صفحات مختارةوهيب أيوب

وُجُوهٌ مَسلوبة

وهيب أيوب
“يكونُ الرجالُ كما يريد النساء”
جان جاك روسو
في عام 1910 نشرَ الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي في صحيفة “المؤيّد” المصرية مقالاً يدافع فيه عن المرأة وحقوقها ومساواتها بالرجُل، مِما أثار عليه موجة عارمة من غضب رجال الدين، فلزم الزهاوي بيته أسبوعاً كاملاً خوفاً من أن تقتله الغوغاء في الشارع.
يقول الزهاوي في إحدى قصائده:
إنما المرأةُ والمرءُ سواءٌ في الجدارةِ   ***  علِّموا المرأة فالمرأةُ عنوان  الحضارة
#####
يرفعُ الشعبُ إناثه والذكورُ      ***     وهل الطائرُ إلاّ بجناحيهِ يطيرُ

ويُضيف الزهاوي عن استنكاره لحجب المرأة وارتدائها الحجاب بقوله:
أسّفري، فالسفور للناسِ صبحٌ    *****   زاهرٌ والحِجابُ ليلٌ بهيمُ
هو في الشَرعِ والطبيعة والأذواقِ  ****   والعقل والضمير ذميمُ
لا يَقي عفّة الفتاةِ حِجابٌ    ****   بل يقيها تثقيفها والعلومُ

كان الشعراء جميل الزهاوي، معروف الرصافي، وأديب إسحق من أبرز الشعراء الذين دافعوا عن حقوق المرأة ومساواتها بحقوق الرجُل، فتم رميهم بتهم الكفر والزندقة. وهذا أقل ما يمكن بالنسبة لرجال الدين.
ونلحظ هنا، أن الرصافي تعرّض لذات المسألة، أي الحجاب، كونه أحد رموز اضطهاد المرأة وتقييدها ومنعها من العمل، والخروج لممارسة أي نشاطات اجتماعية أو سياسية أو ثقافية، أو حتى تعليمية. وأدرك هؤلاء وآخرون من “عصر النهضة” أن حرمان المرأة من دورها الريادي في تربية الأبناء والأجيال، معناه الحقيقي بقاء المجتمع والأمّة برمتها في غياهب الجهل والتخلّف، ودونها سوف لن تقوم للحضارة قائمة. فيقول الرصافي:
وقد ألزموهنّ الحجاب وأنكروا   *****   عليهنّ إلا خرجةً بغطاءِ
أهانوا بهنّ الأمهات فأصبحوا   ****    بِما فعلوا الأُمَ اللؤماءِ
ألم تراهم أمسوا عبيداً لأنّهم     ****      على الذلِّ شبّوا في جحورِ إماءِ
ونضيف هنا بيتاً للشاعر أديب إسحق، يعكس فيه مسؤولية الرجل عما آلت إليه حال النساء في المجتمع العربي والإسلامي، إذ يقول:
إنما المرأة مرآة بِها    ****   كل ما تنظره مِنكَ ولكَ
إلى هذا الحين، يكون مرّ على ما سُمّي “عصر النهضة” العربية زُهاء القرن، والذي بدأ مع حملة نابليون إلى مصر عام 1798 واستلام محمد علي باشا السلطة في مصر عام 1805، وما رافق تلك المرحلة من محاولات لبناء الدولة الحديثة على غِرار الدول الغربية الأوروبية. لهذا، سعى محمد علي لإرسال البعثات التعليمية إلى أوروبا، وكان أشهرهم رفاعة الطهطاوي، ثم محمد عبدو والأفغاني والكواكبي، وأبرزهم قاسم أمين الذي كتب كتاباً خاصاً حول تحرير المرأة، وغيرهم، من الذين زاروا الغرب وفرنسا، وشاهدوا مدى التقدّم الذي أحرزه الغرب، ومساهمة المرأة في هذا التطور والتقدم، والذي من دون المرأة ما كان ليكون. وبالطبع، فإن هؤلاء دعوا لتعليم المرأة وتطورها، لكن ضمن الشريعة الإسلامية، لكنهم كانوا أكثر انفتاحاً ومرونة من أولئك المتعصبين، الذين كانوا ينتظرون بالمرصاد لأي فكرِ تنويري تُينع رؤوسه حتى يُجزَّ بسيف  الزندقة والتكفير. فبقيت حريّة عرجاء، مُهيّأة للسقوط في أي لحظة، وهذا ما وصلنا إليه اليوم.
وعلى رغم ظهور بعض رجالات “النهضة العربية” أمثال بطرس البستاني، فرح أنطون، شبلي شميّل، أحمد فارس الشدياق، عبد الرحمن الشهبندر، سلامة موسى وغيرهم، وهؤلاء بغالبيتهم كانوا من المنادين بفصل الدين عن الدولة، إلا أن دُعاة التطرّف الديني والتعصّب، منذ رشيد رضا وحسن البنا وسيد قطب، وأتباعهم، ومسايرة السلطة السياسية الاستبدادية لهم ومداهنتهم، خوفاً على سلطتهم، قد وفّرت لهم أسباب إعادة زرع بذور التعصّب والجهل والتخلّف، ومن ثم الفوز بكسب الغوغاء، فكان الحصاد داءً أليماً، استعصى على الدواء.
وساهم العديد من النساء إبان عصر “النهضة”، في التصدي للظلم الحائق بالمرأة، والمطالبة بحقوقهن المُستلبة منذ قرون، من أمثال، زينب فواز، باحثة البادية، عائشة التيمورية، لبيبة هاشم وهدى شعراوي. لكن أبرز النساء جميعاً كانت اللبنانية نظيرة زين الدين، والذي وصفها بو علي ياسين في كتابه “حقوق المرأة”، أنها من الشخصيات النسائية النادرة في التاريخ العربي الحديث، وأنها الممثلة  النسائية لمدرسة التجديد الإسلامي. وهي من مواليد 1908 من بلدة بعقلين اللبنانية، ولها كتاب “السفور والحجاب” وآخر “الفتاة والشيوخ”.
بعد مرور أكثر من قرنين على ما سُمي “عصر النهضة”، نعود لنقول، لم يُنجز شيء يُذكر، لا على صعيد تحرير المرأة ولا الرجل ولا المجتمع، وليستمر القهر والهدر في شخصية الإنسان العربي من السلطتين السياسية والدينية، الذين ما زالوا يمتلكون القدرة على التحكّم برقاب المجتمع ومصيره.
وليعود هذا المجتمع الذكوري المسلوب الإرادة، والمتماهي في معظم الأحيان مع قاهريه ومضطهديه، وليزداد إمعان الرجال في إسقاط قهرهم فوق رؤوس النساء ووجوههم، وليتجاوزوا في غيّهم الظلامي فيزيدون على الحجاب النقاب.
وبهذا يسلبون المرأة أعزّ ما تملك، وجهها وعقلها وشخصيتها وإرادتها. وإذن فماذا يكون حال الرجال الذين سيولدون من نساء مسلوبات خاضعات محطمات الإرادة…؟؟
يقول الكاتب اللبناني مصطفى حجازي: “بذلك يصبح الإنسان المقهور حليف المُتسلّط الأول ضد ذاته، وضد وجود الآخرين أمثاله، حيث تقوم بينه وبين هؤلاء علاقة ازدراء ضمني، لأنهم يعكسون له مأساتهُ وعارهُ. ويُصيبُ المرأة والأتباع في عملية التحقير هذه النصيب الأوفر، باعتبارهم العناصر الأضعف والأقل حظّاً. فما يلقاه الرجل من تبخيس ومهانة، وما يُفرض عليه من تبعية، يعود فيمارسه على زوجته ونساء أسرته “.
ما زال الثالوث الجهنّمي، الدين والجنس والسياسة ينوء بكلكله الثقيل فوق تلك المجتمعات ونُخبها الخائبة الرافضة للأخذ بأسباب التطور، فتمضي العقود والقرون، ثم يعودون إلى المربّع الأول… وكأنك يا أبو زيد ما غزيت..!
فمع ازدياد ارتداء الحجاب والنقاب في المجتمعات العربية، تزداد باضطراد الأزمة الجنسية وعقدها المتفشيّة بين الرجال والنساء، وإلا فماذا يُفسّر ازدياد التحرّش بالنساء، وخاصة المحجبات والمنقبات منهن، وازدياد ما يُسمى بجرائم الشرف، إضافة لاستمرار تزويج الفتيات القاصرات في بعض البلدان العربية، وممارسة الخِتان على الفتيات في بعضها الآخر، ثم لجوء الرجال في دول الخليج وبعض البلدان الأخرى إلى تفريغ غرائزهم الجنسية بممارسة الجنس مع الغلمان.
فهل هذا هو مجتمع الفضيلة والأخلاق الذي يسعى إليه دعاة التديّن الخادع..؟
الجولان المحتل / مجدل شمس
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى