صفحات ثقافية

محمد شكري… ذلك المتوحِّد بنفسه

null
حسونة المصباحي *
رغم أنّه كان قد بدأ يقترب من السبعين، فإنّ محمد شكري (1935 ـــــ 2003) لم يقلع عن الكثير من عاداته القديمة، متحدياً بذلك المرض والشيخوخة ومتاعبهما. لعلّ الحرية التي كان يتمتع بها ساعدته في المحافظة على جوانب متعددة ومتنوعة من حياته الماضية، أيامَ كان يخلط الليل بالنهار والنهار بالليل، محاولاً أن يقتنص من الحياة ما لذَّ وطاب قبل فوات الأوان.
كان آخر شُطَّار طنجة رجلاً حراً بالمعنى الحقيقي للكلمة. فقد أنعم عليه رفضه المبكر للزواج، بالخلاص من كلّ ما يمكن أن ينتج عنه من مشاكل وقلاقل وعواصف وآلام. كما أنّه حرص ـــــ وخصوصاً بعد وفاة والدته مطلع الثمانينات من القرن الماضي ـــــ على قطع كل صلة له بالعائلة. وفي طنجة حيث كان يعيش منذ سن السابعة، ورغم الشهرة التي كان يتمتع بها، كان يسعى دائماً إلى أن يكون متوحّداً بنفسه بعيداً عن المجموعات، سواء كانت سياسية أو ثقافية، منصرفاً إلى حياته الخاصة انصرافاً يكاد يكون كلياً.
كانت لشكري عائلته الخاصة. فقد كان يكنّ وداً كبيراً لخادمته فتحية، ولا يبخل عليها بالمساعدة في الأزمات. وكان له كلب يدعى «جوبا». بعد وفاة ذلك الكلب، جلب محمد شكري سنجابين، وسلحفاة، وكنارياً كان يوقظه في الصباح بزقزقاته البديعة. وجميع هذه المخلوقات الجميلة كانت تعيش معه في شرفة الشقة المتواضعة التي كان يسكنها في الطابق الخامس في شارع البحتري (شارع تولستوي سابقاً). ومع هذه المخلوقات، كان يتحاور بين وقت وآخر لأنها «أفراد عائلته» كما كان يحبّ أن يقول لزواره.
صعود درج الطوابق الخمسة كان يتعبه كثيراً، ويجبره على التوقف أكثر من مرة ليسترد أنفاسه، إلا أنّ شكري أبى مغادرة الشقة حتى أيامه الأخيرة. أحاط نفسه بأعدادٍ كبيرة من الكتب والمجلات، وعلق علّى الجدران لوحات أهداه إيّاها فنانون مغاربة. علق أيضاً صوراً لأصدقاء قدامى من أمثال جان جينيه وتينيسي ويليامز ومحمد زفزاف ومحمد بنيس ومحمد برادة والطاهر بن جلون وألبرتو مورافيا…
لم يكن صاحب «الخبز الحافي» يملّ من الاستماع إلى الموسيقى. كان يمتلك معرفة واسعة بشأنها، وكان يميل خصوصاً إلى أسمهان وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وصليحة التونسية والهادي الجويني وعبد الهادي بلخياط. كما كان يعشق الأغاني البربرية والسمفونيات الكلاسيكية وموسيقى الجاز وأغاني جاك بريل وأديث بياف ودينا واشنطن. أجمل الساعات كانت تلك التي يقضيها ممدداً على الكنبة قرب الشرفة، مستمعاً إلى الموسيقى.
وكان شكري شديد الارتباط بطنجة، التي جاء إليها من منطقة «الريف» (شمال المغرب) وهو في السابعة، هارباً وعائلته من الفقر والجوع. وكانت السنوات الأولى التي عاش فيها، وصوّرها في رائعته «الخبز الحافي» مفعمةً بالشقاء والعذاب. للحصول على قوته اليومي، كان عليه أن يمارس التهريب ويبيع السجائر، ويعمل عتّالاً في الميناء، ويغني في حفلات الأعراس والختان، ويمارس مهناً مهينة أخرى. وعندما يأتي الليل، كان ينام في مداخل العمارات بل أحياناًَ في المقابر.
وقَّع «عقد زواج كاثوليكياً» مع طنجة وصوَّر مهمشيها وأشقياءها وبغاياها ومجانينها
وفي جميع أعماله من «الخبز الحافي» و«السوق الداخلي» و«الخيمة» و«مجنون الورد» و«زمن الأخطاء» و«وجوه» وغيرها، تحضر طنجة بقوة. تظهر بحياتها الليلية الصاخبة، وبمهمّشيها وأشقيائها وبَغاياها ونشّاليها و«شطّارها» ومجانينها. كأنها البطل الثاني بعد محمد شكري في أعماله. وربما لهذا السبب، كان يحرص على أن يقول: «أنا كاتب مغربي من طنجة!» وهو على حق في ذلك، إذ إننا لا نعثر في مجمل أعماله إلا على إشارات قليلة لبعض المدن الأخرى، مثل العرائش وتطوان وأصيلة والدار البيضاء. وقد سمحت طنجة لشكري بأن يتعرف إلى كتاب كثيرين كانوا يزورونها أو يترددون عليها مثل جان جينيه وتينيسي ويليامز وبول بولز الذي أقام فيها وآخرين. من المؤكد أنّ هذه العلاقات مع كتّاب يتمتعون بشهرة عالمية جعلت محمد شكري يشعر بأن طنجة هي المدينة الأفضل في المغرب كلّه. مدينة يحصل فيها على ما يشاء، وخصوصاً على المستوى الإبداعي، من دون أن يكون مجبراً على السفر بعيداً. ثم إنّ هذه المدينة تتمتع بفتنة خاصة تجعلها تبدو كما لو أنَّها فضاء مليء بالسحر والألغاز. الجميع ينتقدونها، لكن لا أحد يقدر على الابتعاد عنها. يقول محمد شكري: «أعتقد أنَّ لكل كاتب مدينة خاصة به. مع طنجة أنا وقّعت عقد زواج كاثوليكياً!»
رحل جميع عشاق طنجة، وكان محمد شكري آخرهم (15/ 11/ 2003). والآن حين أذهب إلى طنجة، أعيد الطواف في جميع الأماكن التي كان يرتادها. أرى صوره معلَّقة على الجدران تشهد على أنَّه ما زال حياً في ذاكرة أهالي طنجة.
* كاتب تونسي

النص الملعون
طغت سيرة محمد شكري الذاتيّة «الخبز الحافي» على إنتاجه الأدبي الآخر، إلى درجة صار صاحبها ينعتها بالنص الملعون. وإن نظرنا إلى أعمال شكري بالإجمال، وبعيداً عن صورة الأميّ الفقير الذي أصبح كاتباً، نرى كيف رسّخ أسساً لأدب الهامش في النصف الثاني من القرن العشرين، الخارج على المؤسسة أدبياً وسياسياً واجتماعياً. نراه شاهداً على العصر، يكتب سجلاً للتاريخ الباطني للمغرب الحديث. في «الخبز الحافي» يؤرخ لفترة الاستعمار الإسباني لشمال المغرب، وفي «زمن الأخطاء» يوثّق لفترة بداية الاستقلال. فيما يرصد في كتاب «وجوه» وضعية الانكسار والكساد، التي أصابت مدينة طنجة عقب حرب 1967، ثم بعد حرب «الخليج الأولى». هكذا يخرج من السيرة الذاتية البحتة، إلى نوع من «الكتابة البيضاء»، هي في منتصف الطريق بين السيرة الذاتية والتخييل، ولا تهتم إلا بالكتابة بحد ذاتها… لكنّها تحفر طريقها في قلب السياق التاريخي والاجتماعي.
الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى