صبحي حديديصفحات مختارة

بين الزيف والتزييف: هل يجري العداء للسامية في العروق؟

null
صبحي حديدي
أنتوني جوليوس محام بريطاني بارز (أشهر قضاياه كانت طلاق الأميرة ديانا من الأمير شارلز)؛ لكنه أيضاً كاتب يهودي نشيط، وناشط، في المسائل التي تدور حول العداء للسامية بصفة خاصة، وهو يتناول موضوعاته من زوايا تاريخية أو سوسيولوجية (كما في كتابه الأخير ‘محاكمات الشتات’)، وكذلك نقدية وأدبية (أصدر، منذ سنوات، كتاباً لامعاً عن جوانب العداء للسامية في شعر ت. س. إليوت). ومؤخراً، وجد جوليوس نفسه مضطراً إلى الخروج عن قواعد التضامن المألوفة، السائدة عموماً في أوساط الكتّاب اليهود تجاه إسرائيل، وتخطئة الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس في تصريحاته حول طبيعة ونطاق انتشار نزعة العداء للسامية في بريطانيا.
ففي حوار مع المؤرّخ الإسرائيلي بيني موريس، نشرته مجلة Tablet البريطانية الإلكترونية التي تعنى بـ’الحياة اليهودية’ كما تعلن في صدارة موقعها، صنّف بيريس بريطانيا في خانة الدول المعادية للسامية، مستذكراً القول الدارج: ‘المعادي للسامية هو الشخص الذي يكره اليهود أكثر من المقدار الضروري’؛ ومسترجعاً امتناع بريطانيا عن التصويت على قرار التقسيم لسنة 1947، وفرض حظر لبيع الأسلحة إلى إسرائيل، وتوقيع اتفاقية عسكرية مع الأردن… باختصار ـ وبعد أن تناسى أنّ ‘وعد بلفور’، لإقامة دولة يهودية على أرض فلسطين، كان بريطانياً ـ أطلق بيريس هذا الحكم القاطع على البريطانيين: ‘لقد عملوا ضدّنا على الدوام’.
لائمة بيريس لم تقتصر على بريطانيا الرسمية وحدها، بل شملت توبيخ ممثّلي الأمّة المنتخبين إلى مجلس العموم: ‘مشكلتنا التالية في إنكلترا هي وجود ملايين عدّة من الناخبين المسلمين. وبالنسبة إلى كثير من أعضاء البرلمان، هذا هو الفرق بين الفوز في الانتخابات أو خسرانها. وفي انكلترا كان ثمة، على الدوام، مناخ مؤيد للعرب في العمق، لا يشمل جميع الإنكليز بالطبع، ومناخ معادٍ لإسرائيل على نطاق المؤسسة (…) إنهم يعتقدون بأنّ الفلسطينيين ضحايا اضطهاد، وبأنّ كلّ العرب مضطهدون في ناظرهم، رغم أنّ هذا ليس عقلانياً. خذوا مثال غزّة. لقد أخلينا غزّة من جانب واحد، فلماذا يطلقون علينا الصواريخ؟’.
لكنّ تخطئة هذه التصريحات لم تصدر عن برلمانيين أصدقاء للدولة العبرية، مثل جيمس كلابيسون، نائب رئيس جمعية ‘أصدقاء إسرائيل’ في حزب المحافظين، فحسب؛ بل تولى الأمر، أيضاً، عدد من رجالات الجالية اليهودية في بريطانيا، إسوة بما فعل المحامي جوليوس؛ وكذلك كان لافتاً أن تسلّط عليها الأضواء، من منطلقات ناقدة، يومية الـ’ديلي تلغراف’ المعروفة تاريخياً بالإنحياز الصريح إلى الشأن اليهودي عموماً، وسياسات إسرائيل بصفة خاصة. أكثر من هذا، أدرك بيريس أنّ منافع تلك التصريحات أقلّ بكثير من مضارّها على الرأي العام البريطاني، والأوروبي كذلك، فأصدر مكتبه بياناً ينفي أنه أطلق صفة العداء للسامية على بريطانيا، وأنّ الرئاسة تدقّق في التسجيلات الصوتية للحوار.
ويتذكّر جوليوس أنّ التهمة الأشهر في تاريخ العداء للسامية، أي قيام اليهود بذبح الأطفال المسيحيين لاستخدام دمائهم في أداء طقوس دينية سرّية، كانت قد وجدت تطبيقها العملي الأوّل في بريطانيا، وأسفرت عن موجات الطرد الأبكر في التاريخ اليهودي، سنة 1290. لكنه يتذكّر، أيضاً، أنّ بريطانيا لم تشهد محاكمة تماثل ‘قضية دريفوس’ في فرنسا، ولم تبلغ مشاعر العداء للسامية مستوى معسكرات الاعتقال في أوشفتز، أو فظائع الهولوكوست التي جرت هنا وهناك على نطاق أوروبا الشرقية. أغلب الظنّ أنه، وقد نظر إلى الأمر من زاوية حصيفة وذرائعية في آن، كان يعرف أنّ نسبة 60 في المئة من الحوادث التي تُصنّف رسمياً في باب العداء للسامية، على الأرض البريطانية، إنما تكون أسبابها سياسية صرفة، وبواعثها في الأغلب ناجمة عن الاحتجاج على سياسات إسرائيل ضدّ الفلسطينيين.
وفي واقع الأمر، ثمة الكثير من الكتّاب اليهود الذين يرفضون استخدام الكوارث اليهودية كيفما اتفق، لا سيما حين تُرفع على هيئة فزّاعات في وجه الإنسانية، وذلك من منطلق الحرص على إبقاء اليهودي في صورة الضحية، وتفادي التصاق إسرائيل بصورة الضحية المنقلبة إلى جلاّد. تاريخ الهولوكوست ليس ملكاً خالصاً للضحايا، وحدهم، من جانب أوّل؛ وهو، من جانب ثانٍ، لم يعد رهينة الذاكرة اليهودية، حصرياً، وبات سلسلة وقائع تجب دراستها واستخلاص العظات منها؛ وهي، من جانب ثالث، ليست حكراً على الدولة العبرية، لأنّ تراث الهولوكوست، على نقيض من التبشير الصهيوني، يخصّ الإنسانية جمعاء.
ولهذا فإنّ كتاب ‘في ظلّ الهولوكوست: الصراع بين اليهود والصهاينة في أعقاب الحرب العالمية الثانية’، لأستاذ الألسنيات في جامعة تل أبيب يوسيف غرودزنسكي، ينصف ضحايا الهولوكوست من زاوية غير مألوفة أبداً: دور المؤسسة الصهيونية ذاتها في صناعة الهولوكوست، وكيف انطوى ذلك الدور على تواطؤ مباشر صريح بين بعض القيادات الصهيونية وكبار ضبّاط الرايخ الثالث المسؤولين عن تصميم وتنفيذ ما عُرف باسم ‘الحلّ النهائي’ لإبادة اليهود.
الوقائع التي يذكرها غرودزنسكي معروفة، ولكنه هذه المرّة يتناولها وقد وُضعت في سياقات جديدة تماماً تخصّ هذا الجانب تحديداً: كيف جرى ويجري تسويق الهولوكوست لأسباب سياسية صرفة تطمس، وأحياناً تشطب تماماً، الوقائع الإنسانية التي تسرد عذابات الضحايا وآلامهم وتضحياتهم؟ وكيف جرى ويجري الضغط على ضحايا الهولوكوست، وأحفادهم من بعدهم، للهجرة إلى فلسطين المحتلة رغم إرادتهم غالباً؟ وكيف استقرّ دافيد بن غوريون على الرأي القائل بضرورة تضخيم حكاية سفينة ‘الخروج’ الشهيرة، سنة 1947، لكي تشدّ أنظار العالم إلى مأساة اليهود، وتستدرّ العطف عليهم، والتعاطف مع الوكالة اليهودية التي كانت تقوم مقام دولة إسرائيل؟ وكيف أنّ حقائق السفينة لا تنطبق أبداً على التمثيلات الملحمية البطولية كما جرى تلفيقها في رواية ليون أوريس الشهيرة، وفي فيلم أوتو بريمنغر الأشهر.
وغرودزنسكي يتوقف مطولاً عند ‘قضية كاستنر’، التي بدأت فصولها سنة 1945 حين نشر اليهودي الهنغاري مالكئيل غرينفالد، أحد الناجين من الهولوكوست، كرّاساً صغيراً يتهم فيه اليهودي الهنغاري رودولف كاستنر (القيادي الصهوني البارز وأحد أقطاب الـ ‘ماباي’، حزب بن غوريون) بالتعاون مع النازيين خلال سنتَي 1944 و1945.
والوقائع التي سردها غرينفالد يقشعرّ لها البدن حقاً: لقد وافق كاستنر، بعد تنسيق مباشر مع الضابط النازي المعروف أدولف إيخمان قائد الـ ‘غستابو’، على شحن نصف مليون يهودي هنغاري إلى معسكرات الإبادة، بعد أن طمأنهم كاستنر وبعض معاونيه إلى أنّهم سوف يُنقلون إلى مساكن جديدة، حتى أنّ البعض منهم تسابقوا إلى صعود القطارات بغية الوصول أبكر والحصول على مساكن أفضل! وكان الثمن إنقاذ حياة كاستنر وبعض أقربائه، وغضّ النظر عن هجرة 1600 يهودي إلى فلسطين.
ولقد تحوّل ذلك الكرّاس إلى قضية، حين رفع كاستنر دعوى أمام القضاء ضدّ غرينفالد، بتهمة تشويه سمعته. وبعد أخذ وردّ أصدر القاضي الإسرائيلي بنيامين هاليفي حكمه بأنّ كاستنر تعاون بالفعل مع النازيين و’باع روحه للشيطان’.
المثير أنّ كاستنر قرّر استئناف الحكم، لكنه اغتيل في عام 1957 ضمن ظروف غامضة، الأمر الذي يشكك في تفاصيله كتاب مثير آخر ـ هو ‘الموت والأمّة: التاريخ، الذاكرة، والسياسة’، للمؤرّخة الإسرائيلية إديث زيرتال ـ يعزو الاغتيال إلى أجهزة الإستخبارات الإسرائيلية، لأنّ وجود كاستنر على قيد الحياة بات مصدر إحراج للدولة. صحيح أنّ المحكمة العليا برأت كاستنر بعد وفاته، إلا أنّ القضية كانت قد حطّمت ـ للمرّة الأولى منذ بدء فصول الهولوكوست ـ الحدود شبه المقدّسة بين الضحية والقاتل، وأسقطت الحصانة المطلقة التي تمتّع بها اليهودي في المسؤولية عن الهولوكوست.
هذا في ما يخصّ الوجه الآخر من حقوق الضحايا، وثمة حقوق تالية تدور حول الدروس التربوية التي يجب أن تتعلمها الدولة العبرية أوّلاً، وقبل الإنسانية جمعاء. وقبل انزلاق بيريس إلى تأثيم الامّة البريطانية، كان التيار العامّ في التفكير اليهودي والصهيوني لا يكفّ عن تأثيم الأمّة الألمانية، كابراً عن كابر، بحجة أنها أمّة يجري العداء للسامية في عروق أبنائها، وبالوراثة البيولوجية. ولم يكن كلّ هذا ينفي التبصّر في مسائل مثل هذه: كيف أتيح لأمّة عظيمة أنجبت غوته وشيللر أن تنفّذ هذه المجازر؟
أو: ماذا تبقّى من مصداقية في ذلك التأويل اليهودي، الأصولي المحض، الذي يردّ الهولوكوست إلى فكرة تهديم الهيكل، والكراهية الأزلية بين اليهودي والوثنيّ العام؟
أو: حتام تحتمل البشرية نظرية إيلي فيزل، التي ترفض أي وجه للمقارنة بين الهولوكوست وأيّ وكلّ مآسي الإنسانية قديمها وحديثها، من إبادة الهنود الحمر (قرابة 70 مليون قتيل)، إلى مذابح رواندا ربيع 1994 (قرابة مليون قتيل)، فضلاً عمّا جرى ويجري كلّ يوم في فلسطين وأفغانستان والعراق؟
وفي سنة 1993 أحيت الإنسانية الذكرى الخمسين لانتفاضة غيتو وارسو، بحضور إسحق رابين، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، الذي حرص قبل سفره على تحويل الضفة الغربية وقطاع غزة إلى ‘غيتو فلسطيني’ قسري. وأمّا مارك إيدلمان، القائد العسكري اليهودي الوحيد الذي نجا من غيتو وارسو، فقد أعلن أنه سئم المقابلات الصحافية والتصريحات الجوفاء: ‘ما جدوى غربلة الماضي إذا كنّا قد فشلنا في تعلّم دروسه؟ الغرب ما يزال يضع الخطط الاستراتيجية في المرتبة الأولى، ويفضّلها على الأرواح البشرية. ما يجري في يوغوسلافيا اليوم هو انتصار لهتلر وهو في قبره، والغرب يكرّر أخطاء الماضي مثل تكراره بلاغته الكاذبة ونفاقه الفاضح’!
كان الرجل يدلي بهذا التصريح، النزيه، وهو يعرف أنّ بعض الألمان العنصريين يتبادلون فيما بينهم هذه النكتة: ‘ما هو الفارق بين اليهودي والتركي؟ الفارق أنّ الأوّل نال ما يستحقّ، وأمّا الثاني فسيحين دوره قريباً’! وفي بريطانيا، وبعد عواقب ‘عاصفة الصحراء’ وقضية سلمان رشدي و’الآيات الشيطانية’، لم يجد كليم صدّيقي، المدير الأسبق للمعهد الإسلامي في لندن، مفرّاً من إطلاق التصريح الرهيب التالي: ‘هنالك غُرَف غاز هتلرية يجري تحضيرها للمسلمين’.
شابير أختار، عضو مجلس مساجد برادفورد حينذاك، قال: ‘إذا تكرّرت غرف الغاز مرّة أخرى في أوروبا، فليس ثمة شكّ في هوية مَن سيكون بداخلها’! وقبلهما، للمفاجأة، كانت مارغريت ثاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا الأسبق، هي التي تحدّثت عن ‘هولوكوست جديد’، بحقّ المسلمين هذه المرّة، في البوسنة والهرسك.
وحين يعود بعض اليهود اليوم إلى ارتداء نجمة داود الصفراء، للتذكير بالنجمة التي أُجبروا على وضعها قبيل انطلاق الهولوكوست، مضافة إليها عبارة ‘لن أنسى’؛ أو حين ينبش بيريس تواريخ الماضي، في مسعى لتصنيع المزيد من مناخات العداء للسامية في بريطانيا؛ فإنّ المآل هو التشديد مجدداً على التعريف المفضّل لليهودي: كائن الكابوس، الذي يتذكر ويتذكر ويتذكر… لا بأس، إذا توقف عن الإنقلاب من قتيل إلى قاتل، ومن ضحية إلى جلاّد، ومن مدمن على ذاكرته إلى مدمّر لذاكرات الآخرين، ومن سليل قاطني الـ’غيتو’ إلى صانع لعشرات الـ’غيتوات’ الأبشع والأشدّ بربرية.
وهيهات أن يفعل، غنيّ عن القول!

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى