صفحات العالمفايز سارة

فضيحة ويكيليكس هل تجد من يهتم بها؟

فايز سارة
في اختصارها الشديد، يمكن القول، ان الوثائق الخاصة بالعراق، التي كشفها موقع ويكيليكس، تمثل تأكيداً لحمام الدم الذي عاشه العراقيون خلال السنوات الماضية في ظل الاحتلال وحكوماته، وقد تضمن ذلك الحمام الرهيب في محتواه عمليات تعذيب وقتل واغتيال واغتصاب، وتدمير ممتلكات وغيرها من جرائم تم التستر عليها. والتستر يمثل جرائم وارتكابات لا تقل بشاعة عن سابقتها، وقد طالت أكثر من مئتي الف عراقي، جرى توثيق ما اصابهم عبر أكثر من اربعمئة الف وثيقة، كانت شاهداً مباشراً على معاناة العراقيين وما اصابهم من ضرر فادح.
ورغم ان حمام الدم ودمار العراق في سنوات الاحتلال امر معروف، وكثير منه موثق في الاخبار اليومية، وبعض من الخفي فيه، جرى كشف حيثياته وتفاصيله في اوقات سابقة على نحو ماحدث في فضيحة سجن ابو غريب، وسجون وزارة الداخلية العراقية، فان ما كشفت عنه وثائق ويكيليكس يزيد عن السابق في اربع نقاط.
النقطة الاولى، انه يكشف كماً هائلاً من الجرائم المرتكبة، التي قد تفوق في حجمها وزمنها الممتد لست سنوات كل الجرائم المماثلة التي شهدها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وبحسب التقديرات، فإن ما كشفت عنه الوثائق يزيد بخمس مرات عما حصل في افغانستان رغم ان احتلال الاخيرة، تم قبل احتلال العراق.
والثانية، انها توثق بالتفاصيل من خلال صور واسماء وارقام ومواقع واوقات الاحداث، ما جرى ارتكابه بدم بارد، وامام شهود، ضد عائلات واشخاص بمن فيهم اشخاص كانوا راغبين بتسليم انفسهم، وآخرون كانوا ابرياء لم يكن لهم أي صلة بعملية قتلهم أو تعذيبهم.
والثالثة، ان أطرافاً مختلفة، قامت بارتكاب تلك الجرائم أو ساعدت في ارتكابها، او تسترت عليها، وتشمل قائمة هؤلاء، اطرافاً عراقية ذات صفة رسمية بينهم رئيس الحكومة الحالي واعضاء في الحكومة العراقية، وعسكريين ورجال امن، الى جانب ميليشيات وجماعات مسلحة ذات وجود علني، ولها تغطية سياسية ودينية، وعصابات اجرامية معروفة لها روابط وعلاقات بشخصيات ذات وزن في النظام العراقي.
والمستوى الثاني من مرتكبي الجرائم، عملاء لبعض دول الجوار وأفراد وضباط في هيئات امنية واستخبارية تابعة لتلك الدول، التي كثفت تدخلاتها في الشأن العراقي بصورة فجة.
والمستوى الثالث، يتكون من جنود وضباط الاحتلال وبخاصة الاميركيين منهم الذين كانوا المسؤولين الاساسيين عن امن وسلامة المدنيين العراقيين طبقاً لمحتويات القانون الدولي ولاسيما اتفاقات جنيف حول حماية المدنيين في زمن الحرب.
والنقطة الرابعة، تتمثل في تواطؤ وتعاون مباشر، او ضمني بين الاطراف التي قامت، او تسترت على تلك الجرائم، رغم ما بين تلك الاطراف من تناقضات في الموقف من حيثيات وتفاصيل الموضوع العراقي، تؤشر الى حرب معلنة بين بعض تلك الاطراف، وكان من اشكال التواطؤ قيام الاميركيين بتسليم اشخاص الى الاجهزة الامنية والعسكرية، والى الميليشيات العراقية لقتلهم او اعتقالهم وتعذيبهم، او قيام الميليشيات والجماعات المسلحة بتسليم اشخاص الى الاجهزة الامنية والقوات العراقية، واحياناً، كان يتم العكس. وكانت عمليات تسليم تتم بين ميليشيات وعصابات اجرامية وعناصر استخبارية تابعة لدول من الجوار العراقي. باختصار كان يتم تواطؤ وسخ وغير مفهوم، لا يفسره سوى توافق الجميع وتشاركهم بالعمل على التنكيل بالعراقيين وتدمير حياتهم وممتلكاتهم في كل الاحوال.
ان مضامين وحيثيات وثائق فضيحة ويكيليكس، وما أشرت اليه من شخصيات وقوى وجماعات محلية، وجهات اقليمية ودولية، تؤكد ان هؤلاء جميعاً، لن يهتموا بما حوته تلك الوثائق والتدقيق فيها، ومحاسبة المجرمين والمتسترين، لانهم سيكونون في عداد هؤلاء، واذا كانوا سيتدخلون، فسوف يكون تدخلهم عكسياً، هدفه التشكيك بمحتوى ومصداقية تلك الوثائق، وللتشويش على التحقيقات والدعاوى التي ستقام ضد اشخاص وجماعات ودول من اجل ادانتهم بما أرتكبوا، وقد باشر بعض هؤلاء التعبير عن مواقفهم منذ لحظة الكشف عن الوثائق، وتكرست تلك التعبيرات على نحو ما بدا عليه موقف رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي وبطانته، وموقف وزيرة الخارجية الاميركية هيلاري كلينتون.
واذا تجاوزنا موقف المرتكبين ومحتوى اهتمامهم بالوثائق، وانتقلنا الى المحيط العربي باعتباره مهتماً بالموضوع العراقي على نحو ما يقال، فان الظاهر مجرد اهتمام اعلامي لا يتجاوز حدود الكلام في الموضوع دون الذهاب الى أي خطوات عملية من طراز تشكيل لجنة تحقيق عربية عما حدث في العراق، او المطالبة بتشكيل لجنة تحقيق دولية، او تقديم شكاوى الى المنظمات الدولية والى محكمة الجنايات الدولية، التي يشمل اختصاصها الارتكابات والجرائم التي تحدثت عنها وثائق ويكيليكس، وتجريم من قاموا بها. بل ان الموقف العربي العام، يذكرنا بمواقف التنديد والاستنكار والشجب الذي ظهر عقب فضائح تعذيب العراقيين وانتهاك انسانيتهم وكراماتهم في سجن ابو غريب، بل ان الموقف العربي اليوم يبدو اضعف من ذاك.
واذا كان موقف العراقيين والعرب على هذا النحو في التعامل مع الوثائق، فقد يكون من الطبيعي ان يكون الموقف الاقليمي والدولي في المستويات الرسمية مماثلاً للموقف العراقي والعربي سواء بسبب المشاركة او التواطؤ في الجرائم والارتكابات ضد العراقيين، او بسبب مسايرة الولايات المتحدة الامريكية، التي لا شك انها تتحمل المسؤولية الكاملة فيما حدث اياً تكن الاطراف التي قامت به.
ويشير الواقع الى محدودية وضعف الجهات التي يمكن ان تهتم، وتتعامل بطريقة موضوعية وانسانية مع فضيحة ويكيليكس، وهي اوساط الرأي العام في مستوياته المحلية في العراق وفي المستويين الاقليمي والعالمي، اضافة الى منظمات حقوق الانسان والهيئات القانونية. وفي كل الاحوال، فان اهتمام هذا النسق من الرأي العام والمنظمات الحقوقية والهيئات القانونية، يمكن ترجمته في ثلاث محاور اساسية، الاول فيها السعي الى تحويل الفضيحة الى قضية رأي عام تضغط على الحكومات والبرلمانات للتعامل مع الوثائق بكل جدية، والدفع نحو محاكمة ومعاقبة المجرمين الذين أظهرتهم الوثائق، والثاني البدء برفع دعاوى امام المحاكم الجنائية، حيث أمكن ضد الاشخاص والجماعات والدول من مرتكبي الجرائم ومحاكمتهم وتجريمهم بما يستحقون من عقوبات، والمحور الثالث المطلوب في عمل نسق الرأي العام والمنظمات الحقوقية والهيئات القانونية، يتمثل في حملة دعاوية – ثقافية ضد الحرب وضد التدخلات الخارجية ولا سيما العسكرية، والتي من الواضح انها باتت تؤدي الى ذات النتائج المدمرة كما في المثالين الافغاني والعراقي، والتي لاشك انها سوف تتكرر في حال احتلال أي بلد، وهو أمر يعني العالم بأغلبية شعوبه ودوله، ان لم نقل كلها معنية بعدم تكرار المآسي التي تحدثت عنها فضيحة ويكيليكس، وهذا يؤكد ان العالم اليوم امام تحدي تلك الفضيحة ومحتوياتها، وهناك من ينتظر الذين يهتمون بها!
([) كاتب سوري
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى