صفحات ثقافية

لماذا “يَخدِشون” ألف ليلة وليلة؟

null
سعد محيو
“ألف ليلة وليلة” بُرّئت مجدداً . يا له من حدث جلل بالنسبة إلى جماعة “محامين بلا حدود” المصرية، التي رفعت دعوى ضد هذا التراث التاريخي الإسلامي والعالمي الضخم والهائل بتهمة “خدش الحياء” . فالأمر أخطر من حصار غزة، وأشد تهديداً من استيطان فلسطين واحتلال بقع واسعة من الوطن العربي . كيف لا ومصير “الحياء” على المحك؟
أمر مؤسف حقاً أن نجد نخبة من مثقفينا يديرون ظهورهم للقرن الحادي والعشرين، بكل أفانينه التكنولوجية التي تعيد صياغة ليس مفهوم الحياء وحده بل القيم الأخلاقية والاجتماعية برمتها، ليوجّهوا سهامهم إلى قلب مخطوطة وُضعت قبل ألف عام .
أمر مؤسف أكثر ألا يكون لدى هؤلاء “المحامون بلا حدود” شغل شاغل سوى التنقيب بين آلاف صفحات “ألف ليلة وليلة” عن حفنة جُمل يعتبرونها مُخّلة بالآداب العامة، ويتناسون القيمة الأدبية والفنية والتاريخية الكبرى لهذا العمل الملحمي الذي وُضعت أروع قصصه إبان العصر الذهبي للخلافة الإسلامية العباسية .
ولكي نُدرك مخاطر هذه الدعوى القضائية ضد التاريخ وتراثه، والفولكلور الشعبي وإبداعاته، وحرية الرأي والتعبير وقدسياتها، يكفي أن نتذّكر نُتفاً مما فعله هذا الأثر الفني العظيم في العالم .
فألف ليلة وليلة، أولاً، كان بمثابة الخزان الأدبي الذي انصهرت في بوتقته الثقافات العربية والفارسية والهندية في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، لتنتج منه أجمل الخيالات وأروع الأساطير التي تتضمن كلها تقريباً إذعاناً للقدر والمشيئة الإلهية .
وهو، ثانياً، كان منذ قرون طويلة ولايزال، المُلهم لكبار الأدباء والفنانين والشعراء العالميين من أمثال غوته وييتس وويلز وتولستوي وإدغار ألان بو ووليام وودوورث، والموسيقيين وعلى رأسهم كورزاكوف في رائعته شهرزاد . لا بل ساهم ألف ليلة وليلة في النهضة الثقافية اليابانية في عصر ميجي حين تمت ترجمة الكتاب إلى اليابانية، فألهم ذلك العديد من الكتب والمسرحيات القومية اليابانية الرائعة .
ولم يقتصر التأثير العالمي على النخب بل هو اخترق كل النسيج الثقافي لكل شعوب العالم . وهكذا تحوّلت شخصيات مثل سندباد البحري، وعلاء الدين، وعلي بابا، إلى أبطال إسلاميين مُعترف بهم في قلب المجتمعات المسيحية . وقد تم التعبير عن ذلك في آلاف المسرحيات والقصص وفي الأفلام (منذ بدايات القرن العشرين وحتى الآن)، وشمل ذلك حتى الصور المتحركة للأطفال، بدءاً من مسلسل بوباي البحار (وهو نسخة من سندباد البحار) وصولاً إلى أفلام القرن الحادي والعشرين حول علاء الدين والمصباح السحري .
أصدقاؤنا “المحامون بلا حدود” لم يروا كل هذه الانجازات الرائعة والمُتجددة، ربما لأنهم يضعون نظارات سميكة لايرون فيها إلا أنفسهم وما يعتقدون أنه التفسير الصحيح للدين الحنيف . ولو كان هؤلاء مطلعين حقاً على التراث الإسلامي الذي يريدون الدفاع عنه لعرفوا أن حرية الرأي والتعبير التي كانت متوافرة في عصري الخلفاء الراشدين والخلفاء العباسيين تفوق عشرات المرات الحرية الموجودة اليوم حتى في الدول الديمقراطية . كما انهم ربما عرفوا أيضاً أن كبار رجال الدين لهم مؤلفات كاملة حول الجنس والمرأة لم يعتبرها أحد قبل ألف سنة “خادشة للحياء” .
ما تعرّض له “ألف ليلة وليلة” أمر يندى له الجبين . لكن يبدو انه مجرد البداية . إذ ربما نسمع بعد حين مطالبة بهدم الأهرامات لأنها إرث وثني: “يخدش الحياء” .
الخليح

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الغريب أن تطلق تلك الفئة على نفسها اسم “محامين بلا حدود” مع أنهم يصنعون القيود ويشيديون الجدار خلف الجدار
    لعل الأنسب أن يسموا أنفسهم: جاهلوا جهلهم بلا حدود وجاهلوا تراثهم بلا حدود
    من يقرأ ألف ليلة وليلة يلمس تطوراً لغوباً عفوياً كان حري به أن يستمر وتماذجاً غنياً لثقافة الشرق من الهند إلى بلاد الفرس فبلاد الرافدين فالشام…
    لم يقف في طريق تلك الحكايات النسجية عراقيل تكبح جماح عفويتها كتلك التي نمر بها اليوم، لا لغة ولا قيود اجتماعية أو تكفيرية أو سياسية والأهم أنه لم تكن هنالك قيود ثقافية من محتكري الثقافة أقسى في أصوليتها من من الوهابية ذاتها
    إننا نعيش اليوم ثقافةً لا لغة لها ولغةً فصيحةً لم يعد فيها ثقافة بعد أن تبلورت وقصت أناملها فباتت عقباتٍ تعرقل انسياب ثوب شهرزاد وعذوبة لسانها
    لم ألتق بقارئ في الغرب إلا وسألني عن ألف ليلة وليلة
    ونحن في الشرق نقتل شهرزاد ونستعيض عنها بهيفاء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى