صفحات العالمما يحدث في لبنان

تمارين في المنطق

فواز طرابلسي
لا بد من محاكمة «شهود الزور». لا لسبب أكثر وجاهة من أن أصول المحاكمات تقضي بمحاكمة من يدلي بشهادة يتبيّن أنها تضليل للقضاء. حتى البطريرك صفير يدعو إلى محاكمة مَن تثبت عليهم التهمة.
لنفترض أن حكومة «الائتلاف الوطني» توافقت على محاكمة «شهود الزور»، في المجلس العدلي أو في محكمة عادية. فماذا سيجري؟
لا حاجة لأن يكون المرء «بروفيسوراً» في القانون ليتوقع أن تستغرق المحاكمة شهوراً حتى لا نقول سنوات. هكذا تكون لدينا محكمتان تسيران على نحو متواز، سيان جرت محاكمة «الشهود الزور» قبل القرار الظني أو انعقدت بعده: محكمة دولية تنظر في جريمة اغتيال الرئيس الحريري وصحبه. ومحكمة محلية تنظر في عدد من المتهمين بتضليل التحقيق.
ولنفترض الآن أن أحكام محكمة «شهود الزور» صدرت في أقصر مهلة ممكنة، الوجاهية منها والغيابية، بل إن الأحكام طاولت أيضاً كل من ثبت أنه قد «شغّل» المتهمين ولقّنهم الإفادات. وهذا يعني أن «شهود الزور» هؤلاء صدقوا أمام المحكمة، هذه المرة، فكشفوا كل الحقيقة عن «مشغّليهم».
ما أثر الأحكام الصادرة بحق «شهود الزور» على سير التحقيق في «المحكمة الدولية الخاصة عن لبنان»؟ لا أثر. ولا تأثير. فهذه المحكمة استبعدت من أعمالها شهادات «شهود الزور» وانتهى الموضوع بالنسبة إليها. وأي أثر على القرار الظني؟ لا أثر هنا أيضاً. فما يجرِ تسرّبه أو تسريبه عن هذا التقرير يمسّ أموراً لا علاقة لها بما أدلى به «شهود الزور» من شهادات. أخيراً ما أثر الأحكام الصادرة على شهود الزور على مجريات «المحكمة الدولية الخاصة بلبنان» بعد صدور قرارها الظني. لا شيء. فهذه لم تعتبر نفسها المرجع الصالح لمحاكمتهم ولا هي مانعت في تسليم شهاداتها إلى الذين اتهموا زوراً بسبب تلك الشهادات.
هكذا، فإن محاكمة «شهود الزور» لا تبرّئ الضباط الأربعة إلا من التهم المنسوبة إلى «الشهود الزور». ولا صدور الأحكام على «شهود الزور» يبرّئ أفراداً في «حزب الله» من التهم المفترض أن التقرير الظني سوف يوجهها إليهم، أو إلى أي متهم سوري في هذه القضية. وأخيراً وليس آخراً فمحاكمة «شهود الزور» لن تؤجل صدور القرار الظني من المحكمة الدولية، وهي قطعاً لن تسهم بقليل أو كثير في إلغاء المحكمة الدولية كما يطالب بعض غلاة المعارضين.
فعلام كل هذا الضجيج والوعد والوعيد والتهديد ووضع البلد على شفير الانقلابات وحمامات الدم؟
علام هذا الضجيج. وفي غضون أيام ثلاثة أو أربعة، تغيّرت لهجة الطرفين جذرياً.
فسّروا لنا اللهجة الهادئة للسيد حسن نصر الله في خطابه الأخير الذي لا تفسّر بمجرد تأمين الأجواء المناسبة لزيارة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد. في خطاب المليون شجرة، أفصح الأمين العام لـ«حزب الله» عمّا يعرفه من الشبهات التي قد يسوقها القرار الظني إلى أفراد في حزبه تتعلق بشبكة الاتصالات العاملة في منطقة الاغتيال واتصالات جرت بينها وبين أفراد يعتقد أنهم نفذوا عملية الاغتيال. الغريب في أمر هذه الفقرة من خطاب السيد هو قلة الاكتراث لها من قبل المعلقين والمحللين، علماً بأنها المرة الأولى التي يصدر فيها مثل هذا التعيين الدقيق للتهمة المفترضة بحق أفراد في «حزب الله» عن أعلى مصدر فيه. ومعبّر أيضاً أن الأمين العام لـ«حزب الله» وصف هذه الشبهة بأنها «ظلم». وهو قول يصعب تفسيره في مجاري التصعيد. وهو أثنى في المقابل على موقف الرئيس الحريري في «الشرق الأوسط» خاتماً بأنه لا يزال يعوّل على الاتصالات بين «سين» و«سين». ومهما يكن من الوعد بكشف أمور مذهلة بعد أيام في موضوع الاتصالات، إلا أن الخطاب خرج بالتأكيد عن الجاري من حيث اتهام المحكمة بأنها «إسرائيلية» ومَن ينادي بها بالعمالة للعدو. بل إن السيد نصر الله عاد للانضمام إلى المطالبين بالحقيقة: «الحقيقة الحقيقية».
وفسّروا لنا أيضاً: إذا كان المطلوب من ولي الدم ـ الحائر المحيّر بين ولايته الدم وولايته الحكومة ـ أن يعلن التبرّؤ من القرار الظني أو أن يستقيل من الحكومة، فقد أعلن الرئيس سعد الحريري، على لسان نائب من المقربين، أنه (بصفته الشخصية أو الحكومية؟) لن يقبل بقرار ظني قائم على التلفيقات «يلتف سياسياً حول رقبة المقاومة، أو حول سلاح المقاومة». واعتبر أن مثل تلك الأدلة (المنسوبة إلى القرار الظني) سوف تكون «أدلة إسرائيلية لاتهام المقاومة».
هذا الكلام، إذا تحوّل إلى موقف رسمي لبناني، يوازي عدم اعتراف لبنان بالقرار الظني، مع أنه من السابق لأوانه استشراف ما الذي سوف يستتبعه ذلك من ردود أفعال من طرف المحكمة الدولية والأمم المتحدة.
المؤكّد أن الفيلم لن ينتهي عند هذا المشهد.
سوف تستمر المحكمة، بلبنان أو من دونه. فما العمل؟ يُسترهن لبنان لسنة، سنتين، ثلاث، أربع، خمس سنوات، لوقائع محكمة المفترض أنها إنما انعقدت لتأتي له بالحقيقة والفرج والأمان؟
بعد كل هذا، بات للتسييس معنى جديد كل الجدّة: لم يعد الانفصام يتعلّق بما إذا كان رفيق الحريري قُتل بسبب قرار الأمم المتحدة الرقم 1559 أو من أجل تمرير القرار 1559. ولا عاد الأمر يتعلّق بما إذا كانت سوريا و«حزب الله» متهمين في مقابل اتهام إسرائيل.
بل إن التسييس الأكبر الذي تخضع له المحكمة هو الآن شد ورخي الحبال في المشادات على وقع ذبذبات العلاقة بين «سين» و«سين»، ومَن يقف خلف، أو مع، هذه وتلك. فكما توجد يد خفية في الاقتصاد «الحر»، توجد أيد خفية في السياسة والعلاقات الخارجية. لهذا السبب يزداد تغرّب اللبنانيين جميعاً عن مجريات محكمة تتباعد علاقتها بغرضها الأصلي. قد تجد ذروة التصعيد في يوم تقابلها ذروة التهدئة في يوم آخر. وما من تفسير. وكلما ازدادت تبعية أبطال «ثورة الاستقلال» وأبطال الوطنية والممانعة، للخارج، كلما ازدادت الحاجة لتكبير العلم ذي الأرزة حتى حطّم، لا قيود الارتهان طبعاً، بل الأرقام القياسية في موسوعة غينيز البريطانية.
ملحوظة: العلم ليس صحن تبولة أو حمص. والتفاخر الوطني بعلم البلاد يكون عادة برفعه عالياً لا بفرشه على الأرض!
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى