صفحات من مدونات سورية

الجنسية و الانتماء و الولاء

تابعت باهتمام مجموعة الآراء المتخالفة و المتحاورة على شكل تبادل مقالات بين الصديقين الأستاذ فادي عرودكي و موقع نساء سوريا بخصوص حقّ المرأة السوريّة بمنح جنسيتها لأبنائها في حال زواجها من غير السّوري فهو موضوعٌ يهمني بجانب مواضيع أخرى كالعنف في المجتمع و جرائم القتل المباركة قانونياً بتوصيفها “بقصد شريف” و أمور اجتماعيّة أخرى. و أود أن أسجّل بضعة ملاحظات و آراء شخصية بخصوص ما كتبة الصديق الأستاذ عرودكي في ردّة الأخير المنشور في موقع نساء سوريا (الرابط).
لا يرى الأستاذ عرودكي أن للمرأة السورية حقّ منح جنسيتها لأولادها في حال زواجها من رجل غير سوري كما يعتبر أن هذه الرؤية لا تعني الانتقاص من هذه المرأة السوريّة و حقوقها على الإطلاق, و ينطلق هذا الرأي من اعتباره أن “الانتماء هو أساس منح الجنسية, و الذي لا يشعر بالانتماء لوطن لا يستحق جنسيته”, و يعتبر الصديق عرودكي أن ابن السورية لن يكون سورياً بالانتماء لأنه “في حال اختلاف جنسية الأبوين فإن ولاء الطفل (العربي) يكون عادةً لوطن الأب”. أي أن ابن السوري يحمل الولاء لسوريا و ينتمي إليها حتّى و إن ثبت العكس, و ابن السوريّة لا يوالي سوريا و لن ينتمي إليها حتّى و إن ثبت العكس.
إن جوهر الاعتراض هنا ليس في تقييم مدى وطنية أو انتماء أو مشاعر أبناء السوريين أو السوريات بالجملة (رغم أن التقييم, أيّاً يكن من يقوم به, حتّى لو كانت الدولة نفسها, في حد ذاته مصيبة! ), إنما الربط المصيري بين الجنسية و الانتماء و الولاء الذي يؤكد عليه الأستاذ عرودكي. ليس هذا الأمر صحيحاً ليس فقط فكرياً و فلسفياً و إنما قانونياً.. لا توجد أيّ مادة قانونية تربط الولاء بالجنسية (لا يظهر نزع الجنسية كإجراء عقابي في قانون العقوبات السوري كما أن حالات نزع الجنسية في قانون الجنسية تكاد تكون محصورة في حالات استيطان بلد أجنبي في حالة حرب مع القطر و حالات مشابهة أخرى و خاصّة جداً).. قد يحاكم أحدهم بتهمة الخيانة العظمى و يسجن بشكل مؤبد أو يعدم لكنه يبقى سوريّ الجنسية. هناك حالات كثيرة, ربما بالآلاف, لسوريين حصلوا على جنسيات دول أخرى و ضمن معاملة التجنيس في هذه الدول يوقعون على تصريح يتنازلون بموجبه عن جنسيتهم السابقة, أي أنهم يقرّون في مستند قانوني بعدم رغبتهم في أن يكونوا سوريين لكنهم مع ذلك لا يفقدون الجنسية السورية (و يتفهّم المشرّع السوري الحاجة إلى الجنسية الأجنبية في النص القانوني و يرفع عنهم العقوبات إلا في حالات خاصة و استثنائية و باقتراح الوزير).. لو أن ربط الأخ فادي للجنسية بالولاء صحيح لنُزعت الجنسية السورية عن هؤلاء فوراً لأنهم عبّروا في مستند قانوني عن أنهم يتخلون عن الجنسية السورية.
الجنسية إجراء إداري خاص بمجموعة من الأشخاص بمعطيات خاصة و شروط محددة يمنحهم مجموعة صلاحيات و تسهيلات, لكنها ليست معياراً و مقياساً للولاء. لا توجد جنسية فلسطينية مثلاً رغم أننا نعلم جيّداً ما هي فلسطين و من هو شعب فلسطين. و لو تحدّثنا بمفهوم قومي عربي لوجدنا أن الجنسية السورية و غيرها من الجنسيات القطرية الجزئية في “الوطن العربي” ليس لها أي معنى إنتمائي (بل أن إكسابها معنىً انتمائياً يُعتبر نزعة إقليمية يرفضها الفكر القومي العربي و يحاربها).
إن الربط بين الجنسية و الولاء هو الأساس في تباين رأيي مع صديقي فادي, لكن حتّى لو تركنا هذه النقطة للحظة و انتقلنا إلى تحديد الولاءات بالنسب لوجدنا أن ما يرى فيه الأستاذ عرودكي سبباً واضحاً لا يرقى برأيي إلى أن يكون سنداً منطقياً لإجراء قانوني, يقول الأستاذ فادي: “لا يمكنني فهم أن يكون الطفل مزدوج الانتماء/ الجنسية بمجرّد ولادته. مسألة الولاء للوطن هي نقطة تنمو و تكبر في الطفل مع مضي سني عمره, و نحن في المجتمعات الشرقية جُبلنا على أن يكون انتماؤنا أبوياً”. بدايةً لا أعتقد (و أقول ذلك لخبرة شخصية) أن ازدواجية الجنسية تعني ازدواجية الولاء إطلاقاً, بل أنه لو تم النشوء مع الأمر بشكل صحيح لا يجب أن يكون هناك أي تضارب أو تناقض بينهما, بالعكس تماماً.. سيكون الأمر مفيداً جداً للفرد و لأي جماعة ينتمي إليها ففيها غنى ثقافي و لغوي و علمي أيضاً, لا يوجد أي مانع من أي نوع لكي يحمل المرء المشاعر الإيجابية و الحنان و الحب لبلدين, بل و للإنسانية جمعاء, و كلّ هذه المشاعر تصب في خانة الوطنية إلا أن المشكلة هي أننا في كثير من الأحيان نقرن الوطنية بإطار قومي ذو إيديولوجية محددّة هي التي تصنع التضارب و ليس الوطنية كشعور إنساني.
لعلّ “ازدواجية الولاء” التي تُقلق أكثر من غيرها (رغم أنها ليست ازدواجية ولاء بل أنها مسح للوطن في سبيل ولاءات أخرى) نجدها على الأغلب عند أبناء زوجين من نفس الجنسية و يقيمون في نفس البلد, و أتحدّث عن الطائفية و العشائرية و غيرها من هذه العصبيات ما قبل الوطنية.
الأخ فادي يقول أيضاً: “في حال اختلاف جنسيتي الأبوين فإن ولاء الطفل (العربي) يكون عادةً لوطن الأب” و في هذه الجملة نقطتان يجب التوقف عندهما:
الأولى: أعتقد أننا إن كنا نريد أن نبني مجتمعاً عصرياً و دولةً حضارية منفتحة فإن هناك الكثير من “العادات” التي يجب أن تتغيّر, و القانون هو الأداة لتغييرها.. هناك الكثير من السلبيات التي تحوّلت إلى عادات و تقاليد (و بخصوص وضع المرأة بالتحديد حدّث و لا حرج و لكننا نستطيع أن نتحدّث أيضاً عن الفساد, الذي تحوّل إلى ما هو أكثر من عادة و أصبح أسلوب حياة بكل معنى الكلمة ) و لذلك لا نستطيع أن نعتبر العادة مقياساً لوضع القانون.. لو وُضع القانون بما يلائم منطق التقدّم و العصرنة لتغيّرت العادة.. وضع القانون بموجب عادة (أعتقد أنها سلبية) يرسّخ هذه العادة و ينشأ ما يسمّى في علم الفيزيولوجيا بالـ فيد باك الموجب: القانون يترسّخ بفضل العادة و العادة تترسّخ بفضل القانون.. و تستمر الدوّامة (و لعلّ جرائم الشرف أحد أبلغ الأمثلة على هذا الأمر).
الثانية: إن أي انتماء أو ولاء ليس إلا شعوراً شخصياً يحياه المرء.. يولد و يكبر في داخله نتيجة معايشات و خبرات حياتية.. هو شعور إنساني يبنيه أي واحدٍ منا ضمن تركيبته النفسية و الفكرية بطريقته, و لعلّ أبلغ أشكال الانتماء هي تلك التي لا يسهل التعبير عنها بكلمات أو شعارات أو أعلام.. هي أمر شخصي عميق و نفسي و عاطفي بحت, و نفس التركيبة الانتمائية التي بنيتها أنا لنفسي قد لا تنفع لأقرب الناس إلي لأنه بحاجة إلى أن يبنيها بنفسه كي تصلح له.. هذا الحديث يخص الانتماء كخاصّة إنسانية فردية..
مشكلتنا في العالم العربي أننا مسحنا هذه الفرصة الإنسانية الفردية لصالح النظرية السياسية الجامدة, غالباً القومية منها, و لعلّ هذا الأمر طبيعي بالنظر إلى أننا نعيش في عصر ما بعد الكولونيالية و ما زلنا نبحث عن بناء الهويّة القومية للشعب و للدولة, أي أننا ما زلنا في طور التكوين (رغم أننا وصلنا طور الشيخوخة دون أن نخرج في طور التكوين), و بالتالي يقيّم ولاء الشخص بناءً على مدى تعصّبه لإحدى هذه النظريات القومية.. نلاحظ أن التيارات السياسية في الدول العربية لا تختلف على أمور إجرائية لتسيير أمور الدولة المُتفق على ماهيّتها و حدودها بل أنها تتصارع على هويّة الدولة من أساسها, أي أننا لا نعرف تماماً من نحنُ بالضبط.. في الإطار السوري نجد القومية العربية بأنواعها و اختلافاتها و التي تنادي ببناء الدولة القوميّة العربية الموحّدة (قد تكون اشتراكية أو قد لا تكون) و الحفاظ على أسس هذه القوميّة العربية من تاريخ (التاريخ حسب النظرية القومية طبعاً) و لغة و أرض و إرادة عيش مشتركة و غيرها.. و تجد أيضاً النظرية القومية السورية التي حسب أساسها النظري يجب لكي تكون سورياً صالحاً أن تناضل من أجل استعادة أراضينا السليبة في نجمة الهلال السوري.. قبرص! و لدينا نظريات أخرى أممية شيوعية و إسلامية و خلاف ذلك.. هذه توجهات موجودة على الأرض و عاملة عليها, و هناك توجهات أخرى قد تتفق جزئياً فيما بينها أو قد تختلف تماماً عن بعضها البعض.. إذن أي واحدةً منها يجب أن نحفظ و نردد لكي نكون وطنيين في سوريا؟ كلّ من تسأله سيجيبك بأن النظرية الحقيقة الوحيدة هي نظريته و ما عداها كلّه أوهام (أو ما هو أسوء من الأوهام..).
إن الانتماء الشخصي كشعور إنساني أعمق من أن يقاس و يقيّم من أيّ شخصٍ يكن, إنه تمنّي الأفضل لهذا الإطار الانتمائي و الإحساس بالحميمية تجاهه وفق فكر الشخص الفرد الحرّ.. و لا يوجد أيّ سلطة لأي فرد أو مجموعة تستطيع أن تخطئ هذا الإحساس (قد تتفق معه أو لا.. و هذا طبيعي), و هذا الإحساس مستقل عن بطاقة هوية أو جواز سفر لا يعنيان إلا ما هو مكتوبٌ بحبر يمحى أو بصلاحية تنتهي.. و بالتالي فإن ابن السوريّة لن يحمل مشاعراً أقل تجاه بلد أمه من ابن السوري حكماً و بالتعريف, و لن يتعارض هذا بأي شكلٍ من الأشكال مع أنه يحمل جنسية أخرى ( وهنا نتحدّث عن ابن السوري أو ابن السورية بلا تمييز).. هل من الصعب أن نتمنى الخير للبشرية دون شوفينيات ؟ إن تمني الخراب لأحدهم على حساب غيره لا يتعارض مع الوطنية بل أنه يناطح الإنسانية, و بغياب الإنسانية لا توجد وطنية نافعة..
يعتبر الصديق فادي عرودكي أنه من الممكن إيجاد حلّ وسط و هو “معاملة ابن السورية معاملة السوري دون منح جنسيته”, و أعتقد – مع احترامي و تقديري له- أنه نصف حل و ليس حلاً وسطاً.. بدايةً لأنه يتعارض مع مبدأ المساواة بين الرجل و المرأة ( و القضية قضية مبدأ بقدر ما هي قضية إجراء, و ربما أكثر من ذلك, و ليس هذا الكلام مزايدة على حساب معاناة أبناء السوريات كما اعتبره الصديق فادي).. العمود الفقري لكلّ هذا النقاش أساساً, و ثانياً لأنني أعتقد أنه ليس من المنطقي استنباط شخصية اعتبارية قانونية جديدة تضاف إلى “السوريين و من في حكمهم” عندما يمكن اختصار الأمر كلّه من الأساس و تطبيق هذه المساواة بكامل فصولها و دون تبريرات و مماطلات.. و أعتقد أن الصديق فادي يبالغ في وصفه بأن الأمر قد يؤدي إلى مشاكل في النسيج الاجتماعي السوري (و هو مأخذه الأساسي على ما أعتقد لأنه عبّر أنه ليس ضد هذا الحق من حيث المبدأ) أو أن منح أبناء السوريات الجنسية سيكون على حساب الوطن, و لا يؤثر الأمر بتاتاً على قضية الأنساب بأي شكل من الأشكال لأن ابن السورية, بجواز سفر سوري أم بدونه, هو ابن أبيه و أمه و يتعامل مع الأمر و يديره ضمن محيطه الاجتماعي كما يرى و يرتاح.. أعتقد أن الجزء من النسيج الاجتماعي السوري الذي سيتقلقل لأن أبناء أخواتهم السوريات نالوا الجنسية يجب أن يوضعوا أمام حقيقة أنهم ليسوا ملاّك الوطن الحصريين و أن للسوريات حقوقٌ فيه كما لهم, و مع ذلك لا أعتقد حقّاً أن الأمر يواجه رفضاً اجتماعياً حقيقياً إنما مجموعة آراء يحتاج الكثير منها برأيي إلى بعض “الصدمات” (بالمعنى الإيجابي للكلمة) لنزع الصدأ عن عقليات أعتقد أنها تنتمي إلى القرون الوسطى و ليس إلى يومنا هذا..
أنهي هذا النص بشكري للمتحاورين على السماح لي بسرد هذه الأفكار على هامش نقاشهم.
و عمـــــــــــــــــــــــــــــــار يا بلد
..
http://www.syriangavroche.com/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى