صفحات مختارة

في مديح الحمقى

خيري منصور
قبل أن يصدر “جلين بيك” كتابه عن المجادلة مع الحمقى والذي يعتبر مع سائر مؤلفات بيك من الكتب الأكثر مبيعاً، كانت الكاتبة الفرنسية سيمون دو بوفوار قد ألقت مقولة كقنبلة في وجوه خصومها من اليمينيين الفرنسيين، هي أن للحمقى أيضاً من يعجب بهم، وهم الأكثر حمقاً منهم، ويبدو أن مفهوم الحماقة في عصرنا قد بدأ يشمل من يسمون أصحاب الأفواه الكبيرة والعقول الصغيرة، وهذا الوصف نجده في تاريخنا العربي منذ الجاهلية عندما وصف شاعر عربي خصومه من قبيلة اسمها بنو عبد المدان بأن لهم أجسام بغال وأحلام عصافير .
لكن اطروحة هذا الكاتب أكثر تعقيداً، لأنها تمتد إلى حكومات وقوى وديناميات فاعلة على المستوى الكوني، ويكفي أن نأخذ عينات من الاعلانات الأوسع انتشاراً كي نرى حجم الاستخفاف النفسي والعلمي وأخيراً السياسي بالإنسان الحديث، فشراء زجاجة عطر من نوع ما قد يحرره من الأحزان، واقتناء سيارة من طراز ما قد يدخله إلى الفردوس، وأحياناً تتضاءل هذه السلع لتصبح مجرد علبة تبغ أو معجون حلاقة، فالإنسان الذي أطلق عليه هربرت ماركيوز وهو من أبرز منظري ثورة الشباب في مايو/ أيار عام 1968 اسم الكائن ذي البعد الواحد هو نتاج ثقافة رأسمالية تتأسس على تحريض الغرائز والنزعات الحيوانية، بحيث تنقلب العبارة الشكسبيرية الشهيرة “أن تكون أو لا تكون تلك هي المسألة بحيث تصبح أن تملك أو تكون، فالملكية أصبحت بديل الكينونة وبالتالي ثمن الحرية كلها .
ان جذور الأزمات الكبرى خصوصاً الاقتصادي منها غالباً ما يجري التهرب منها، وحين تكون الأسئلة المطروحة بحاجة إلى تقويم وإعادة صياغة فإن الإجابات تصبح ممكنة، والعكس صحيح أيضاً .
اطروحة جلين بيك التي نالت اهتماماً واسعاً ليست الأولى في هذا السياق، لأن هذا الوتر الحساس كان جاذباً للكثير من العازفين خصوصاً في أمريكا، منذ بدأت المسافة تتسع بين العقل ومتطلبات الاستهلاك التي لا تتوقف متوالياتها بل تفرز بمرور الوقت ما يسمى اختراع الزبائن، وليس اختراع البضائع والسلع . وهناك باحثون اجتماعيون منهم عرب، حاولوا رصد هذه الظاهرة من خلال مشاهد التسوق في المتاجر الكبرى، وقد تكون احدى دراسات د . جلال أمين عن هذه المشاهد مدخلاً نموذجياً لفتح ملف مسكوت عنه سايكولوجياً واجتماعياً .
يقول أمين إن تأقلم الزبائن من رواد المتاجر الكبرى المزودة بكاميرات رصد مع اتهامهم بأنهم لصوص إلى أن يبرهنوا على عكس ذلك هو أول السطر في ثقافة استهلاكية تسعى إلى افراغ الانسان من مضمونه الآدمي . وتحوله إلى مجرد صدى أو رد فعل .
ورغم وفرة هذه الدراسات إلا أن الفائدة منها لا تزال محدودة، لأن العطارين لا يصلحون ما أفسد الاستهلاك وليس الدهر كما قال أسلافنا .
وقد تساهم الأزمة الاقتصادية الكبرى التي هزت العالم في تحريض مثقفين واقتصاديين على المضي قدماً في استقراء ظواهر من افرازات الرأسمال المتوحش، لكن الصحوة لن تكون قريبة، خصوصاً أن المتعاملين مع هذا المستوى من الدراسات والأبحاث هم من النخبة وثمة مصدات وعوائق شاهقة تفصل ما يكتب عن الإنسان العادي .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى