صفحات الجولانعلي جازو

سنة على رحيل علي الجندي ( 1928-2009)

null
الشاعر وحيداً يجتاز طريق الضعفاء
علي جازو
رفض الشاعر السوري علي الجندي طرق العيش المعهودة. رفضها لا ليهدمها، قدر ما أنه لم يحبّها ولم يستطع التكيّف معها. كيف يمكن لشاعر، أيّ شاعر، أن يسير بأقدام غيره وينظر عبر عين ليست عينه. تحدّى الشاعر داخل الشاعر العرفَ والعادة اللذين لا يخلّفان غير الثبات والسأم والجمود. ظلّ التحدّي، والنزق السارح البهيّ، سمتين أساسيتين لحياته التي لطفّها وحماها بروح النكتة، ومزاج الفتى الهارب إلى السهر وليالي الحبّ، أيّاً كان الثمن الذي ينبغي دفعه، وأينما كانت النهاية التي ستطويه.
التلميذ الذي درس في حلب، وأحرز المرتبة الأولى في سوريا، حينما نال شهادة “السرتفيكا” حينها، لم يحول ذكاءه وحيويته، ولاحقاً منصبه ومكانته، إلى منفعة خاصة. ظلّ محافظاً على لطفه ووسامته وأناقته وكرمه ومرحه وجموحه، ولم ينل منه أو يجذبه أيّ إغراء عدا نهمه وجوعه إلى حياة عاشها أكثر ممّا تأمّلها، وكتبها أقلّ ممّا عاشها. شاعرٌ فردٌ وجد الفوضى المتألّقة والهروب النبيل أجدر وأعمق من النظام الراكد والسكون الرماديّ. كان قادراً على الهدر والبذل وربّما الهذر أكثر من ميله إلى مكاسب الادخار أو طمأنينة التعقّل. عاد إلى دمشق من بيروت، التي هرب إليها تخوّفاً من اعتقاله، أثناء سني الوحدة السورية المصرية حيث تمّ تجميد الحياة السياسية في سوريا.
عاد ليستلم، بعد استقرار السلطة لحزب البعث عام 1963، منصب مدير عامّ الرقابة في الإذاعة والتلفزيون السوري الرسميّ. حينها لم يطق المكانة الرسمية التي كانت تعادل مكانة وزارة، ولا ظروف وبيروقراطية العمل الوظيفيّ. لم يطق علي الجندي أيّ عمل ذي قواعد وأصول ودرجات. كان يقيم في انفعاله ومداه الحسّي العاشق، كان يسكن شوقه، حدّ التوهم، وخياله الشاكي أكثر ممّا يولي أيّ اعتبار للركون إلى عمل ثابت أو وظيفة مجزية لم يجد فيها سوى قيد على حريته وميله إلى “حياة الشارع الحرّة” والناس والأصدقاء، وصحبة السهر العالي. ثمة شعراء يجدون أنفسهم ضيوفاً على مائدة العالم وبيت الحياة.
إنهم ضيوف لا يمكنهم سوى أن يتركوا أثراً طيباً، لكنهم من فرط مودّتهم وعمق إحساسهم، ينطوون على مزاج قلق يحاولون عدم إظهاره ويفشلون في استثمار القلق الذي يعضّ على أيام وجودهم. علي الجندي واحد من هؤلاء الذين يكرهون استثمار القلق لأجل الفنّ والكتابة. إفراطهم في الحبّ والتعلّق وعدم تحمل الوحدة ينسيهم وجودهم.
يكبرون داخل أنفسهم وعلى حساب أنفسهم، ولا يبدون سوى ابتسامة ضدّ العجز وضدّ الكسل وضدّ الخواء. واحد من الشعراء – الضيوف الدمثين المرحين، القادرين على كتم خوفهم في رقّة تعاملهم، وطرد عنف الألم عبر فم السخرية الشجاعة. ربما لذلك- لأنّ كتابته لم تكن غير عين حياته وسلوكه- لم يذهب بعيداً في نحتها أو تغريبها أو تضخيمها أو غسلها أو إثرائها. وجدها كما عاشها، وكتبها كما بدت له. واحدة بواحدة. تلقّاها كيفما جاءت، ساحرة أو عادية، بسيطة أو مربكة، فاترة طيّعة قريبة أو مجنّحة متمنّعة نائية. لم يحوّلها عن منبعها ولا حفر لها مجرى آخر.
هذا نموذج للاستجابة التلقائية الدافئة، والكتابة الفورية الساخنة، والشغف الآنيّ الممتلئ لوعة وأسى. نموذج مرآة واضحة، نموذج ربما لم يعد مغرياً لأحد الآن النظر إليه أو التفكر فيه أو النسج على نحوه. لذلك خلَتْ قصائده من تضخّم المتانة اللغوية وحدّة الكثافة التعبيرية.حدّ الشعور أحياناً، أنها دُوِّنتْ دون ضبط وسيطرة من الشاعر، فتحوّل الانفعال لفرط قوّته إلى موضوع وحيد للتأمّل والكتابة. هكذا يحلّ التداعي السهل والمتجزئ محلّ قوّة الربط وإحكام البناء. فضّل علي الجندي القصيدة دون قيد على الشعر العموديّ الذي بدأ الكتابة على منواله، عندما كان التفضيل حينها في مناخ وسياق متوتّرين من الاختلاف على شكل القصيدة وبنيتها وفحواها. أحبّ نظام التفعيلة المرن والمنضبط موسيقياً كما نظمها السيّاب مثلاً، وظلّ في إطار الإعجاب والحبّ المتواضعين. لم يحوّل حبّه ذاك إلى بناء فنّيّ مستقلّ منفصل. لم يهدم ولم يبن.
لم يكن في وارد الشاعر، الحاصل على شهادة في الفلسفة من جامعة دمشق عام 1956، أن ينظّر للشعر قدر ما يعيشه ويحيا به طريقة حياة أكثر منها مذهب شعر وتقنية تأليف. أقام علي الجندي كما يجدر بشاعر أن يقيم في الجرح النديّ الخجول- كمن يقيم في الفجر الرحب دون أن يسعى إلى تملّكه طالما إنه ممنوح ومباح وزائل- دون أن يسمه بغير اسمه، أو يرفعه إلى مدى أعلى ممّا هو فيه. مشى كثيراً وتنقّل من مدينة إلى أخرى، جاء من أطراف البادية السورية في بلدة السلمية، من البيئة التي أنجبت صوتاً متفرّداً، صوت محمّد الماغوط، هناك ولد الجندي هناك عام 1928، ثم تنقّل للدراسة إلى حلب. سكن دمشق وبيروت ثم عاد لدمشق فاللاذقية، حيث ظلال العزلة الباردة ورخاؤها، وحيث مدى البحر، هناك كانت ضراوة الشيخوخة المريرة تنظر من عين طفل ظلّ طفلاً حتى اللحظة الأخيرة. لم يجد الطفل – الشيخ في السلطة ولا المنصب سوى ما يجده الطفل في عالم الدمى: لعبة، وستنخرب اللعبة أو تتفسّخ أو تتعطّل أو تهمل أو تضجر أو تنسى أو تموت.
كان شعره لعبة حياته السخيّة، وكانت حياته لعبة قلبه العاشق أبداً، الناظر والمنتظر واقفاً، لوحده في البرد الحارق، على محطة قطارات تمرّ، وتمرّ بلا نهاية: “واقفٌ منذ صباح العيد استجدي على أبواب مينائك/ يا .. أمّي مواعيدَ السفر/ أرقبُ الغادين والموتى وحمّال التوابيت وباقات الزهر/ فقطارات بلا ناس ولا صوت تمرّ/ وأرى الحزنَ على جلد الحقائب../ منذ حين وأنا وحدي، وبردُ الصبح يكويني/ وقد سافر كلّ الأصدقاء/ وأنا أنتظر الشمس ودفء القاطرة/ غير أنّ الحارس الجهم اصطفاني من جميع النزلاء/ انتهرتني شرطة الميناء، قالت لي ذؤابات الدخان:/ أنت تبقى بعد أن تمضي على البحر المراكب/ ها أنا أنتبذ الركن الذي يشرف من بعد على البحر/ وأصطاد الذين انتهروا مثلي/ لكي أسألهم عن موعد الإبحار/ كي أطلب من عاهرة تمضي على أرصفة البحر/ بطاقات لحبّ أو رحيل/ غير أن الضجة العيدية الحزنى انتهت من غير أن ألمح إنساناً حواليّ/ ولا أنثى.. ولا وجهاً نبيل/ كل ما أملت فيهم رحلوا أو رُحّلوا عني بعيداً/ والقطارات تمرّ/ القطارات التي اشتقتُ لترداد أغانيها الحديديات/ ما عادت تبالي بالمحطات الصغيرة/ كلها تمضي كلمح الخوف/ لا صوت لها، لا ناس فيها/ وأنا أرقبها قاطرة، قاطرة تمضي على خط من المطاط/ لا تصفر، لا تصطخب/ وإذا اقترب/ فمكان الحارس الليلي ينهاني/ فأمضي خائفاً أنتحب/ “كشكُ” هذا الحارس الآمر الناهي خواء/ غير أني كلما قاربته أضطربُ/ آه يا أمي امنحيني لغة الدفء، هبيني دمع عينيك/ فأجتاز طريق الضعفاء/ هوذا الليل على المرفأ والبحر/ على كل جهات العالم المرئي يمتدّ/ وبي طفلٌ يخاف الليل/ مذعور من الوحدة والريح وأصوات القطارات الخفية/ كلّ ما أحتاجه إيماءة تذرفها عيناك/ كي أعبر نحو الطرف الآخر في إثر عيون الأصدقاء/ والقطارات تمرّ/ ونعيق السفن المبحرة الآن مع الليل إلى الأعماق/ لا يمنح غير الرهبة الصماء والحسرة.. آه/ انقضى عهد شباب النورس الحائم في الزرقة/ لم يبق على أرصفة الميناء غيري/ لم يعد للغرباء/ بعد أن مرّ نهار العيد هذا العام غير الانتظار/ ربما/ ربما جاء لهم في السنة القادمة العيدُ../ على جُنحَي قطار!!.”
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى