صفحات العالم

خطاب أوباما: هدنة عشر سنوات

غيسيبي كاسيني
ارتفع صوتان متناقضان من صميم العالم الإسلامي، عقب خطاب الرئيس أوباما في القاهرة. يحض الصوت الأول الصادر عن المتطرفين على الجهاد. أما الصوت الثاني الصادر عن أعداد كبيرة من المعتدلين الموافقين على الخطاب، فيريد أن يفي الرئيس بوعوده. كانت أصوات المتطرفين ضعيفة بالمقارنة مع أصوات المعتدلين، ما يعني أن الغالبية الساحقة من المسلمين مستعدّة لقبول المقترحات الجديدة الصادرة عن واشنطن، شرط أن تكون جريئة ومترامية الأبعاد.
هل يستطيع أوباما ترجمة خطابه القوي الوقع إلى سياسات ملموسة؟ كتبت رلى خلف في صحيفة “فايننشال تايمز”: “دعا أوباما إلى بذل جهود مشتركة لخلق عالم جديد حيث لا يهدّد المتطرفون الأميركيين، ويعود الجنود الأميركيون إلى ديارهم، ويعيش كل من الإسرائيليين والفلسطينيين في دولته الآمنة، ولا تُستعمَل الطاقة النووية إلا لأغراض سلمية. إنها رؤية طموحة من شأنها أن تحدث تحولاً في الشرق الأوسط، لكنها تولّد أيضاً آمالاً أبعد بكثير من قدرة الولايات المتحدة على التنفيذ”.
أبعد بكثير؟ يتوقف الأمر على عدد من العوامل. إذا تحرّر أوباما من بيروقراطية الإدارة، ولم يعر آذاناً صاغية لمجموعات اللوبي المعروفة التي تعيث فساداً في العاصمة، وإذا تبع حدسه، فعندئذٍ “بلى، يستطيع”.
لقد نجح إلى حد ما في المرحلتين الأوليين مما يمكن اعتباره استراتيجية من ثلاث مراحل. كانت المرحلة الأولى الإنكار: توجّه في نيسان إلى تركيا ليعلن أن “الولايات المتحدة ليست ولن تكون أبداً في حالة حرب مع الإسلام”. أما المرحلة الثانية، فكانت مد اليد: توجه في حزيران إلى مصر ليعرض على الإسلام “بداية جديدة”. ويمكن أن تكون المرحلة الثالثة منتدى المسارين.
تخيّلوا التأثير الذي يمكن أن يحدث إذا اقترحت واشنطن منتدى من مسارين حيث تجتمع البلدان الغربية والأعضاء السبعة والخمسون في منظمة المؤتمر الإسلامي في جلستين مختلفتين إنما متساويتان في الشرعية: جلسة تقتصر على الحكومات (على غرار منتدى اسطنبول عام 2002) وأخرى مفتوحة أمام المجتمع المدني في شكل عام (القادة الدينيون، مشايخ القبائل، الفصائل السياسية، المفكّرون، روّاد الأعمال).
يمكن استخلاص جدول الأعمال من النتيجة الناجحة لمؤتمر هلسينكي حول الأمن والتعاون في أوروبا عام 1975: احترام السيادة إنما أيضاً حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، والتسوية السلمية للنزاعات، والمطالبة بعلمانية الدولة. تذكّروا الكلمات التي قالها أوباما في القاهرة: “إن أميركا لا تفترض أنها تعلم ما هو أفضل شيء بالنسبة للجميع… ومع ذلك يلازمني اعتقاد راسخ أن جميع البشر يتطلعون لامتلاك قدرة التعبير عن أفكارهم وآرائهم في أسلوب الحكم المتبع في بلدهم، ويتطلعون للشعور بالثقة بحكم القانون، ويتطلعون كذلك لشفافية الحكومة وامتناعها عن نهب أموال الشعب، ويتطلعون لحرية اختيار طريقهم في الحياة”.
يمكن وضع اتفاق نهائي مع هدف جريء إنما واقعي: الموافقة على هدنة تمتد لعشر سنوات. الهدنة مفهوم آسر في الإسلام، ويفهمه أي متمرد يشن حرباً، من الصومال إلى باكستان. لم يستطع خطاب أوباما في القاهرة أن يُسكِت من يحضّون على الجهاد، لكن بإمكان الدعوة إلى هدنة لعشر سنوات أن تحقق ذلك.
شهد تاريخ الإسلام هدنات ناجحة أكثر منه معاهدات سلام غير واقعية: الهدنة تصمد أكثر؛ أما السلام الأزلي فمجرد مسعى. حتى الفصائل الإسلامية الراديكالية، وبينها “حماس” و”حزب الله” وحركة “طالبان”، اقترحت في محطات مختلفة في الماضي القريب هدنة وطبّقتها أحياناً. دعونا لا ننسى أن المسلمين المتديّنين يعتبرون أن الدين يوصيهم بمحاربة أي محتل مسلّح حتى ولو كان يحتل قطعة صغيرة من الأرض الإسلامية. لا شك في أن المسلمين مقسَّمون جداً، ولهذا لن يوافق جميع الفاعلين بالضرورة على الهدنة. كما أن شروطها تقتضي مفاوضات متأنّية. غير أن التاريخ يشير إلى أنه من شأنها أن تكون محفِّزاً قوياً لإعادة صوغ العلاقات بين الغرب والإسلام.
هل سيكون من الصعب جداً تنظيم منتدى المسارين؟ حسناً، يمكننا بسهولة أن نقارن بين الصدام الحالي والحرب الدينية التي عاثت خراباً في أوروبا بين عامَي 1618 و1648. لم تنتهِ حرب الثلاثين عاماً إلا عندما تحلّت نحو عشر قوى أساسية إلى جانب 180 دولة صغرى في أوروبا، بالشجاعة لتنظيم مؤتمر كبير في وستفاليا في ألمانيا أسفر عن توقيع سلسلة من المعاهدات المتعددة الطرف. كان هذا غير مسبوق. فبعد ثلاثة عقود من الاستعمال الفتّاك للأسلحة، شكّل المؤتمر إنجازاً فريداً من نوعه في المهارة الديبلوماسية – وتم من دون وجود إنترنت ولا هواتف ولا حتى تلغراف لمساعدة المبعوثين. هل هناك ما يمنع المجتمع الإسلامي العالمي من الموافقة على عرض من هذا القبيل؟ فالأصوليون يقتلون مسلمين أكثر بكثير مما يقتلون مسيحيين أو يهوداً. ما شهدناه في الأعوام الأخيرة كان أقرب إلى حرب أهلية إسلامية منه إلى صدام بيننا وبينهم. من شأن هدنة لعشر سنوات أن تكون نعمة في ذاتها، لكنها ستسمح أيضاً للمجتمع الدولي برفع تحديات أكثر محورية بكثير، من الفقر المدقع إلى التغيّر المناخي.
الهدنة الطويلة الأمد هي الحد الأدنى الذي يجب أن نطمح إليه كي نكسب وقتاً كافياً لمواجهة هذه التحديات. نعيش جميعنا – مسيحيون ومسلمون ويهود – في الوقت المستعار. يتوقّع الأوروبيون من أوباما أن يحلّق عالياً ويطرح أفكاراً كبيرة. فبما أنه ابن قارتين ومتجذّر ثقافياً في أربع قارات، إنه رجل الدولة الوحيد في العالم المهيّأ لعبور الحدود التي تفصل بين الحضارتين الغربية والشرقية، وقيادتنا نحو نظام جديد متجذّر في الديموقراطية.

“كريستشان ساينس مونيتور”
ترجمة نسرين ناضر
(ديبلوماسي إيطالي عمل في بلجيكا والجزائر وكوبا والولايات المتحدة والأمم المتحدة، وكان سفيراً في الصومال ولبنان)
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى