ما يحدث في لبنان

المجازفات القاتلة

null

غسان شربل

استهداف وسائل الإعلام أمر خطير ومدان. يعكس الرغبة في إلغاء الشاهد. يبطن رغبة في ارتكابات أشد. يعبّر عن قرار بإسكات الآخر. شطب حقه في التعبير. إلغاء صوته ودوره تمهيداً للإلغاء الكامل.
لا يستطيع أي إعلامي، الى أي مؤسسة انتمى وبغض النظر عن توجهاته، قبول هذه الممارسة الفظة. انها مناقضة لأبسط الأصول والأعراف. انها انتهاك صارخ لطبيعة لبنان التي لا تقر اسلوب الشطب وتكريس الصوت الواحد. قاوم لبنان في احلك الظروف محاولة طمس ألوانه المتعددة تمهيدا لفرض لون وحيد. واللون الوحيد لا يمكن الا أن يكون قاتما وبغض النظر عن هوية صاحب اللون.

استهداف وسائل الإعلام خطير. الخطف خطير. وتصفية المخطوفين. واطلاق النار على الجنازات والتجمعات. واستهداف العابرين. واقتلاع المقرات الحزبية. وتطهير المناطق. وكسر الارادات. والوقوع في اغراء الضربة القاضية. كل ما تقدم خطير. ويفوق قدرة لبنان على الاحتمال. ويجعل كل انتصار شبيها بانتصار على ظهر سفينة مثقوبة. لن تتأخر في الغرق بكامل المتناحرين فوقها حتى ولو دفع بعضهم الى الماء قبل الآخرين. ثلاثة أيام كانت كافية لتأكيد وقوع لبنان في أسر مجازفة دامية لا يمكن ان تنجب إلا خاسرين.

ممارسات البارحة اعادت الى ذاكرتي ما سمعته قبل سنوات من رجل خاض الحرب السابقة وارتقى سلّم أهوالها وانتهى في زمن السلم قتيلاً. انه ايلي حبيقة الذي لا يحتاج اسمه الى جهد في التذكير والتفسير. سألته ممازحا ما اذا كان يستطيع الادعاء بأنه بريء. رد بجرأة: «الحرب الأهلية بحر من القذارة. هذه طبيعتها. لا يمكن لمن يسبح في هذا البحر ان يخرج نظيفا. يبدأ المرء مثاليا او نظيفا لكن مجريات الحرب ترغمه على ان يتسخ».

على بعد آلاف الكيلومترات عن بيروت شعرت بالخوف الشديد. الخوف من القدرة على النحر والانتحار. رأيت شبانا يرقصون نعوش رفاقهم. كانوا يطلقون النار وهتافات أخطر من الرصاص. مجريات الايام الثلاثة الماضية تشير الى أن الفتنة حاضرة وجوالة ايضا. تشير الى ان الانزلاق الى العرقنة سيكون سريعا. ان أجواء المناطق خارج العاصمة جاهزة هي الاخرى للاحتراب. ان خطوط التماس هذه المرة ستكون أشد تعقيداً وأكثر هولاً من الحرب السابقة.

خامرني شعور بأن المأزق يتعمق. وأن الخروج منه يزداد صعوبة. وأن الاطراف باتت اسيرة مواقف تفضل دفع اثمانها الباهظة على العودة عنها. وشعرت ان المزيد من القوة قد يعمّق المأزق بدل انهائه. وان الانتصارات ستضاعف غرق الرابح والخاسر معا.

راودتني اسئلة عاجلة. الى متى يستطيع الجيش اللبناني التعايش موحدا مع اشتباكات يفترض ان يمنعها وممارسات ينبغي ان يحول دون حصولها؟ هل تستطيع قوى «14 آذار» احتمال مواجهة شاملة على الاراضي اللبنانية بعدما تبين انها لم تستعد لها؟ ماذا ستفعل القوى التي سيطرت على شوارع بيروت اذا تمسك الرئيس السنيورة بالبقاء في السراي وهي الحصن الاخير لشرعية الدولة الحالية؟ وهل تجازف قوى المعارضة باجتياح المقر وماذا عن الجيش في هذه الحالة؟.

وفي السياق نفسه اسئلة اخرى. يستطيع «حزب الله» تسجيل انتصارات عسكرية وضمان بقاء حركة «امل» الى جانبه. لكن هل يستطيع حلفاؤه في معسكر «8 اذار» احتمال مجريات الحرب؟ هل يستطيع الوزير السابق طلال ارسلان رؤية الحزب ينتصر في الشوف وعاليه؟ وماذا عن الرئيس عمر كرامي اذا تصاعدت الفتنة السنية – الشيعية؟ وهل يستطيع العماد ميشال عون احتمال رؤية قوات المعارضة بزعامة «حزب الله» تؤدب انصار الدكتور سمير جعجع في عمق منطقتهم بعد تأديب انصار سعد الحريري ووليد جنبلاط؟ بالمناسبة كانت التطمينات التي وزعها الجنرال اول من امس لطيفة ولذيذة وسريعة ومتسرعة وبدت اقرب الى المهدئات والضمادات، على رغم ان خبرته الفعلية هي في التصعيد والتوتير.

يمكن القول إن موسم المجازفات بدأ حين شغر القصر الرئاسي في بعبدا. افكر في العماد ميشال سليمان. هل يجازف بإبقاء الجيش في حياد يحمل خطر تفككه ام يجازف بمحاولة لجم المواجهات وهو يعرف مخاطرها؟ ام تراه سيجازف بقيادة انقلاب ما وهو سلوك اكبر من قدرة الجيش والبلد على الاحتمال؟. أخشى ان تؤدي المجازفات التي يعيشها لبنان حالياً الى تحقق توقعات سياسي عربي بأن الوضع في لبنان سيبلغ من السوء درجة يبكي فيها اللبنانيون على عهد اميل لحود.

الحياة – 11/05/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى