صفحات العالمما يحدث في لبنان

… العيش خارج الحقيقة

حازم صاغيّة
لقائل أن يقول: حسناً، فلتتخلّ الحكومة اللبنانيّة عن المحكمة، لا عن تمويلها فحسب، ولتتنصّل منها ولتقطع كلّ الصلات بها، ولتّتهمها أيضاً بالصهيونيّة.
وهذا رأي يسوّغه اعتبار جدّيّ فعلاً، ووجيه فعلاً، هو حقن الدم وتفادي الفتنة السنّيّة – الشيعيّة، التي قد تصحبها فتنتان، مسيحيّة – سنّيّة في بعض المناطق، ومسيحيّة – شيعيّة في مناطق أخرى.
أي، بلغة أخرى: فلتكن المحكمة الثمن الذي يُدفع حرصاً على الاستقرار والسلام الأهليّين وعلى ما تبقّى من وطن ومن عيش مشترك. هذا ما يقوله مثلاً وليد جنبلاط، وهو ما قد تُحمل عليه قسراً قوى 14 آذار، أو ما تبقّى منها، في نهاية المطاف.
بيد أنّ مشكلة هذا المنطق الوجيه، والحسن النوايا بالطبع، أنّه يبقي القتل النائم (على وزن الخلايا النائمة) تحت وسادة الاستقرار الظاهر. هكذا لا تُسحب من التداول السياسيّ، بل الاجتماعيّ، إجازة القتل ممّن يستطيع أن يقتل، ساعة يريد أن يقتل، ولسبب يراه، من دون غيره، موجباً للقتل. وهذا يقال بغضّ النظر عن هويّة القاتل، أيّ قاتل، وعن هويّة القتيل، أيّ قتيل.
وهي أيضاً، ومع هذا، مشكلة يمكن الالتفاف عليها كرمى للاستقرار والسلام الأهليّين. وفي الحال هذه، يطوّر المجتمع حساسيّة باسيفيّة قصوى، جديدة عليه، مفادها إيثار السلامة على أيّ اعتبار آخر. هكذا يصير لسان حال الأغلبيّة الساحقة من اللبنانيّين ما كانه لسان حال الفلاّحين المكسيكيّين حيال مسلّحي الغرب الأميركيّ الذين يهبطون عليهم جنوباً كلّما عنّ لهم ذلك: خذوا كلّ ما تريدونه، وخذوا أكثر، فالمهمّ ألاّ تقتلونا. وعلى النحو هذا نروح نمثّل أنفسنا، أو نمسرحها، ونمضي في عيشنا على طريقة «لنتصرّف كما لو أنّنا مصدّقون» التي أطنبت في شرحها الباحثة الأميركيّة ليزا ويدين.
وهذا كلّه ممكن، وقد سبق لشعوب كثيرة أن اختبرته وعاشت في ظلّه مدداً تطول أو تقصر قبل أن تنفجر من داخلها أو من خارجها.
ما يتبقّى لنا، في هذه الحال، ذاك الموقع الذي يزعم الأعرف بيننا أنّه سيكون موقعنا في العالم وفي التاريخ. وهذا ما لا يبعث السرور في قلب أحد ولا ينمّ عن تعلّق بالكرامة غالباً ما نفرط في نسبته إلى ذواتنا. هكذا سوف نُصنَّف في هذا الكون الواسع جزءاً من رقعة سوداء لا تتّسع للقانون ولا للدولة، رقعةٍ تشرط السلام والسلامة بالإذعان والتجهيل. وسوف تُقدّم حياتنا بوصفها الرماد الذي تقيم النار تحته، ساكنة سكن القبور لكنّها مانعة لكلّ اطمئنان حيال المستقبل، ولكلّ تخطيط أو مراكمة أو تقدّم. كذلك سوف يُرى إلينا بوصفنا كذّابين لا يُحمل كلامهم على محمل الجدّ، كلّ ما يعنيه لهم عداؤهم لإسرائيل أنّهم عثروا فيها على الطرف الأمثل للهرب من الحقائق ومن المسؤوليّات والتبعات. وهذا ما لا حاجة بعده إلى عنصريّين يكرهون العرب والمسلمين كي «يشوّهوا صورتهم»، لأنّه بذاته يبوّبنا في خانة أدنى من تلك التي تقيم فيها الشعوب المتمدّنة والمسؤولة الجاهدة لأن تعيش في الحقيقة.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى