ذاكرة الصفحاتياسين الحاج صالح

من أين يأتي التغيير؟ جدليات الداخل والخارج في الشرق الأوسط

null
ياسين الحاج صالح
تتنافس اطروحتان على تحديد الجهة المؤهلة لإحداث التغيير في البلاد العربية: أطروحة تقول إن التغيير الحقيقي ينبع من الداخل، واخرى ترى أن التغيير لا يأتي إلا من الخارج. سنسمي الأولى الأطروحة الداخلية، والثانية الأطروحة الخارجية. وفي اجواء النقاش العربي المتوترة والمشوشة في الوقت ذاته ينتقل المساجلون من الأحكام التحليلية إلى الأحكام المعيارية دون إشكال. فمن يقرر ان التغيير يأتي من الخارج أو “لا يأتي إلا من الخارج” حسب صيغة لجهاد الزين ( من محاضرة له في منتدى الأتاسي في دمشق بعنوان “علاقة الداخل والخارج في عملية التغيير الديمقراطي”، شتاء 2004) قد يأخذه الحماس لهذا القرار الذي يفترض في الأصل أنه حكم تحليلي، فيشرع في تمجيد “الخارج” وهجاء الداخل ورميه بعقم جوهري وعجز عن إصلاح الذات. وبالمثل يمزج القائلون بافضلية التغيير الداخلي بين حكمهم المعياري هذا وبين تاكيد قدرة الداخل على التغيير وخصوبته، إن لم نقل انتفاء حاجته للتغيير اصلا.

داخليون وخارجيون
ولكل من الطرفين نظريته عن اسباب حال الاستبداد والجمود التي تخنق المجتمعات العربية، وتسوغ مطالب التغيير فيها. يميل “الخارجيون” بصورة نسقية إلى تفسير الاستعصاء العربي بأسباب داخلية، مع ميل غالب إلى اشتقاق احوال العرب الراهنة من تاريخهم وثقافتهم ولغتهم والدين الإسلامي. فالأطروحة الخارجية ذات منزع ثقافوي غالب. بالمقابل يجنح الداخليون إلى تفسير التعثر العربي المستدام بعوامل خارجية: السيطرة الغربية، إسرائيل، الهيمنة الأميركية الحالية إلخ. والأطروحة الداخلية استراتيجية واقتصادية التناول غالبا. وفي الواقع يندر قلما نجد تفسيرا داخليا نقيا أو خارجيا صرفا. لكن التركيز الغالب للخارجيين تغييريا هو الداخل تفسيريا، والتركيز الغالب للداخليين تغييريا هو الخارج تفسيريا.
برز هذا النقاش بعد 11 ايلول، وتلقى دفعة منشطة بعد احتلال العراق وإسقاط نظامه، حيث بدا أن الولايات المتحدة اضحت قوة تغييرية او ثورية في العالم العربي أو “الشرق الأسط”. وفي خلفيته يكمن شح الرؤى التغييرية بعد هزيمة الخيار الاشتراكي، والنصر الذي تحقق للديمقراطية الليبرالية كما هي مجسدة في الغرب حسب فوكوياما، الذي بنى على النصر هذا نظريته حول “نهاية التاريخ”. وتتمثل محرضات النقاش في سوريا في مزيج من إخفاق الإصلاحية الرسمية، ودوام ضعف المعارضة العلمانية، وخشية من الإسلاميين لدى بعض أوساط السوريين، مع ما أشرنا إليه من فاعلية تغييرية أميركية تمثلت في إسقاط النظام البعثي في العراق.
بسرعة، وبالتناسب مع انسداد آفاق التغيير، تحول النقاش حول هذه القضية إلى نقاش عقيدي، وانفرز معسكران متحاربان، وانتج كل منهما داخله وخارجه. وكما هو الحال في كل نقاش عقيدي يبدو الخصم مصابا بعاهة عقلية او بقصور متأصل يمنعه من الفهم وإدراك الحقيقية التي ينفرد الطرف الآخر بمعرفتها. يجنح الداخليون، على العموم، إلى تخوين خصومهم الخارجيين أو تكفيرهم، فيما يميل الخارجيون إلى تسفيه الداخليين أو تجهيلهم. والتسفيه والتخوين سياجان لمعسكرين تتحدد هويتيهما تبادليا، ما يمكننا من القول إن “داخل” كل من المعسكرين ثمرة فعل إقصاء وطرد نحو “الخارج”. لنحتفظ بهذه النتيجة الأولية لما يلي من تحليل: الداخل والخارج لا يسبقان التسييج والإقصاء بل هما ثمرتاه اللتان خرجتا من صلبه. هذا ينطبق على داخل وخارج معسكري الداخليين والخارجيين. وستسعى هذه المناقشة إلى إظهار تعقيد مفهومي الداخل والخارج، وأنهما في النقاش الحالي محض إيديولوجيتين، أو ركيزتان لإيديولوجيتين علاقتهما بدعاتهما اقوى من علاقتهما بالواقع. بعبارة اخرى، الداخل والخارج يعرفان مجموعتين إيديولوجيتين ويميزانهما عن بعضهما ويقترحان عليهما المواجهة المناسبة أو “التناقض الرئيسي”الذي يحددهما، أكثر مما يعرفان واقعا.
يفيد ان نضيف أن الأطروحة الداخلية وتتمفصل بصورة أفضل على كل من العقيدتين الإسلامية والقومية العربية مع تنويعات ماركسية تقليدية، فيما تعثر الاطروحة الخارجية على تمفصلها المفضل في العقيدة الليبرالية الجديدة وفي تنويعات ماركسية أشد تركيزا على قضايا الحداثة والعلمانية.

دواخل وخوارج
وإنما لغلبة الطابع الإيديولوجي على المجموعتين وعلى النقاش بينهما قلما يميز أصحاب الأطروحتين الداخلية والخارجية بين المعاني المتعددة والمتعارضة لكل من الخارج والداخل المتعددة. يمنعهما المنهج السجالي (برهان غليون) الذي لا يضمن لهما انتصارا (وهميا) على الخصم إن لم يستسلما أمامه (المنهج) استسلاما حقيقيا.
لا يحتفظ الخارج والداخل بالمعنى ذاته حين نتحول من الكلام عن الدولة إلى الثقافة إلى العلوم أو التكنولوجيا إلى الأمن أو الاقتصاد أو الشؤون العسكرية أو البيئة. وبينما لا معنى للحديث عن بيئة سورية منفصلة عن غيرها (السياسات البيئية أمر آخر) مثلا، فإن الجنسية لا تحمل على غير الدول المعترف بها من قبل الأمم المتحدة. وبينما قد نقبل، بل نتحمس، للوحدة الحضارية العالمية، فإن الدول القائمة، والأقوى قبل غيرها، لا تبني سياستها على ذلك القبول أو هذا التحمس. ويعرف الاقتصاديون ان قطاعا إنتاجيا غير منافس في احد البلدان يستوجب اشكالا متنوعة من الحماية (العزل عن المنافسة الخارجية) ريثما يستكمل مؤهلاته التنافسية، فيما من الضروري لقطاع منافس أو يحوز أفضلية من نوع ما أن “يخرج” إلى العالم وينخرط في معمعان المنافسة والانفتاح على الخارج.
إلى ذلك تختلف مدركات الداخل والخارج حسب البلدان والمراحل التاريخية. فلم يكن للعراق داخل منذ عام 1991 بالمعنى الذي نتحدث فيه عن داخل أميركي، وليس لفلسطين داخل يقارب الداخل الإسرائيلي من قريب او بعيد. وليس لسوريا داخل ذاتي متفاعل يقارن مع الداخل الفرنسي او حتى الهندي. وهو ما يعني في الحالات الثلاثة أن تأثير ما ندعوه بإجمال شديد “العوامل الخارجية” كبير جدا على العراق وفلسطين وسوريا، فيما هو محدود بالمقابل على الولايات المتحدة وإسرائيل وفرنسا والهند. ويعني ايضا ان الداخل والخارج علاقتان ونسبتان وعمليتان وليسا كائنين أو معطيين نهائيين. الهند التي يزداد دخل الفرد فيها ويرتفع معدل نمو اقتصادها وترتقى جامعاتها وتتمتع بحياة سياسية معقولة تحوز داخلا أوسع واعمق من بلد مثل باكستان مثلا مهدد بالتحول إلى دولة فاشلة عام 2015 حسب ما تقوله جهات أميركية. البيت الهندي لا يزال فقيرا، لكن قطع الأثاث فيه تكثر، ويتجه إلى ان يكون سكنا مريحا للهنود، وطنا حديثا.
وتفيد هذه الأمثلة في إبراز حقيقة أن هناك خوارج كثيرة غير متكافئة التاثير. فإسرائيل تحتكر التاثير على الداخل الفلسطيني بالغ الانكشاف والهشاشة (حالة حدية) فيما تأثير الخارج المصري، مثلا، محدود جدا. ومثل ذلك يصح على العراق قبل إسقاط نظام صدام: فتأثير “الخارج” الأميركي لم يكن يقارن بتأثير الخارجين الإيراني والسوري. وهو ما يعني أن أميركا، خلافا لسوريا وإيران، كانت طرفا عراقيا “داخليا” ينتصب قبالة الطرف الآخر الذي هو نظام صدام حسين. وكان التاثير التركي محصورا في مجال محدد (ضرب حزب العمال الكردستاني التركي في شمال العراق) وخاضع للإذن الأميركي. أما بعد أن صارت أميركا في الداخل العراقي فقد اضحى تعبير “التدخل الخارجي” في الشؤون العراقية مدخرا لدول الجوار الأخرى.
وحين نتحدث عن الانكشاف الاستراتيجي أو الاقتصادي أو الغذائي العربي مثلا، فإننا نعني ان العرب معرضون بشدة لرياح التاثيرات الاستراتيجية أو الاقتصادية.. الخارجية. أي أن العرب كأمة دون داخل، او بداخل ضعيف ومعروض على المستويات المشار إليها. وهو ليس أقل انطباقا على دولهم كلا على حدة.
بين الانكشاف التام المتمثل في الحالة الفلسطينية وبين درجات انكشاف اقل تقيم الدول العربية جميعا. ثم إنه كان للعراق داخل أكثر تماسكا وداخلية قبل عام 1991، وبالخصوص قبل عام 1980. ولسوريا اليوم داخل أكثر انكشافا مما كان الحال ايام الحرب الباردة، حين كان الاتحاد السوفييتي عمقا استراتيجيا، اي بمعنى ما رصيدا للقوة السورية وثقلا داخليا.
والخلاصة أنه ثمة دواخل وخوراج، تختلف باختلاف البلدان ومراحل التاريخ وقطاعات النشاط البشري المقصودة، وأن هناك داخل أكثر وداخل اقل، وهناك داخل ينمو ويتعضى ويتعمق وداخل ينحسر ويتفكك ويضحُل.

حضارة وسيطرة
على أن المقصود بالخارج في النقاش السوري والعربي الراهن حول التغيير هو الغرب حصرا، وأميركا أساسا، وليس أبدا تركيا او ايران أو أفريقيا أو الصين أو الهند. وراء تضييق الخارج إلى الغرب عاملان: الأول هو أن الغرب لا يزال يحتل موقع مركز المبادرة التاريخية ومنبع التجديدات الحضارية والمعسكر الأقوى عالميا، الذي لا تحتجب “معسكريته” إلا خلف ضعف خصومه المحتملين بعد انتهاء الحرب الباردة بانتصار مبين له؛ الثاني هو أن الوعي العربي مسكون بالغرب إلى درجة مرضية. فلا نعرف شيئا عن أفريقيا وأميركا اللاتينية والهند والصين وإيران..، ولا نزورها ولا نقارن بينها وبين اوضاعنا، رغم ان معرفة تاريخها ونظمها السياسية وأوضاعها التنموية الراهنة قد تكون أفيد من معرفة الغرب، ورغم ان من شأنها أن تحررنا من الانشداد للغرب والدوران حوله، ورغم ان من شانها أن تخفف من بؤسنا وتضفي النسبية على مشكلاتنا ومصاعبنا الحالية التي تكتسب حاليا قيمة مطلقة لأنها تقارن، دون وسائط، مع المعيار الغربي، الكامل تعريفا. في هذه الحيثية، كان انهيار المعسكر الشرقي منبع عسر ثقافي، فوق تسببه في تدهور سياسي حاد في وزن العرب الدولي. فقد حذف احتمالا تاريخيا وحضاريا كان يحد من “امبريالية” الاحتمال الديمقراطي الليبرالي الغربي الذي ارتفع إلى مستوى قدر، وكف عن كونه احتمالا تاريخيا مكافئا، من حيث المبدا، لغيره. ولعله ثمة صلة بين وحدانية الغرب وبين إعادة تعريفه لنفسه على أرضية ثقافية ودينية. فخروجه من المنافسة أغناه عن تعريف نفسه بهوية عالمية، وأضعف حاجته إلى التأكيد على قيم كونية مشتركة. نريد من هذا ان الخارجيين لا يقلون وفاء و”داخلية” لنظام الوعي العربي الحديث الموسوس بالغرب والمنكفئ عن غيره.
قد نضيف إلى العاملين المذكورين عاملا ثالثا مكونا من تفاعلهما، أعني الالتباس المستمر والتكويني للغرب كخارج جيوسياسي وخارج حضاري بالنسبة للعرب. التمييز بين المعنيين الجغرافي السياسي والمعنى الحضاري لكل من الداخل والخارج يغفله، رغم بداهته، السجال الراهن حول التغيير في العالم العربي. فالتفاعل العربي مع الخارج، بالمعنى الحضاري لكلمة خارج، أي الحضارة الغربية الحديثة، لم يكن إشكاليا منذ “عصر النهضة” بين الربع الأخير من القرن التاسع عشر إلى الحرب العالمية الثانية. ما يعني أن الغرب الحضاري “أدخل” في المجال العربي، وإن لم يكن بصورة متسقة. هذا بينما كان الخارج بالمعنى الجيوسياسي إشكاليا على الدوام، وربما بالضبط لأن العلاقة معه غير تفاعلية في ظل نزعات الهيمنة الغربية بين عصر الامبريالية ومرحلة نزع الاستعمار في نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم، مجددا، منذ حرب الخليج الثانية عام 1991 حتى اليوم. هذا دون أن ننسى إسرائيل، وهي داخل البلاد العربية جيوسياسيا مع بقائها خارجها وضدها حضاريا.
ليس الخارجان هذان متطابقين، ونقل الحجج من أحد المجالين، الجيوسياسي والحضاري، خلسة إلى المجال الاخر هو مصدر معظم الالتباس في النقاش الحالي. فليس برهانا على أن التغيير يأتي من الخارج إحصاء ما أخذناه من الغرب على مستويات التقنية والإدارة والثقافة لأن هذا الأخذ قلما كان إشكاليا، كما قلنا. صحيح أنه وجد على الدوام من يعترض على اي شكل من اشكال التفاعل مع الغرب الثقافي والعلمي والمدني، ما سميناه الخارج الحضاري، لكنه شكل على الدوام اقلية. القول إذن على طريقة جهاد الزين “إن الإصلاح [ في البلاد العربية] ليس فقط لم يأت إلا من الخارج، بل لا يأتي إلا من الخارج” أكثر تبسيطا ونضالوية من أن يفي المسألة تعقيدها وتاريخيتها.
يتناسى الخارجيون أن من التمييزات المالوفة في الفكر القومي واليساري العربي التمييز بين الغرب الحضاري أو ما كان يسمى “غرب العقلانية والعلم والديمقراطية والاشتراكية”، والغرب الاستعماري المبرمج على التوسع والسيطرة والعنصرية، وان النخب العربية لطالما تحمست للأول ورفضت الثاني، مع ميل ثابت إلى الفصل بينهما بصورة مطلقة لمنح الانفتاح على الغرب الحضاري شرعية غير مشوبة. ويقترن هذا النسيان، على العموم، مع تصور المجتمعات العربية مستغرقة، كلا وجميعا، في اصولية متعصبة، عنيفة، عدائية للغرب، كلا وجميعا. ويجد الخارجيون المتطرفون هؤلاء في من قد نسميهم الداخليين المطلقين حلفاء غير منتظرين. فهؤلاء يجنحون إلى رفض الغرب بكل أشكاله وصوره، ويغرقونه في العدواة الشاملة، جاعلين منه فسطاط كفر واحدا متجانسا، على غرار ما عبر الشيخ أسامة بن لادن.
وبصورة نسقية يجنح الداخليون إلى رد الحاضر العربي والإسلامي إلى الماضي، الذي يفترض أنه أصيل أو أقل اختلاطا وتلوثا، فيما يجنح الخارجيون إلى رده إلى الخارج الذي يفترض أنه وحده مصدر التقدم والحداثة والفاعلية. وشرط إمكان الجنوحين معا تفكك مركب الحاضر/ الداخل العربي المعاصر، أو الحداثة العربية، إلى داخل مفصول عن الخارج لا يتماسك دون الاستناد إلى الماضي، وحاضر معزول عن ماضيه لا يقوم دون سند من الخارج. أي لدينا إما داخل مطلق (ومغلق) سنده هو الماضي، أو حاضر مطلق (ومؤبد) لا سند له غير الخارج. وهو ما يشير إلى أن النقاش حول الداخل والخارج مؤشر خام على مدى تفكك بنى المجتمعات العربية وافتقارها إلى القدرة على التغيير الذاتي. يشير أيضا أن الداخلية والخارجية استقطاب جديد يستأنف، لكن على مستوى أفقر وادنى، استقطاب حداثة/ أصالة الذي هيمن في عقد الثمانينات وبعض التسعينات من القرن العشرين.
على أن الأمر لا يرتد إلى محض التباس أو خلل في القراءة. بعض الخارجيين أكثر اهتماما بالتغيير “الحضاري” (بالمعنى الهنتنغتوني الذي يرد الحضارة إلى الثقافة والثقافة إلى الدين) للمجتمعات العربية منهم بالتغيير نحو الديمقراطية. بمعنى آخر يضعون التغيير الديمقراطي في العالم العربي في سياق “صراع الحضارات واعادة هيكلة النظام العالمي” (وهذا عنوان كتاب هنتنغتون الشهير)، وغير قليل منهم يشرطون التغيير السياسي بتغيير حضاري اساسي تحت الرعاية الغربية والأميركية. بالمقابل بعض الداخليين يمزجون رفض الهيمنة الاميركية مع رفض التغيير الديمقراطي والتفاعل الحضاري. وهم أيضا صنف سياسي طرفه الأرأس نظم الحكم الراهنة، وطرف “حضاري” مكون من إسلاميين وقوميين مطلقين. وصاحب نظرية الفسطاطين يشارك دعاة صراع الحضارات المحليين لدينا نظريتهم بالكامل، تماما مثلما تشارك دكتاتورياتنا “العلمانية” العنصريين الغربيين نظريتهم في الخصوصية (انظمتنا تعبير عن خصوصيتنا، والديمقراطية تعبير عن خصوصية الغرب).
ويتدخل هنا عامل ثقافي أو “حضاري” يطل على تفكك الداخل الاجتماعي السياسي العربي في دول عربية عديدة إلى دواخل متعددة متنافرة، أعني التناثر الديني والإثني والطائفي لمجتمعاتها. وهو يرتد، في رأينا، إلى غياب مشروع هيمنة (بالمعنى الغرامشي)، موحِّد وفعال، في المجال العربي بعد تأزم وانحسار المشروع القومي العربي منذ ستينات القرن العشرين.
يحوّر عامل التناثر هذا مفهوما الداخل والخارج في النقاش الحالي ليوظفهما ضمن منهجية هوية تقوم هي ذاتها على مبدا الهوية: داخل متماثل مع ذاته وخارج متماثل مع ذاته، وهما متناقضان تماما فيما بينهما. وتعمل هذه المنهجية في خدمة سياسات هوية معقدة ومتشابكة، تغذيها اليوم الانفعالات والمشاعر الطائفية الآخذة في الانتعاش في مناخات تفاقم الهيمنة الاميركية ومشاريع إعادة هندسة وتشكيل المجال العربي(مشاريع الشرق الأوسط المتنوعة في سياق “الحرب ضد الإرهاب”، التي تذكر بمشاريع الدفاع عن الشرق الأوسط قبل نصف قرن في سياق الحرب الباردة: في استطلاع نشرت نتائجه جريدة “السفير” في 15/10/2004 سار تفضيل اللبنانيين لبوش على كيري او العكس، في انتخابات الرئاسة الأميركية الأخيرة، بموازاة خطوط الانقسام الديني). ويتصل أصل التفكك وسياسات الهوية ومناهجها وطرق تفكيرها في تقديرنا بهشاشة الدواخل الحضارية العربية وتبعثرها وافتقارها إلى صيغ تسوية وتفاهم اجتماعية وسياسية. هذا الشرط، الذي لا مجال لنكران دور “الخارج” فيه، يدفع اليوم إلى تفخيخ مجتمعاتنا عبر استبطان منطق صراع الحضارات. يساعد على ذلك ايضا شرط عالمي يزداد انكفاء عن العقلانية والقيم الكونية للحداثة. فبدلا من اعتبار صراع الحضارات صراعا طائفيا على الصعيد العالمي، ما يستوجب بناء نظام عالمي (أو وطنية عالمية) أكثر مساواة وعدالة، تغدو الصراعات الطائفية والصراع العربي الإسرائيلي صراعات حضارية، ما يعني انفجار “الشرق الأوسط” على نفسه وإعادة بناء المنطقة على أسس “حضارية”، طائفية ودينية وإثنية. وهذا مشروع يجد جذوره في اللاشعور السياسي الغربي حيال المنطقة (عقيدة الفسيفساء)، كما في مصالح وخطط إسرائيل، وبالطبع في تكوين نخب السلطة العربية الرثة والفاقدة لأي أفق تاريخي يعلو على البقاء في السلطة.
وما أشرنا إليه للتو من غياب الهيمنة يكتسب أهميته من أن الهيمنة هي التي تصنع الأكثرية والداخل الوطني الجاذب والمتفاعل، وليس العكس، وهي التي تحرر الأكثرية من الروابط العمودية ومن الانغلاق على الذات وعبادة الداخل، وليس العكس. ذلك أن الأكثرية التي تصنعها الهيمنة أكثرية مصنوعة وليست موروثة، ومركبة وليست بسيطة، ومتحولة وليست ثابتة. لكن لا مجال للتوسع في هذه النقطة هنا.

سيادة وحدود
نريد مما تقدم أن نقرر تعدد الدواخل والخوارج، وأنه ليس هناك جدلية داخل/ خارج متماثلة مع ذاتها على اختلاف البلدان والمراحل التاريخية وقطاعات النشاط الإنساني. وإن الدول القائمة، فيما عدا كونها ظواهر تاريخية، ليست دواخل مطلقة تحوط بجوانب حياة المجتمعات جميعا. بعبارة اخرى، إن حدود الدول ليست أسواراً صينية تعزل داخلا متماثلا مع ذاته عن خارج فوضوي او بري، متجانس في خارجيته.
والواقع أن مفهومي الداخل والخارج ولدا مع ولادة الحدود ومفهوم الدولة السيدة. الحدود هي جلد الدولة السيدة، إهاب جسدها ومبدا تكاملها وكرامتها، واي خدش او طعنة هو إهانة للشرف وتهديد بالموت. ومعلوم أن جلود الدول توزعت في منطقتنا بعمليات جراحية عشوائية قام بها البريطانيون والفرنسيون، ويقوم بها اليوم الأميركيون والإسرائيليون. وبفضل هذه العمليات نشأ لدينا واقع عدم التطابق بين دواخل الدول: الداخل الجغرافي السياسي والداخل الثقافي والداخل الاجتماعي والداخل الاقتصادي. لقد كانت حلب، مثلا، تعيش بفضل موقعها بين اسكندرون وجنوب تركيا وبين الموصل وشمال العراق. لذلك آذن نشوء الكيان السوري الحديث في سياق تكون الدول القومية السيدة في المجال ما بعد العثماني بانحدار مستمر لهذه المدينة. لقد انقطعت شبكة تفاعلاتها الاقتصادية والبشرية واضحت مدينة محلية في دولة ناشئة متقلقلة الكيان. في ذلك الوقت، كانت حدود “الداخل الحلبي” هي حدود تلك الشبكة وليست حدود سوريا (غير الموجودة)، ولا حدود الانتشار العربي، ولا حدود الانتشار الإسلامي، ولا حتى حدود السلطنة العثمانية.
القصد أن الداخل هو جملة تفاعلات، أو أن الداخل لا يوجد قبل التفاعلات كما لا توجد الضفاف قبل الأنهار. التفاعلات المتنوعة هي التي تحدد الحدود، وليس العكس. القصد ايضا أن مفهومي الداخل والخارج ليسا سابقين للتحليل، ينسكب التحليل فيهما كما ينسكب الماء في الحوض. إنهما بالذات مفهومان ينتجان عن التحليل الدينامي للظواهر الاجتماعية والدولية. القصد كذلك ان الداخل تشكل وقتي متبدل في جدلية داخل /خارج متبدلة هي ذاتها.
هذه نتائج مؤقتة تساعد في كشف مدى سطحية وإيديولوجية النقاش الجاري حول التغيير: من خارج أم من داخل؟ جوابنا: دينامية التقاعل أولا، وهي التي توزع الدواخل والخوارج والحدود على الجماعات البشرية. والسيطرة الأميركية على التفاعلات الجيوسياسية والعسكرية والاقتصادية الكبرى في المنطقة هي التي تجعل من أميركا الخارج الداخلي لها أو فيها، حاضرها الغائب.

معضلة التغيير الديمقراطي
من اين ياتي التغيير إذن؟ من الداخل أم من الخارج؟ نقول ببساطة إن التغيير يأتي من الأقوى، لا من خارج مجرد ولا من الداخل القائم. والأقوى هو حاليا الولايات المتحدة، وهي الجهة الأقدر من غيرها ايضا على منع التغيير وإحباطه وفقا لما جرت عليه سياستها منذ الحرب العالمية الثانية حتى 11 ايلول 2001، 60 عاما كما قال بوش قبل أقل من عامين وكررت رايس قبل اسابيع. بقليل من الانتباه نتبين ان قدرة الولايات المتحدة على التغيير هي وجه من قدرتها العامة على التحكم بمصائر المنطقة ودولها وشعوبها، استقرارا بالأمس أوتغييرا او “فوضى خلاقة” اليوم . وهي قدرة أوثق اتصالا بقوتها ونزعاتها الهيمنية منها باهتمام متجرد بالعدالة والديمقراطية في المنطقة.
إلى ذلك، الولايات المتحدة هي الداخل الأكثر داخلية في الشرق الأوسط بالمعنى المنظومي لكلمتي داخل وخارج كإطار للتفاعلات الحاسمة وليس كمحض حدود شكلية لدول (شكلية للقوى الخالقة لها لكنها مقدسة للدول التي ترتديها). فبالمعنى الجيوسياسي والجيواستراتيجي للكلمة، الولايات المتحدة ليست خارج الشرق الأوسط (كنظام تفاعلات سياسية وعسكرية وامنية واستراتيجية)، ولم تكن خارجه أو خارجا بالنسبة له منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبالخصوص بعد حرب السويس 1956 ثم حرب 1967. ولذلك بالذات نتكلم على شرق أوسط وليس على عالم عربي أو وطن عربي. فأميركا تحد دول المنطقة جميعا، وهي قوام داخلية الكثير منها: جميع دول إقليم “بترولندة” في الخليج، ومصر، وقبل الجميع بالطبع إسرائيل. ومشروعها الخاص بالشرق الأوسط الكبير (وقد وصفناه، في مكان آخر، بأنه خريطة طريق للحرب ضد الإرهاب) يعمل في سياق نقل داخليتها هذه من حكم الواقع إلى حكم الشرعية والقانون.
لكن الولايات المتحدة خارج المنطقة بالمعنى الثقافي أو الروحي. وبعض الخارج هذا اشد عدائية وعنصرية حيال العرب والمنطقة ككل حتى من أميركا كخارج جيوسياسي (محافظون جدد، مسيحية صهيونية، إنجيليون متعصبون..) وبعضها كوني ويمكن للعرب وغيرهم أن يشاركوا فيه بطيبة خاطر. وكما أشرنا فوق يتعمد بعضاصحاب الأطروحة الخارجية، الخارجيون المتطرفون، الخلط بين معنيي الداخل والخارج المشار إليهما لانهم يريدون اميركا قوة تغيير على مستوى الثقافة والهوية وليس على مستوى السياسة وحدها. أو قد يكون اصوب أن نقول إنهم يفتقرون إلى اي محفز للتمييز بينهما لأن تحليلهم يرى في الثقافة العربية أو الإسلام عائقا كؤودا لا يتبدل أمام الديمقراطية والحداثة، وهم ممن يميلون عادة إلى اشتقاق الأنظمة الحالية من الدين أو الثقافة منظورا إليهما كجوهرين ثابتين، لا من تاريخ تكون الشرق الأوسط الحديث ولا من شبكات التفاعلات المضبوطة والمسيطر عليها بين دول المنطقة وكتلها البشرية. والعروبة هي المفهوم الملتبس المناسب للقفز من أحد التغييرين إلى الاخر دون إشكال. وهذا لأنها تطل على أفقين مختلفين: أفق الثقافة العربية القديمة والحديثة، وافق السياسة والدول والأنظمة العربية الراهنة. وعند الأميركيين والإسرائيليين المقصود شيء مختلف تماما: العروبة كمشروع هيمنة مضاد للهيمنة الأميركية والإسرائيلية، أو “الوطن العربي” في مواجهة “الشرق الأوسط”.
الأطروحة الداخلية، بالمقابل، ليست اقل زيفا وإيديولوجية. إن انظمة قمعية مغلقة، تستبطن “الخارج” الأميركي ضميرا لها تلتزم بنواهيه، هي الأكثر إلحاحا على أن التغيير لا يأتي إلا من الداخل. وفي ذلك الكثير من الرياء والكذب. فهي تخنق الداخل و”تتدخل” فيه وتخترقه بعنف “خارجي”، مدمرة قدرته على الالتئام والمبادرة التغييرية. حماستها للتغير الذي لا يأتي إلا من الداخل هي حماسة للتغيير الذي لا يأتي ابدا. قبل وقت قصير قدم وليد المعلم، نائب وزير الخارجية السوري، صيغة لطيفة عن الثانية: “لا يوجد نموذج موحد للديمقراطية في العالم كل بلد لديه أولوياته حسب موقعه الجغرافي والاقتصادي وعدد سكانه وأحزابه السياسية لذلك أقول لتدع الولايات المتحدة هذه الشعارات وتترك شعوب هذه المنطقة وحكامها يصنعون مستقبلهم بأنفسهم” (من حوار نشر معه في موقع “كلنا شركاء” الإلكتروني، 22/7/2005). يحيل كلام المسؤول السوري إلى عقيدة الخصوصية وإن لم يعرفها بالثقافة على جاري العادة بل بـ”الموقع الجغرافي والاقتصادي … والأحزاب السياسية”، ويستعيد منطق التحرر الوطني حين يقرر وحدة الشعوب والحكام، كأننا لا نزال في “ليلة الدخلة”. داخلية مضاعفة، إذا صح التعبير، لا تعني شيئا غير الحفاظ على الواقع القائم دون اي تغيير غير ما قد يتفضل به”الحكام”، حين يشاؤون.
تجنح هذه النظم بصورة منهجية إلى اشتقاق ذاتها من ثقافة مجتمعها وعقيدة أكثريته، أي من “روحه” أو “دخيلته” الأعمق و”خصوصيته” الحية وأصالته (وهو ما يلائم تماما أطروحة الخارجيين الذي يقومون بالاشتقاق ذاته، لكن برسم اغراضهم المعاكسة). الداخل هنا ركيزة عقيدة هيمنة (بالمعنى غير الغرامشي: احتلال الموقع الأنسب للسيطرة على والتحكم بالتفاعلات بين أي فاعلين داخليين محتملين، موقع الفيتو والحرب الوقائية ضد التفاعلات غير المرغوبة) لنخب تسلطية امتيازية ومستعدة على الدوام للتفاهم مع “الخارج” المهيمن. الداخل أيضا مبدأ احتكار السلطة في المجتمعات المحكومة المهمشة وإغلاق باب التغيير فيها.

داخل مطلق أم عبادة القوة؟
هناك بذرة من الحقيقة في اطروحة الخارجيين: إذ كيف يمكن للداخليين تغيير الداخل وهم من الداخل؟ ألا يعني التغيير الانتقال من حال إلى غيره؟ كيف يمكن لأهل الحال أن يحققوا التحول إلى حال غير؟ تبدو هذه الأسئلة سديدة وشرعية، لكن التمعن فيها يكشف أنها ملغومة: فهي تضمر أن الداخل واحد متطابق مع ذاته دائما، وأنه يعيش زمنية واحدة متعاصرة مع ذاتها. اي ان زمن الثقافة وزمن المجتمع وزمن السلطة وزمن الدين واحد، وان الاقتصاد السوري مثلا والسياسة السورية والثقافة السورية والأحزاب السياسية السورية محدودة كلها بحدود الجغرافية السورية التي تغلف الداخل وتعزله عن الخارج. في هذا الافتراض قدر من حقيقة وقدر من أهواء ايديولوجية. فقد نجحت أنظمة الحكم العربية، وهي دكتاتوريات عائلية أو عسكرية عاتية او اشد عتوا، في أن تحطم التعدد الداخلي وتعدد الداخل في مجتمعاتها عبر تدمير الأحزاب السياسية وإخماد أصوات المثقفين النقديين والمستقلين وشراء الضمائر واستتباع المؤسسة الدينية والهيمنة على الاقتصاد، وحتى قمع التعابير الذاتية والصحية عن التعدد الإثني والديني والمذهبي. وتمكنت كذلك وعبر ذلك من منع التغيير، سواء كان انقلابيا او ديمقراطيا، واحتالت حتى على وفاة الحكام المعمرين بتوريث السلطة إلى ابنائهم. فعاشت شعوب البلدان العربية الرئيسية في حاضر مؤبد يتحكم بها زمان وحيد هو زمان السلطة.
هذا هو قدر الحقيقة في الأطروحة الخارجية. أما الإيديولوجيا فتتمثل في ثلاثة أشياء: الأول هو إضفاء صفة الإطلاق على إحكام إغلاق الداخل وتوحيد زمنياته. وهذا لا ينطبق حتى على نظام صدام حسين ذاته الذي نجح أكثر من غيره في وقف عجلة التغيير وإلغاء التعدد في بلده، بما في ذلك التحكم في البث الفضائي وحد الانترنت والهاتف الخليوي (قد تكون اشتركت في ذلك قرارات سياسية مع أوضاع اقتصادية تفاقمت بفضل الحصار الأميركي…). الثاني هو إغفال الطابع التاريخي لعملية الإغلاق، والميل الثابت لنسبتها إلى جوهر ثقافي او ديني او عرقي عربي. الثالث هو القفز من فرضية تماثل الداخل إلى استدعاء الخارج وتسهيل الاندراج في خططه دون تحليل للخارج وخططه وأولوياته، أو مع تحليل منقوع بسائل الرغبات. لسان حال الخارجيين يقول: من اين ياتي تغيير الداخل وهو مغلق على نفسه، ممنوع من الاختلاط والتفاعل مع غيره؟ إن استحالة الانقلابات العسكرية والانتخابات الديمقراطية وإدخال مبدا توريث السلطة في الجمهوريات يجعل باب التغيير الوحيد الباقي هو الاحتلال الأجنبي، تقوم به قوة أقوى من الأقوياء الحاكمين في البلاد العربية وأكثر تحضرا من شعوبها المتخلفة.
في ذلك عنصر عبادة للقوة مشترك في عقائد الخارجيين الذين يتمتعون بفضيلة نادرة: التضامن مع الأقوى، فيما يفترض اننا نسعى للتغييير للتخلص من حكم القوة. وفيه أيضا لا مبالاة بالضعفاء والمحرومين الذين يفترض ان التغيير يستمد شرعيته من الاستجابة لمطالبهم. الواقع أن ها هنا التباس جديد: تغييرية اليوم انتقلت خفية من تبرير التغيير بالعدالة إلى تبريره بالحداثة. المفهوم الذي يغطي الالتباس هو التقدم: كان “تقدمية” اشتراكية ووطنية ومعادية للامبريالية، وصار حداثة علمانية وليبرالية معادية للتخلف. بموازاة ذلك انتقل مفهوم التخلف من ملاك نظرية الامبريالية والتبعية إلى ملاك الثقافة والحضارة والدين، واضحى جوهرا بعد ان كان علاقة. يفسر ذلك أننا نفتقد اليوم في كلام الخارجيين اية إشارات إلى العدالة والفقراء والمضطهدين والمقموعين.

التغيير والديمقراطية
مرة أخرى: من اين ياتي التغيير؟ إذا كنا نعني تغييرا ديمقراطيا ذاتي التطور يفتح أفقا تاريخيا لسيادة الشعوب وحقوق الأفراد والمساواة في الحرية والأمن، فلن ياتي دون كسر دينامية التفاعل الراهنة بين “الخارج” الأميركي و”الداخل” الدكتاتوري. اما إذا كنا نعني تغيير الأنظمة الراهنة فالقادر عليه راهنا هو، كما قلنا، المركز الامبراطوي الأميركي، لكنه تغيير سيمنح السيادة الحقيقة لهذا المركز ويستهدف توطينا أعمق للمركز الامبراطوي الفرعي، الإسرائيلي، في “الشرق الأوسط”. ولعل الموجة الراهنة من الشرق أوسطية (الثانية بعد موجة نهاية السلطنة العثمانية وتدشين نظام سايكس- بيكو- بلفور – بترول) تكمن في اصل النقاش حول مصدر التغيير واصل فساده.
إذا صح ذلك، فإن المعضلة التي تواجه اي فاعلين سياسيين محتملين في الوضع الراهن هي: التغيير الممكن خارجي وليس نحو الديمقراطية، والتغيير نحو الديمقراطية غير ممكن داخليا. المعضلة هذه تنبع من مفهوم الديمقراطية وليس فقط من السجل التاريخي للفاعلين الخارجيين. فالديمقراطية تعني مشاركة واسعة للمجتمعات المعنية في شؤونها العامة، السيادية والسياسية. جذع الشجرة الديمقراطية، كما هو معلوم، هو مفهوم السيادة الشعبية، والسيادة الشعبية شيء مختلف، كيلا نقول متناقض، مع السيادة الأميركية. وهي تصلح ايضا تعريفا للداخل، بالنظر إلى أن الداخل هو المجال المستقل لتفاعلات سياسية واجتماعية وثقافية متصلة بشعب معين. في هذا المعنى العلاقة بين الديمقراطية والداخل تفاعلية: الديمقراطية تعني اتساع المبادرة والمشاركة الشعبية، اي تكون داخل وطني، والداخل هو مجال تفاعلي للعملية الديمقراطية. دون داخل وطني لا ديمقراطية، ودون ديمقراطية لا داخل وطني حي ومتفاعل. والدول العربية بلا داخل لأنها غير ديمقراطية، ما يجعلها مفتوحة للخارج، وهي غير ديمقراطية لأن الداخل الوطني فيها ضامر ومقموع، ما يناسب تأبيد نظم الاستبداد. أما الداخل في نظرية التغيير الداخلي عند الدكتاتوريات القائمة فهو محض اسم آخر لسيطرتها المطلقة.
في الشروط الملموسة للدول العربية يبدو احتمال التغيير الداخلي المحض ضئيلا. احتمال التغيير الخارجي حصرا تم تجريبه في العراق ونتائجه كارثية. التقاطع الأوسع بين الداخل والخارج هو الأنسب والأكثر واقعية في الراهن. الحال في لبنان أفضل من الحال في العراق بفضل اتساع مساحة التقاطع بين المبادرة الداخلية والضغوط الخارجية في لبنان وانعدامها تقريبا في العراق، بفضل الطابع السلمي والقانوني ومتعدد الأطراف للضغوط التي أفضت إلى خروج لبنان من الهيمنة السورية (تمييزا عن الطابع الحربي اللاقانوني والأحادي أو الأوليغارشي لنموذج التغيير العراقي). تغلب التفاعلات الداخلية بين اللبنانيين على تفاعلات اية جماعات منهم مع الخوارج الكثيرة المؤثرة على مصير بلدهم هو ما يعد بتبلور وطنية لبنانية أكثر ديمقراطية. العكس يعني تفجر لبنان.

خلاصات وملحوظات تكميلية
• يشير هذا النقاش بمجمله إلى تعثر او أزمة بناء داخل ذاتي النمو والانفتاح في البلاد العربية أو في اي منها. يشير كذلك إلى جمود عملية التغيير الحيوية في مجتمعات يتغير فيها وحولها كل شيء لكن الأطر السياسية التي تحكمها تبقى دون تغيير.
• كما ثمة دواخل وخوارج ثمة داخليون معتدلون وآخرون مطلقون. الأنظمة الحالية جميعا من أنصار الأطورحة الداخلية المطلقة. مقابل هؤلاء ثمة خارجيون معتدلون وآخرون متطرفون أو حتى مطلقون. ما قد نسميه الحزب الأميركاني يتكون من خارجيين مطلقين. وليس لهم برنامج غير مطالبة الأميركيين بتغيير نظم الحكم وتحديث المجتمعات العربية.
• في شكله الحالي يعتم النقاش حول الداخل والخارج قضية التغيير ولا يضيؤها ولا يساعد على بلورة سياسة للتغيير الديمقراطي في البلاد العربية. الواقع أنه يسهل الانزلاق نحو سياسات انقلابية جديدة وتكون نخب متعصبة جديدة قد تكون وسيطا بين الأميركيين وبين البنى الأهلية من وراء ظهور الدول القائمة أو بعد تمزيقها.
• كما راينا ليس الداخل مفهوما بريئا: إنه مشروع هيمنة لأنظمة مفلسة لم يعد لديها غير توظيف التهديد الخارجي لإدامة سيطرتها على مجتمعات أمعنت فيها قتلا وتفكيكا وتفريقا. الداخل هنا محض ركيزة للتفاوض مع العاهل الأميركي. هذا يفسر ملاحظة مهمة من وجهة نظر سياسة التغيير: كلما اشتد الضغط الخارجي تجنح نظم الحكم العربية إلى التشدد الداخلي وليس إلى الانفتاح على الداخل كما يطالبها ويتوقع منها معارضون وطنيون. فإذا هي مشغولة أولا وأساسا ببقائها لا باية قيم وطنية مزعومة فإنها تخشى اية علاقات بين الداخل المقموع والخارج تهدد بإطاحتها، وتحرص على ان تلعب “دورها الإقليمي” في الداخل المحكوم حتى النهاية بالتفاهم مع الخارج.
مفهوم الخارج ليس بريئا ايضا: إنه اسم فني لجهة لم تكن خارجية يوما. وهو يتمفصل مع مشاريع هيمنة داخلية مختلفة. وكلا الهيمنيتن القائمة والمحتملة تعكسان غياب مشروع هيمنة حقيقي يشغل موقع الحركة القومية العربية التي هزمت عام 1967. مشاريع اليوم هي هيمنة بلا هيمنة، تحكم وسيطرة بلا نهضة ووحدة اجتماعية.
• باختصار الداخل والخارج إيديولوجيتان تعرفان معسكرين أكثر مما تضيئان واقعا. وهما ميثاق تعارف وتماسك كل من المعسكرين. هويتان.
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى