سعود وسيّدهم بوش يزيد من عنده رواية وقصّة. كاد البعض أن يصرّح بأنه شاهد بشّار الأسد يقود سيّارة الميتسوبيشي بنفسه. كاد البعض أن يشهد بأنه رأى إميل لحّود يشرف على المشهد بالنظارات من فوق السطوح.
والترتيب كان مُعدّاً بإحكام. وزراء أتى بهم إميل لحّود تحوّلوا في المواقف بين ليلة وضحاها. ينسى شارل رزق (الذي كان يصرّ على أن الرأي العام هو الذي أتى به وزيراً، أي إنه أقنع نفسه بأن إميل لحّود أتى به وزيراً تحت ضغط شعبي من آلاف المتظاهرين والمتظاهرات الذين لم يقبلوا منه بديلاً في الوزارة)، وينسى طارق متري (الذي أتى به إلياس المرّ فكان تحوّله تحوّل تابع التابع) أن هناك مقابلات وتصريحات لهما منشورة وتتناقض بكل ما تفوّها به بعدما هبط الوحي الحريري عليهما. هؤلاء الوزراء أصبحوا جزءاً من المؤامرة المُعدّة التي احتاجت إلى تغطيات شكليّة من الفرمانات الوزاريّة. أصبح هناك حاجة لتشكيل المحكمة كي تُمرّر مؤامرات بوش عندنا. لا يصلح أي تحليل غير التحليل المؤامراتي في ما حدث في لبنان بعد اغتيال فقيد عائلته، رفيق الحريري.
بدأ الفريق الحاكم بإعداد الخطّة وكانت مشاهدة غباء فريق 8 آذار بالصور الحيّة مضحكة للغاية. أبدى فريق 8 آذار خوفاً من التدويل في موضع اغتيال الحريري، فعاجله الفريق الآخر بخدعة انطلت عليهم بسرعة. هل نسي البعض يوم كان أدعياء دموع الحريري في الإعلام يطلعون ويصرّون على أن المحكمة ليست محكمة دوليّة، بل هي «محكمة ذات طابع دولي»؟ هزّ فريق 8 آذار رؤوسهم إعجاباً بالمحكمة ذات «الوجه» الدولي، على طريقة لبنان بلد «ذو وجه عربي». اخترعوا لهم بدعة كي يمرّروا محكمة دوليّة أمام أنظارهم، وهم لا يعلمون. ظن هؤلاء أن إشراف مجلس الأمن المباشر وتدخّل الأمين العام للأمم المتحدة في الموضوع لا يعني إلا «الطابع الدولي» فقط، مع أن دور تيري رود لارسن ـــــ الذي مارس أسوأ تدخّل في الشأن اللبناني منذ إنشاء مسخ الكيان ـــــ كان واضحاً في مراميه منذ البداية، كما كانت الإدارة الأميركيّة واضحة في اختيارها لحليفها ديتليف ميليس.
الفريق الحاكم لم يتمهّل في تحديد المجرمين. كان يرفق اتهاماته بروايات عن طريقة التنفيذ وكان فارس خشّان (صحافي، هذا الرجل، في مسخ الوطن: وهو يمارس هواياته على الإنترنت ولا يجد إلا البراءة في كل متهم بالعمالة لإسرائيل في لبنان، كما أنه رأى أن وجود عملاء لإسرائيل بيننا أمر عادي جداً، على ما قال أخيراً) يستغرق في برنامج خاص على شاشة الحريري في تفصيل المؤامرة وفي تسمية جميع المتآمرين وحتى في تسمية الشقّة التي اجتمع فيها المتآمرون من مختلف الأجهزة. «أرسين لوبين» إعلام الحريري تسلّم برنامجاً تلفزيونيّاً خاصاً تضمّن سيناريوهات مستقاة من أفلام الخيال اللاعلمي. كان آنذاك الاحتفاء بحسن السبع ـــــ حسن السبع، يا محسنين ومحسنات. الرجل الذي كان أكثر إضحاكاً للجمهور في تاريخ الوزارات في لبنان، والذي لم يبدُ منه ما يؤهّل لترؤس فريق كرة قدم في مدرسة ابتدائيّة ـــــ غالباً في إعلام الحريري. أما فريق 8 آذار، فانكفأ وزاد في الانكفاء، وتعوّد الانكفاء إلى أن استفاق منذ أسابيع فقط. كاد هذا الفريق أن يثبت إدانته بنفسه عبر تصرّفه المُرتبك إلى حدّ الاشتباه. وعندما تدافع فريق المحكمة في لبنان للقبض على الضبّاط الأربعة، التزم فريق 8 آذار الصمت (وليس هذا من قبيل الدفاع عن الضباط الأربعة في مواضيع لا علاقة لها بالاغتيال مثل القمع والفساد). حتى إميل لحود، لم يتدخّل في موضوع القبض على أقرب المقرّبين منه. كان ذلك قبل حملة «فلّ» الشهيرة بقليل.
كان على فريق المعارضة أن يشتبه بالمحكمة الدوليّة قبل إنشائها. سعد الحريري لا يستطيع أن يُقرّر أكثر من اختيار لون ربطة عنقه، إلا إذا جاءه أمر مُخالف من لدن آل سعود أو «العزيز جيف» من أجل اختيار ربطة عنق أخرى. الأوامر كانت واضحة: إدارة بوش حزمت أمرها: تحاصر النظام السوري عبر اتهامه الجاهز باغتيال الحريري، وتحاصر حزب الله عبر حرب إسرائيليّة على لبنان تعتمد، في ما تعتمد، على فريق لبناني ـــــ كما فعلت إسرائيل وأميركا عام 1982. الفتنة المذهبيّة كانت ضروريّة من أجل رفع الغطاء الشعبي اللبناني والعربي عن حزب الله ـــــ نجحت الخطّة أيما نجاح في لبنان، وإن حاول الحزب أن يتعامل مع مضاعفاتها عبر التحالف مع عون، كما أنها لاقت بعض النجاح في العالم العربي. لا يبدو قادة الحزب عالمين إلى الساعة بدرجة نجاح النظام السعودي في التحريض المذهبي المُباشر بصورة لم يسبق لها مثيل في أكثر من قرن من الزمن.
هناك في فريق المعارضة من كان أكثر غباءً. هناك من أصرّ على أن المحكمة هي «دوليّة» وأنها منزّهة عن الخطل والانحياز. لكن الدلائل كانت ساطعة. ديتليف ميليس كان نديماً لعدد من السياسيّين ومن الصحافيّين في جوقة حاشية الحريري. كان يسارع قبل انتهاء مدة عمله وبعدها إلى الإدلاء بتصريحات سياسيّة فاقعة للإعلام السعودي والكويتي الأصفر (هل هناك من إعلام سعودي غير أصفر؟ هل يقبل أمراء آل سعود بألوان أخرى لإعلامهم؟) لكن تقارير لجان التحقيق زادت وضوحاً في أهدافها. كان التقرير الأول لميليس مؤشراً لا لبس فيه: تخبيص بتخبيص، كما يُقال بالعاميّة. عدد من الخبريّات والشائعات لا حصر لها. تقرأ التقرير وتجد أن الجبهة الشعبيّة ـــــ القيادة العامّة، «الأحباش»، قادة الأجهزة اللبنانيّة، بالإضافة إلى النظام السوري، مسؤولون عن الاغتيال مجتمعين. لم يبق مؤيّد واحد لسوريا في لبنان لم يُشتبه به ولم يتعرّض إما للاتهام الإعلامي أو للتحقيق، أو الاثنين معاً. لم يقل واحد لهؤلاء عن الحكمة من إشراك هذا الكم الهائل من الأجهزة في اغتيال مُفترض أن يكون سريّاً. يعني، كان ميليس يرمي ويودّ لو أن الاتهام يصيب أيّاً من الواردين في التقرير من أجل الاستغلال السياسي: أي خبط عشواء. لم يكن التنسيق بين السيناريوهات المختلفة وارداً أو ضروريّاً، وخصوصاً أن حالة إرباك هائلة أصابت فريق 8 آذار.
جاء تيري رود لارسن على عجل بعد اغتيال الحريري وتدخّل مع رئيس الحكومة، نجيب ميقاتي، الذي أراد بعد سنوات من التحالف الوثيق مع النظام السوري ـــــ مثله مثل رفيق الحريري في ذلك ـــــ أن يُثبت وسطيّته، من أجل إجراء الانتخابات النيابيّة في موعدها لاستدرار الدموع واستغلال العواطف والدماء لتغليب مصالح جورج بوش. المُتابع والمُتابعة في الولايات المتحدة لاحظا أن الإعلام الأميركي تعامل مع الانتخابات النيابيّة في لبنان يومها وكأنها تجري في ولاية أميركيّة. أراد بوش أن يجعل منها استفتاءً على شعبيّته في العالميْن العربي والإسلامي، وكأن مسخ الوطن ببيئته الحاضنة لعملاء إسرائيل (المزيد عن هذا الموضوع قريباً) مُعبّر عن الرأي العام في العالميْن العربي والإسلامي. ونجحت التجربة وخاضت المعارضة انتخاباتها بغباء يقلّ عن غبائها في الانتخابات النيابيّة الأخيرة التي خاضتها بثقة الفائز ـــــ وإن خسر.
لكن اللعبة تغيّرت. بمجرّد أن تغيّرت علاقة الولايات المتحدة بالنظام في سوريا، وبمجرّد أن بدأ النظام في سوريا بإظهار حسن النيّة لأميركا (من منظار أميركي طبعاً) في العراق، اختفت أصابع الاتهام ضد سوريا. وجوقة الاتهام اللبنانيّة فجأة غيّرت وجهتها. كان مروان حمادة يعرف موقف تفخيخ سيّارة الميتسوبيشي بالتحديد، وجاراه في ذلك وليد جنبلاط ـــــ في لحظات «التخلّي» ـــــ ويجب التنويه بأن لحظات التخلّي هي غير لحظات الغشاوة وغير لحظات «التجلّي»، فاقتضى التنويه للتمييز بين الحالتيْن المستعصيتيْن. يقول سعد الحريري والحاشية المُحيطة إنهم وجهوا فقط اتهامات «سياسيّة»، وكأن القانون في أي دولة قانون (يعني في خارج لبنان) يعترف بشيء اسمه اتهام سياسي. الزميل في «الأخبار»، عمر نشابة، تابع بالتفصيل مواقف الاتهام المُحدّدة بلسان سعد الحريري هذا الأسبوع: أي إنه أثبت «كاتالوغاً» من كذب سعد الحريري. وقد اتهم سعد الحريري سوريا بوجود المُقرئ الآلي ومن دونه. كما أن فريق الحريري تخطّى الاتهام «السياسي» للمطالبة بالثأر. أي إن الثأر هو علامة اليقين في الحكم القاطع ضد المُدان. وقد قاد وليد جنبلاط في لحظات التخلّي (لا الغشاوة) هتاف «بدنا التار، بدنا التار، من لحود ومن بشّار».
لكن وجهة الاتهام سرعان ما تغيّرت، وقد بدأ ذلك ملحوظاً في شبكة الإنترنت وفي الإعلام المُقرّب من آل الحريري. فجأة، بدأت البراءة السوريّة تتسرّب إلى الإعلام الحريري وتزامن ذلك مع صلحة بين سوريا والسعودية، وافق عليها مدير الفتنة الإقليميّة، سعود الفيصل، على مضض. الإعلام الغربي ـــــ وهو يُحاط دوماً بهالة تقديس في وطن تقديس الرجل الأبيض ـــــ لا يأتي بما عنده من الغيب، وهو يعاني مشاكل الإعلام العربي. وبرنت سادلر، الذي كانت تقاريره في الـ«سي.إن.إن» تتطابق بالحرف والكلمة مع نشرات قريطم، استقال من الشبكة ليدير أعمالاً لحساب سعد الحريري (كما قال لي زميل سابق له في الـ«سي.إن.إن»). وروبرت فيسك لا يأتي على موضوع لبنان من دون نقل وجهة نظر وليد جنبلاط وكرم رفيق الحريري عليه. الإعلام الغربي المذكور نقل ما كان يرده من حاشية قريطم الإعلاميّة والأمنيّة، مثلما نقل رواية الحاشية كاتبان لسيرة الحريري بالإنكليزيّة (نيكولاس بلانفورد ومروان إسكندر). ثم لم يلاحظ فريق 8 آذار أخطر ما حدث في مسيرة المحكمة التي كانت سابقاً «ذات طابع دولي» قبل أن تتحوّل من دون سابق إنذار إلى محكمة دوليّة بالكامل. فقد نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» بعد إطلاق الضباط الأربعة نقلاً عن مصادر في المحكمة نفسها أن فريق آل الحريري دخل في مفاوضات مع المحكمة من أجل تأجيل قرار إطلاق الضبّاط حتى لا تضرّ بمصالحهم الانتخابيّة في آخر انتخابات نيابيّة. هذا الخبر الذي لم يرد في الصحافة اللبنانيّة كاف لإغلاق نافذة على الأقل على مصداقيّة المحكمة. أي إن المحكمة الدوليّة «المُنزهّة» قبلت أن تدخل في مفاوضات مع آل الحريري من أجل تأجيل إطلاق الضبّاط الأربعة كي تستفيد العائلة المذكورة من التأجيل انتخابيّاً. هل من الممكن توقّع ردود الفعل لو أن حزب الله دخل في مفاوضات مع المحكمة من أجل تأجيل قرار ما لغايات محض انتخابيّة؟ ألم يكن الأداة، بان كي مون، قد دعا إلى جلسة عاجلة لمجلس الأمن، للنظر في فرض عقوبات صارمة على حزب الله؟ وقد مرّر الفريق الآخر مسألة دفع لبنان نصف نفقات المحكمة الباهظة من دون تردّد أو مناقشة، فيما كانت موازنة فؤاد السنيورة، ومن جاء بعده مندوباً عن آل الحريري، تقطّر على أهل الجنوب وعلى عائلات الشهداء والأسرى؟
كيف لاغتيال مفترض أن يكون سريّاً أن يُشرك هذا العدد الهائل من الأجهزة؟
قد يكون لحسن نصر الله توقيته الخاص في إعلان ما أعلن. كلامه بقي غامضاً لكن حزب الله وعى متأخراً جدّاً ما كان بادياً للعيان: أن الحرب ضده تأخذ أشكالاً متعددة: من القرارات الحكوميّة ضد شبكة الاتصالات وجهاز أمن المطار، إلى عدوان تموز الذي حظي بأعوان له في لبنان، إلى المحكمة الدوليّة بقراراتها المُعدّة والمُنسّقة في واشنطن. «إلحق الأموال»، قال مصدر سرّي للصحافيّيْن اللذيْن غطيا فضيحة ووترغيت لـ«واشنطن بوست». من هو مصدر تمويل المحكمة؟ علم حزب الله متأخراً أن الحرب ضده تستمرّ بوسائل أخرى، وأن الفريق الذي كان ضالعاً بالتعاون مع عدوان تموز هو الفريق نفسه الضالع بتركيب اتهامات المحكمة. لكن حسن نصر الله لا يزال يسبغ المديح على سعد الحريري وصدقه، وهناك جوقة حاشية الحريري التي تنفي أن يكون الحريري قد أبلغ نصر الله بالقرار الظنّي. لكن الحوري وصقر ودي علوش يصرّحون بالشيء بأمر، وبعكسه بأمر أيضاً. هؤلاء، ماذا تقول فيهم؟
من اصطفى رفيق الحريري بين كل ضحايا الاغتيال في لبنان ليحظى بمحكمة خاصّة به؟ من قرّر أن دمه أزكى من دماء المئات الذين واللواتي قضوا في حرب تموز: إما كضحايا من المدنيّين والمدنيّات اللواتي والذين نسيتهم حكومة وصفي التلّ لبنان، وإمّا من المقاتلين الأشدّاء الذين أذلّوا جيش العدو في موقعة مميّزة من تاريخ الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي؟ ولماذا رفضت واشنطن تشكيل محكمة خاصّة باغتيال بنازير بوتو؟ من قرّر أن كل ضحايا الاغتيال في لبنان، بمَن فيهم معروف سعد الذي يمكن فك لغز اغتياله أن يحلّ الكثير من ألغاز الحرب الأهليّة (أو حروب آخرين في ساحة ملعب، كما يريد غسّان تويني)، لا يرتقون إلى مصاف رفيق الحريري؟ هل تملُّك رفيق الحريري قصوراً وطائرات خاصّة سبب للاهتمام الدولي باغتياله أم أن خدماته للمشروع والاحتلال الأميركييْن هما السبب؟ ثم متى تنتهي هذه المسرحيّة الخطيرة، ومتى تقرّر عائلة الحريري أنها ألحقت بلبنان وبجواره ما يكفي من الضرر والأذى؟ متى؟
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)

الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى