صفحات العالمما يحدث في لبنان

المحكمة الدولية ولبنان: القصة في مكان آخر!

null
نهلة الشهال
«حزب الله» لا ينفك يرتكب الخطأ نفسه مراراً وتكراراً، أي محاولة هزيمة المخطط الجاري بالصدق: يخرج السيد حسن نصرالله على الناس ليحاجج في كذب هذه أو تلك من المواقف والأدلة، مصوباً السرد الروائي لما حدث، بالمنطق غالباً، وببعض ما يتوافر من وقائع، محذراً من النتائج الخطرة للاسترسال في الحالة (ما يُنظر إليه كتهديد تتفاوت درجة تبطينه)، مُرفقاً ذلك كله ببعض النكات، وبابتسامته الشهيرة التي يحبها جمهوره ويغتاظ منها الجمهور المقابل، ثم ينصب عليها جهد «المحللين»: استطراداً، لا أشك في وجود خبراء متخصصين لدى أجهزة الاستخبارات الأميركية، يستطلعون الحالة النفسية للزعماء، ويبنون عليها، لكنني أقصد هؤلاء الذين يتسلون في وسائل الإعلام بالكلام عن توتر السيد أو قلقه، إلى آخر التفاهات.
لماذا تطلُب الصدق أو الأمل به استراتيجية خاطئة؟ أجاب ببساطة واختصار مثيرين للإعجاب الأستاذ داود الشريان يوم الأحد الفائت في زاويته على صفحات هذه الجريدة. قال حرفياً: «الذي أخرج سورية (من قاعة المحكمة) قادر على إخراج حزب الله. السياسة فن الممكن. لكنّ لكل شيء ثمناً. وإغلاق ملف المحكمة ثمنه معروف، سلاح الحزب». هكذا هي المعركة إذاً. ومن غير المبالغة القول إنه ليس من يأبه لدم الرئيس المغدور رفيق الحريري، فذكره بتعظيم أو بأسى، بحسب المناسبة، هو الجزء المبتذل من «لغو» التوتير ليس إلا. فحتى اللاطمون عليه يعلمون ماذا يفعلون، ويزداد لطمهم وعويلهم حينما تلوح إمكانية اقتناص غلبة. إنها واحدة من حالات الحرب الأهلية/ الطائفية، منذ أصبح عمودها الفقري سنياً/ شيعياً، ومن يتوهم سوى ذلك فأبله ليس إلا.
ولعله لم يسبق أن تمَّ التمكن من استخدام عملية اغتيال بهذا المقدار من التوظيف المتعدد المستويات، الطويل الأمد. فهناك في الأساس، وقبل العبث المحلي المقيت، وقبل بعض الأحلام الإقليمية البائسة أو العاجزة، هناك واشنطن/هوليوود. صحيح أن إتقانها فنَّ الإخراج والإثارة قد تعرض لضربة كبيرة بسبب افتضاح أمره في العراق وبخصوص بن لادن، لكن ذلك لم يغير مجريات الأمور على الأرض، إذ كان لواشنطن/هوليوود ما أرادت في وقته، مما تصعب إزالته بضربة عصا سحرية، فيجرى الاستمرار بالتعامل معه كـ «معطيات موضوعية». وربما ينبغي التريث قليلاً قبل التمكن من الحكم على «ويكي ليكس»، أو التسريب الذي بدأ يطلع علينا عبر انترنت، فاضحاً عشرات آلاف الوثائق السرية الأميركية. فالله أعلم بما يمكن أن يدل عليه أو تكون وظيفته. ولكن ذلك ليس موضوعنا الآن، وما يهمنا هنا هو أن عملية إخراج الأفلام لم تتوقف، ونحن اليوم بصدد المحكمة الدولية. وهذه مسلسل طويل، وليس فيلماً واحداً.
وككل المسلسلات، فبعض حلقاته مضجرة وروتينية، ثم تعقد في بعضها الآخر حبكة مثيرة تُحبس لها الأنفاس، كما اليوم، وكما حدث في السابق بعيد اغتيال الرئيس الحريري، حيث أدى السيناريو وقتها (وهو متصل، لأن كاتبه واحد وموضوعه كذلك) الذي استند إلى القرار الدولي 1559 وظيفته في إخراج القوات السورية من لبنان، وفي وضع سورية في موقع الاتهام لفترة مديدة.
لذلك، يجانب الصواب القول إن المحكمة قد انقلبت من وضع سورية في قفص الاتهام إلى استهداف حزب الله. بل تلك كانت حلقة أولى انتهت بعدما أدت أغراضها، أو الأساسي منها على الأقل. وأما السعي إلى البرهان على التناقضات والتقلبات في اتهامات المحكمة، مما يفترض إفشاله عبر فضح ذلك، وبالصدق والتماسك المنطقي، فعبث كامل. فسيناريو المحكمة يستند إلى كذبة يتقاسمها الجميع… بوعي ورضا ومسؤولية.
وكما كان يهاجَم بشراسة ويعامل ككافر من يجرؤ على مجرد التلميح الى أن سورية قد لا تكون القاتل، ليس حباً بها، وإنما بحثاً عن خفايا المخطط، وكانت تسفه بضيق فرضية أن يكون الفاعل إسرائيل مثلاً، أو واشنطن نفسها، على قاعدة «من المستفيد؟»، (وهو أساس التحقيق الجرمي البديهي والأول، لا سيما حين تفتقد الأدلة الدامغة)، يراد اليوم لاتهام حزب الله أن يرتدي الحلة نفسها.
ومجدداً، فالقصد اقتناص فرصة تبدو متوافرة «للتخلص منه»! وهو ما يجيب عنه السيد نصرالله بالتذكير بضرورة «حسابها هذه المرة جيداً»، ما يعتبر تهديداً… إذا شئتم، أو واقعية إذا كنتم في حقل السياسة. وهو أياً يكن تأويله، فسيكلف أنهاراً من الدماء وخراب البلد، وهو مسؤولية كل الأطراف، كما قال الحكيم الدكتور سليم الحص.
ثم إن النتيجة غير مضمونة، فما دهاكم يا قوم؟ يجيبون بثقة يقينية أن سورية تخلت عن حزب الله! بعضهم يظن أن ذلك هو الثمن الذي دفعته مقابل «إخراج رأسها من المحكمة»، وهذه رواية على الموضة اليوم، وبعضهم، الأكثر جدية، يتناول آلة حاسبة ويشرع في تعداد مكاسب دمشق من قلب سترتها. ودمشق يا قوم موئل للدهاء، ودهاؤها يقوم على برود وبطء ردة الفعل، يحسبهما البعض، من شدتهما، بلادة! ولكنها أمزجة الشعوب، التي تتكون عبر معطيات واشتراطات التاريخ… ثم، وعلى فرض ذلك، فلدى حزب الله ما يدافع به عن نفسه، إلا إذا كان أعداؤه يستندون إلى انه «أم الولد»، وأنه وحده سيُحجم رأفة بالعباد.
لذا، فالسؤال المركزي في مكان آخر: هل من قرار أميركي – إسرائيلي بالحرب؟ اقصد تلك الإقليمية، وليس الخوض في المستنقع المتخلف لحروب لبنانية طائشة وصغيرة، ستنتهي غالباً بسيناريو متجدد من 7 أيار 2008 السيئ الذكر، حتى لو استُعد لها هذه المرة من الجهة المقابلة، فجاءت أكثر تعقيداً ودموية في آن. وعلى رغم تهويلات السيد أحمدي نجاد، فواشنطن (هذه المرة من دون هوليوود) غارقة في وحول العراق وافغانستان حتى العنق، وتتمرجل عليها تل أبيب مقدرة حجم ورطاتها الأخرى. يقول الذين يفترضون في أنفسهم الخبث: هذا بيت القصيد، فلا يمكن فرض شيء على إسرائيل من دون ثمن، والثمن هو سلاح حزب الله، وواشنطن تريد دفعه لتتمكن من التنفس قليلاً في العراق وأفغانستان، ولتتمكن من مزيد من الضغط على طهران بعد إقرار العقوبات. ولكن هذا سيناريو مقلوب على رأسه، ينتمي إلى زمن فات وأفل. لقد تشظى عالم الأحادية القطبية وذهبت معه أقصى تعبيراته، البوشية، ولم تعد واشنطن في وارد حروب جديدة. وأما تل أبيب فهي من الجنون الانتحاري بحيث قد تلح على عمل عسكري ما، ولكنها لا تملك اتخاذ قراره.
والأرجح إذاً، أن يستمر التوتر، أي سيناريو المعركة الدائرة اليوم بكل صخبها اللفظي، وربما مع بعض الفصول الدموية التي تبقى بالحساب العام محدودة ومحتواة… ليس إلّا!
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى