صفحات مختارة

فقه الزعامة

خيري منصور
كتب الكثير عن مفهوم الزعامة في التاريخ، لكن أكثره ظل مرتهناً للأمر الواقع، أو توصيفياً، ينحو باتجاه المديح وتدليك النرجسيات السياسية، رغم أن هذا الفقه يتطلب البحث فيه تضافر عدة علوم، منها الاجتماعي والسايكولوجي والأنثربولوجي أيضاً ما دامت الشعوب التي تفرق بين الزعيم ومجرد الحاكم تعي بأن هناك لحظات حرجة في تاريخها تتطلب ما هو أعقد وأبعد من الإدارة الاجرائية وتصريف الأعمال.
وباستثناء ما كتبه د. خليل أحمد خليل عن فن القيادة متخذاً من لبنان نموذجاً بأن هذا الفن بقي حتى الآن حكراً على قيادة السيارات، لأنه من المواضيع المسكوت عنها علمياً رغم أنها بلا أبواب لمن يريد أن يجرب حظه في النفاق السياسي والرياء.
الزعيم، لغةً، هو من يزعم بأن لديه ما يقول وبالتالي ما يفعله، لهذا فهو منذ شروعه في هذا الدور يجازف باختبار وعوده، رغم أن هناك مفردات عديدة في حياتنا انفصلت عن جذرها الاشتقاقي وبالتالي دلالاتها التاريخية، فالوزير نادراً ما يتذكر أو يذكره الناس بأنه حامل أوزار، أي مسؤوليات جسام، لكن اللغة أيضاً تتغير وكذلك دلالات الكلام فالثقافة لم تعد للرماح أو للنخيل، رغم أنها بشكل مجازي لم تبعد كثيراً عن هذا الدور، ما دامت مؤهلة لترشيق العقل ومقاومة الترهل واستئصال ما يجف ويموت من الأغصان.
الفارق بين الزعيم ومن لا يملك هذه الصفة هو أن الأول اسم حركي لأحلام مؤجلة، وهو كما يقول ممفورد في دراسة له عن مفهوم البطل في التاريخ مجرد يافطة على حدث، وأذكر أن صحافياً فرنسياً كتب عشية رحيل الجنرال ديغول أن عصر الزعماء قد ولى، لأن الزمن تبدل، ولأن حاجات البشر اصبحت أقرب إلى الضرورة، وأن اكاليل الورد لا تسد حاجة الجياع، وكأن هناك حواراً سرياً في التاريخ بين الرغيف والوردة، وبين العصا التي يستخدمها الأعرج أو الأعمى وبين الصولجان، إنه حوار الضرورة والحرية، وهو غالباً ما يراوح بين فائضين: فائض الرفاه وفائض الفاقة.. فالناس لا يتغزلون بالقمر أو النجوم إذا كانوا عرضة لغارة جوية، فكل ما يشاهدونه أو يبحثون عنه هو الدخان أو الطائرات المغيرة، هذا إذا لم يلوذوا بالملاجئ ذات السقوف الواطئة التي تلامس الرؤوس.
إن للزعامة تاريخياً وليس سياسياً فقط فقهاً من طراز آخر، ومعظم ما يكتب حولها يتورط بالشخصنة، والسير الذاتية للزعماء أماً الزعامة كمفهوم أو ظاهرة فهي ليست ذات حظ كبير في الدراسات الجادة، وان كانت الأبحاث ذات الاتجاه الاركيولوجي أو ما يسمى الحفريات التي ظهرت في الغرب خلال العقود الثلاثة الماضية بدأت تجترح أفقاً لهذا المجال، وحسب هذه الدراسات فإن الزعيم متعدد، فقد رأى أحد الباحثين الألمان أن هناك أكثر من عشرين بسمارك، وربما ثلاثين فردريك أو ثلاثين هتلر وموسوليني وستالين، فهؤلاء لهم أوجه عديدة، ويكفي أن نقارن ما كتبه شاعر مثل يفتشنكو عن ستالين في سيرته الذاتية وبين ما كتبه اسحق دويتشر عن هذا الرجل.
ستالين عالم لغوي وطاغية وعاشق ومخدوع ووطني لم يقبل بمقايضة حياة ابنه، وهو أيضاً ديكتاتور، كما صوره فنان تشكيلي روسي عندما رسم له صورة وهو يدخل غليوناً ليس محشواً بالتبغ بل بملايين الروس الذين يحترقون.
إن مصطلح الزعيم يزداد غموضاً في أيامنا، تماماً كما أن مفهوم البطل أصبح ملتبساً أيضاً، فالذرائعية والعواطف المثلجة وميزان الدموع لا تخلق زمناً تراجيدياً، وإن وجدت فهي أقرب إلى الكوميديا السوداء.
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى