صفحات العالم

تحولات الإقليم الكردي في السياسة والاجتماع

نزار آغري
إبتداء من 1992، لحظة نشوء المنطقة الآمنة في شمال إقليم كردستان العراق، وبعد سحب الحكومة العراقية لمؤسساتها الإدارية، وقفت القوى السياسية الكردية وجهاً لوجه أمام تحد كبير: إدارة المنطقة. كانت هناك خشية من أن تفشل هذه القوى في ملء الفراغ ومن تفشي الفوضى بحيث لا يكون هناك من سبيل آخر سوى دعوة الحكومة المركزية للعودة وتسلم دفة الحكم مرة أخرى. غير أن الحزبين الكرديين الكبيرين، الحزب الديموقراطي والإتحاد الوطني، تمكنا من الإمساك بزمام الأمور وسد الفراغ وأدارا إنتخابات كانت نتيجتها أن تقاسما السيطرة على الإقليم وأقاما برلماناً وحكومة محلية.
كانت أمام السلطة المحلية الوليدة مسؤولية غير مسبوقة تتمثل في تدبير شؤون أكثر من أربعة ملايين شخص في منطقة دمرتها الحروب والويلات عقوداً طويلة. وحين فرضت هيئة الأمم المتحدة برنامج النفط مقابل الغذاء وحصل إقليم كردستان على نسبة 13 في المئة منه أعتبر ذلك بمثابة هدية من السماء. بعد ذلك بدأت المنطقة تشهد نمواً إقتصادياً مضطرداً بدأ من نسبة 5 في المئة ووصل الآن إلى ما يقارب نسبة 14 في المئة وفق مصادر الحكومة المحلية. وجرى العمل بشكل رئيسي على تشييد البنية التحتية لفتح المجال أمام الإعمار الإقتصادي والصناعي. وأخذت المدن تعيش حركة بناء واسعة وبدأت تتحول من بلدات صغيرة ذات طابع ريفي إلى كيانات مدينية عصرية تستقطب حركة هجرة كبيرة من القرى المحيطة. وتوسع نطاق العمل، لا سيما في قطاعات البناء والتجارة والخدمات، وازدادت الحاجة إلى مزيد من الأيدي العاملة وبدأت تنتشر ظاهرة العمالة الوافدة من بلدان آسيوية مثل الفيليبين وبنغلاديش والهند فضلاً عن العمال القادمين من جنوب العراق وسورية ومصر.
لقد أخذ الإقليم يتبدل بشكل سريع، ولأول مرة باتت المنطقة تشهد ظهور البنايات السكنية العالية والبيوت الفخمة والفنادق الراقية والبضائع الفاخرة والبنوك الخاصة وشركات السيارات والهاتف النقال وأماكن اللهو ومظاهر الرخاء من قبيل الحفلات التي يقيمها فنانون يأتون من لبنان وتركيا وأوروبا.
ولكن، أمام هذا الأفق صعوبات لا يستهان بها. صحيح أن هناك نمواً ملحوظاً إلا أنه يقتصر على الجانب الإقتصادي وحده من دون أن يطرأ تبدل كبير في الجوانب السياسية والإجتماعية. ويشبه الأمر، إلى حد كبير، النمو الإقتصادي في زمن حكم البعث، الذي مزج التقدم الإقتصادي بتأخر كبير في الميدانين السياسي والإجتماعي.
لقد نهض إقليم كردستان من رحم مجتمع ريفي تقليدي وهو يحتاج إلى وقت طويل كي يتمكن من تخطي القيود التي تضعها التكوينة العشائرية والبطريركية أمام الأفق المديني المرتجى. ولا يزال نظام القرابة العائلية والإنتماء العشائري يحتفظ بقدر كبير من القوة ويلعب دوراً مؤثراً في الحياة الإجتماعية والسياسية في الإقليم.
والحال أن السلطة السياسية المهيمنة في الإقليم نشأت من تقاسم الأدوار بين قطبين عائليين وعشائريين، منبعهما من الريف. وليس خافياً أن التقسيم الجغرافي لمنطقتي النفوذ بين الحزبين المسيطرين، الحزب الديموقراطي بزعامة بارزاني والحزب الوطني بزعامة طالباني، ما زال سارياً على أرض الواقع على رغم الإتفاق النظري على التوحيد.
والهيمنة المعقودة لعشيرتي الطالبانية والبارزانية واضحة. تتوزع عشيرة الطالباني، التي تتبع الطريقة القادرية، في مناطق كركوك وكفري وداقوق وخانقين وكويسنجق والسليمانية، فيما تسيطرعشيرة بارزان، نسبة إلى قرية بارزان التي تقع ضمن حدود محافظة أربيل الإدارية، في مناطق دهوك وعقرة وزاخو وميركه سور.
وهذه العشيرة، التي تتبع الطريقة النقشبندية، شديدة المحافظة على التقاليد البطريركية، ولهذا فإن النساء مستبعدات تماماً من أي حضور في الحياة الإجتماعية ناهيك عن الحياة السياسية (كان إصطحاب رئيس وزراء الإقليم السابق نيجيرفان البرازاني لزوجته في إحدى المناسبات حدثاً فريداً وكانت تلك أول مرة يرى فيها الناس زوجة أحد البارزانيين على الملأ، وتبين أنها آخر مرة أيضاً). لا تسمح السلطة بأي نشاط خارج رقابتها، المباشرة أو غير المباشرة، وتنمو السيطرة العائلية، من خلال الحزبين، بإضطراد ويجري ضم عائلات أخرى إلى الحلقة (عائلات الزيباري، السنجاري، الميراني، الدز يي) وتحييد العائلات الأخرى أو ضربها (السورجي، الهركي، البرادوستي). ويجري الإعتماد أكثر وأكثر على الأقارب المباشرين لتسيير شؤون الحكم (ولا سيما في ميادين الأمن والجيش والإستخبارات). هناك نمو مضطرد للرأسمال الخاص وقد إرتفع عديد الشركات الخاصة، غير أن المعضلة تقوم في أن هذه الشركات مرتبطة كلياً بالنخبة الحاكمة. ويحتكرالحزبان الكبيران الإستثمارات والمقاولات ويتحكمان بحركة التجارة ويمارسان الهيمنة والإشراف، المباشر وغير المباشر، على حركة الســـوق الداخلية. وهما يتقاسمان الموارد والمداخيل (النفطية على وجه الخصوص) في ما بينهما.
ومثـــل هذا الأمـــر يوجد إقتصاداً معاقاً يتســم بالتبعيـــة للمؤسسة السياسية والجهاز الأمني بعيداً من المفاعيل الطبيعية التي تتبعها السيرورات الإقتصادية في العادة. وفي مقدور النخبة الحاكمة إصدار أوامر من شأنها أن تعيق نشوء أي نشاط إقتصــادي أو تجاري تبعاً لما تمليه عليها منافعها الخاصــــة. ونتيجة لهذا فقد نشأت شريحة من الأثريـــاء الكبار مرتبطة عضوياً بالحكومة المحلية. ويرتبـط بهذه الشريحة حشد كبير من المشتغلين في قطـــاع المقاولات والتجار ومديري الشركات والمراكز وما يرتبط بها من أجهزة.
ويؤدي ذلك بإضطراد إلى توسع الفجوة بين الشريحة المحددة من الأثرياء والفئات الواسعة من الفقراء الذين يزداد أعدادهم يوماً بعد يوم. وفيما تعمد الأوساط الغنية إلى الترويج للنزعة الإستهلاكية وتعميم ميول التسلية والترفيه والركض وراء الربح السريع يترسخ في الجانب الآخر شعور بالغبن ويتعمق الميل إلى التذمر وهو أمر تستفيد منه الحركات السياسية المعارضة، التي تنمو بشكل خفي، لا سيما التيارات الإسلامية.
لقد أمكن النهوض بالإقليم وتحقق قسط كبير من الرخاء وجرى كل ذلك في مناخ من الأمن والإستقرار. غير أن هناك مكامن ضعف كثيرة من شأنها في أي لحظة أن تعرض التجربة إلى النكسة أو التراجع أو الإنهيار. لا بد من اللجوء، قبل كل شيء، إلى الفصل بين الحزب والحكومة والتخلص من الذهنية الأبوية والعائلية والعشائرية وسريان الفساد والمحسوبيات وبناء منظومة مؤسساتية تعتمد على الكفاءة وتنبذ النزعة القتالية وهوس الزعامة وميول تقديس البيشمركة والعصبية القومية والإيديولوجيات الخلاصية وتوفيرالحرية الكاملة للقوميات بحيث تكون كردستان إقليماً مفتوحاً للجميع، وليس لقومية سيدة تعامل القوميات الأخرى بإستعلاء.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى