صفحات أخرى

الدب يتحوّل نمراً – بـــزوغ فجـــر روسيـــا” لمـــروان اسكـنـــدر

مـــــرافعـــــة فــــي القـــــــدرات الروسية الكــــبـــــرى
بقلم ياسر هواري
جمع الاقتصادي المرموق والكاتب اللبناني مروان اسكندر حصيلة عقود من الخبرة والدراية بشؤون منطقة مضطربة، ليضم معارفه وخبراته تلك بين دفتيّ كتاب(•) يزود القراء بمادة دسمة حول موضوع لم يتم إشباعه درساً حتى الآن، ومن الحريّ به أن يثير سخط النقاد الغربيين أكثر مما يستميلهم: بزوغ فجر روسيا في عهد الرئيس السابق ورئيس الوزراء الحاليّ فلاديمير بوتين.
من موقعه على تقاطع بين الشرق والغرب، يستفيض إسكندر في تقديم تحليله المفصل والواضح لموقع روسيا الجيوسياسي في العالم، بانياً مقاربته التحليلية تلك على الدور الذي تلعبه اقتصاديات الطاقة في هذا المجال، من دون أن يغفل الإضاءة على نشوء روسيا الحديثة إبان حكم بطرس الأكبر، مروراً بوقوع البلاد في قبضة النظام الشيوعي، ومن ثم انهيار النظام السوفياتي إبان حكم الرئيس ميخائيل غورباتشيوف، وصولا الى ظهور بوتين على الحلبة السياسية وتولي خليفته دميتري ميدفيديف الرئاسة.
قد يجد نقاد حكم بوتين الاستبدادي وتضييقه الخناق على معارضيه ميلا الى الليونة والمهادنة في حديث اسكندر عن الكرملين. لكن المكتبات تغص من دون شك بكتب تعرض بالتفصيل الممل لتهاوي اصحاب المليارات الروس المتفلتين من أي قيود او رقابة. من جهته، يتبنى اسكندر مقاربة مختلفة في اطار جهده للنظر في تاريخ روسيا الحديث بعين المراقب المعجب والخبير.
لا يعوز القارىء دليلا على افتتان اسكندر واعجابه بتاريخ روسيا الحديث البالغ التشعّب، وبثقافتها، وبمواردها وبناسها، وهو ما يلاحظه جلياً في صفحة من صفحات الكتاب. وربما يتعين على الخبراء بتاريخ روسيا ان يبحثوا عن كتاب أكثر أكاديمية وتخصصاً من كتاب اسكندر، لكن في المقابل قد يشكل هذا الكتاب الذي يغلب عليه الطابع الاقتصادي بصورة اساسية متعة للقراء المهتمين بموسكو، إذ يغطي محطات مختلفة من التاريخ الروسي بوضوح تام وبلغة مقتضبة.
يستهل إسكندر كتابه بفرضية لافتة، مفادها ان ميدفيديف وبوتين هما الإبنان الروحيان لبطرس الأكبر وخليفته في ما بعد كاثرين الكبرى. وفيما يطلع الكاتب قراءه على تاريخ روسيا خلال القرن الثامن عشر – حين كان الغرور ونظام “الاستبداد المستنير” ركنا الدولة – فإنه يحضّرهم في الوقت نفسه لفهم الكرملين بحلته الراهنة.
وفي رسمه لمسيرة صعود النظام الشيوعي وسقوطه، بدءاً من ستالين وصولا الى غورباتشيوف ومروراً بالأعوام المضطربة لحكم يلتسين، يعرض اسكندر كيف اعاد بوتين النظام الذي كانت روسيا بأمس الحاجة اليه. وبثقة تامة وبمعطيات لا تقبل الجدل، يقلب اسكندر المفاهيم السائدة حول قضية شركة يوكوس التي تم تعميمها، والإجراءات التي اتخذها بوتين في حق القلة الأوليغارشية الحاكمة التي اشتهرت بالنهب والسرقة.
يستعرض اسكندر في كتابه سياسات “العلاج بالصدمة” التي يؤيدها اقتصاديو السوق الحرة في الغرب من أمثال جيفري ساكس، والتي يجادل الكتاب بأنها ساهمت في خلق الظروف لقلة من “الأليغارشيين من امثال خودوركوفسكي وبيريزوفسكي” لاستنزاف روسيا حتى العظام. وفي هذا الصدد يكتب إسكندر: “اقترض الأوليغارشيون المال من المصارف الحكومية، وعادوا فأقرضوه للحكومة مقابل فوائد أعلى، وتمكنوا من خلال ذلك من إحكام قبضتهم على أصول ذات قيمة مرتفعة”. وهو يضيف: “دأبت تلك القلة الحاكمة على توفير التغطية لأعمالها من خلال الإستحواذ على أدوات إعلامية مختلفة، إن في الصحافة او التلفزيون. وبغية حماية نفسها من العقاب، عمدت عام 1996 الى تمويل إعادة انتخاب بوريس يلتسين للرئاسة تغطية لممارساتها. إن إدعاءات الإيكونوميست والتكنوقراط السابقين المتحالفين مع طبقة الأوليغارشية بأن تأميم شركة يوكوس النفطية في العام أعاد ملكية صناعة النفط الروسية الى الدولة، تبين لاحقاً أنها مجرد افتراءات عارية عن الصحة في نهاية المطاف”.
يعرض الكتاب أيضاً لعلاقات روسيا المشحونة مع الغرب، والناشئة عن الامتعاض من الاستخفاف بالتضحيات التي قدمتها روسيا خلال الحرب العالمية الثانية – 22 مليون قتيل على الجبهة التي كلّفت المانيا النازية سبعين في المئة من إجمالي خسائرها – وصولا الى برنامج الرئيس الاميركي الأسبق رونالد ريغان والمعروف بإسم حرب النجوم، وقد عبر عن تبرم الروس بالنظرة الغربية بوتين الى مجلة “تايم” التي اختارته رجل العام 2007. ولا يغفل الكتاب تقويم العلاقات الروسية الاميركية حول التعاون النووي. فاقتراحات بوتين، التي اعلن عنها في العام 2007، حول تخصيب الاورانيوم من قبل هيئة دولية مسؤولة ومركزية، باتت حجر الزاوية في المفاوضات الاميركية – الروسية بعد وصول الرئيس الجديد باراك اوباما الى سدة الرئاسة. ويجادل اسكندر بأن روسيا قادرة على ان تضطلع بدور اساسي في الازمة بين الولايات المتحدة واسرائيل من جهة وايران من جهة اخرى، بالنظر الى تعاونها اللصيق في برناج ايران النووي.
يسلط اسكندر الضوء على التوتر بين الغرب وروسيا بشأن الحرب التي قادتها موسكو ضد جورجيا في آب 2008، شارحاً ان رئيس جورجيا شجع على امتحان مدى استعداد روسيا للدفاع عن اوسيتيا الجنوبية من طريق شحنات ضخمة من الاسلحة وصلته من اسرائيل.
لقد كان رئيسا جورجيا واوكرانيا يراهنان كل من جانبه على تدخل حلف شمالي الاطلسي لمساعدته في مواجهة روسيا، لكن اسكندر يشير الى ان الرئيسين تجاهلا اعتمادهما المفرط على الغاز الروسي، وها هما يواجهان راهنا تمردين شعبيين ضد حكميهما.
اما بالنسبة الى القارىء من الشرق الاوسط، فهو ينجذب على الارجح الى طريقة معالجة اسكندر لطبيعة العلاقات التي تربط روسيا بالبلدان المحورية في المنطقة. لقد نشأ اسكندر في بيروت خلال خمسينات القرن الماضي، وكان والده يتلقى منشورات عن الاقتصاد السوفياتي، فنمّى اسكندر اثر ذلك رؤية متكاملة خولته فهم الطبيعة الاستراتيجية لثروة النفط الروسي والاتفاقات التي تربط روسيا بمصر والسعودية.
يركز الكاتب على اتفاقية حديثة الولادة، لا يعرف الكثير عنها بعد، تجمع بين روسيا والسعودية، وما هي الا دليل على التعاون الاستراتيجي المتزايد بين عملاقين في مجال الطاقة، يقول عنهما اسكندر انهما الضمانة الاكيدة لاستقرار اسعار النفط في المستقبل المنظور.
وبالاستناد الى مصادر اميركية رسمية، يبين الكاتب ان الخطة الهادفة الى احتلال العراق والسيطرة على حقول النفط الاربعين فيه، وتهميش المصالح الروسية والصينية والفرنسية، رسمت في بداية العام 2000، اي قبل هجمات الحادي عشر من ايلول 2001، كما يجري الكاتب تحليلاً لطبيعة العلاقات التي تربط روسيا بمناطق الثقل في الشرق الاقصى، اي الصين واليابان، وهو موضوع يندر التطرّق اليه، كما يعرض بوضوح للتحديات المحلية فيها، والمتعلقة بالبطالة والصحة والبنية الديموغرافية.
أخيراً، يمعن الكاتب النظر في مسببات الازمة المالية العالمية وتبعاتها، واضعاً في تصرّف القارئ مقاربات جديدة، كالضغوط الديموغرافية الطابع على الاقتصاديات الغربية والضرر الذي سببته الحسابات الائتمانية الاستنسابية المتبعة في سويسرا.
بعد أن تنازلت الولايات المتحدة عن موقعها القيادي على المستوى العالمي، وبالرغم من انتخاب أوباما، يجادل إسكندر بأن روسيا تحظى بالموارد الطبيعية والتكنولوجيا والقدرة والموارد المالية بالاضافة الى الحنكة السياسية التي تؤهلها لاحتلال مركز محوري بجدارة، وهو أكد ان سعر النفط سيراوح ما بين 60 و70 دولاراً للبرميل خلال 2009 الامر الذي يسهل أوضاع السعودية والكويت وأبو ظبي وروسيا. ويكتب: “يصعب تصوّر سيناريوات مستقبل مالي عالمي صحي من دون روسيا”.
استغرق تأليف الكتاب عامين، واستلزم خمس زيارات ميدانية الى روسيا، فضلاً عن مساهمة عدد من الخبراء اللبنانيين والروس في مجال الاعمال، ومكتبة غنية بالمعلومات. وجاءت المحصلة كتاباً سيثير اهتمام جميع الذين يبحثون عن رؤية جديدة لبلاد وصفها وينستون تشرشل يوماً بأنها “تلك الأحجية المتدثّرة بالالغاز والملتفة بالغموض”.

Marwan Iskandar – The bear turns tiger – resurgent Russia – info – pro – 2009.
(ياسر هواري هو ناشر مجلة “Arabies”، الصادرة في باريس
)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى