حسين العوداتصفحات الناس

الصوم: تضاعف الاستهلاك وتراجع الإنتاج

null
حسين العودات
جاء في نشرة منظمة التغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) أن عدد الجوعى في البلدان العربية يتجاوز (25) مليون جائع، في الوقت الذي نشرت فيه عدة مراكز دراسات كويتية وخليجية وعربية أن استهلاك الأغذية في البلدان العربية يتضاعف مرتين أو ثلاث مرات حسب البلدان في شهر رمضان، وأن متوسط الاستهلاك الغذائي العربي يتضاعف مرتين في الشهر الفضيل، حيث تتعدد أصناف الطعام في الوجبة الواحدة قياساً للأيام العادية، ولا تقتصر الوجبات على وجبتي الإفطار والسحور بل تدخل بينهما عدة وجبات،
ولا تكتفي العائلة بالكميات التي تستهلكها بالوجبة الواحدة في الأيام العادية بل تزيدها وأحيانا تضاعفها، وترفض أن تبقي فائضها لليوم التالي، لأن الصائم لا يأكل (أكلاً بائتاً)، ولذلك تنتهي هذه الأطعمة الفائضة إلى سلة المهملات وحاويات الفضلات، ويتكرر الأمر يومياً، فربة البيت التي تعرف حاجة أسرتها من مقادير الطعام، تزيدها بل تضاعفها، امتثالاً للتقاليد والعادات والاستعراض والزهو والاختيال. وتتضاعف مصاريف الأسرة الأخرى بالنسبة نفسها، سواء ما يتعلق منها بشراء الأدوات المنزلية التي لا تحتاجها الأسرة سوى مرة واحدة في العام، أم في الصرف اليومي بدون تقنين، ويترافق ذلك مع عدم الالتزام بعدد ساعات العمل، أو بالمحافظة على الإنتاجية المألوفة، فتتراجع الإنتاجية أحياناً للنصف، لأن المنتج يعتبر أن كونه صائماً يعني أن لا يعمل أو يقلل من العمل (أليس هو صائم ؟.) وكأنه يريد قبض ثمن صيامه إما من رب عمله أو من تقاعسه إذا كان هو رب العمل.
يأكل الصائمون كميات من الطعام أكثر بكثير مما يأكلون في وجباتهم العادية، وينوعون الأطعمة بما هو مفيد وغير مفيد، من اللحوم إلى النشويات إلى الحلويات إلى الفواكه إلى المرطبات، التي يؤدي خلطها معاً وبالوقت نفسه إلى صعوبات لا يتخلص منها جسم الإنسان بسهولة، ومشهور المثل المصري الذي يعبر عن غرابة مثل هذه الحالة والذي يقول (سمك لبن تمر هندي)، وما أن تمر ساعتان على الإفطار وبعد الانتهاء من صلاة التراويح إلا ويتحفز الصائم لالتهام وجبة جديدة هي بمنظوره (خفيفة) لا هي (بالفطور ولا بالسحور)، ويزيد بها هموم معدته وقلبه وتركيب دمه ومجمل أعضاء جسمه.
يسترخي الصائم بعد الإفطار وينتظر فترة (الرفاه) التي هيأتها له القنوات الفضائية، والتي تضم غالباً (فوازير رمضان) ويأتي بعدها الرقص والغناء والمشاهد التمثيلية الخفيفة والسطحية والتي تستخف عادة بعقول الناس، ثم تبدأ (مذبحة) متابعة المسلسلات الدرامية، التي تتلاعب بمشاعره، وتزوّر التاريخ، وتصر على المحافظة على قيم انتهى مفعولها، وتسخر من الحداثة والنهضة والتقدم باسم المحافظة على التراث والتقاليد والخصوصية والهوية القومية والدينية وليس لأي من هذه جميعها في الواقع علاقة بما تزعم المسلسلات ومبدعوها .
تبنى خيم وتقام دواوين وديوانيات من أجل الصائمين، تزدهر فيها النميمة والغيبة وعقد الصفقات وغيرها وغيرها مما لا علاقة له بالصوم ولا بالدين ولابمحاسن الأخلاق، وتنغلق الحلقة على نفسها طوال الشهر، ثم تتكرر طوال السنين، حتى صارت هذه المجريات والآليات والتقاليد طقوساً شبه مقدسة، وفي الشرق يستسهلون عادة وتاريخياً تقديس الأشياء.
إضافة إلى أن الصوم ركن من أركان الإسلام الخمسة، فهو يخلص الجسم من درنه، من الأوكسيد والأملاح والزوائد والشحوم الضارة، كما يخلص الروح من لجة المجتمع الذي تعيش فيه، ومن تشيؤها وتلوثها بآثام ما حولها من فحش، وغرقها في مستنقع الحياة اليومية، حيث يعيق ذلك صفاءها وتطهرها وطهرها ورقتها. ولعل هذه بعضاً من أهداف الفريضة، وجزءاً من مساهمتها في خدمة الجسد والروح. فأين نجد هذا كله؟.
لو استعرضنا القرآن الكريم والأحاديث النبوية والأحكام الفقهية وأحكام الشريعة على مختلف تيارات الفقهاء، سواء عدنا لصحيح الدين أو حتى لمبالغات الفقهاء وفهمهم الخاص والمتنوع للدين، لوجدنا أن هذه المرجعيات جميعها تشير إلى أن صوم المسلم يقتضي أول ما يقتضي (ترك البحر من الكلام والغيبة والنميمة والكذب والفحش والسب والشتم) ولو عدنا لكتاب الصوم للإمام الشافعي لوجدنا (من لم يكف جوارحه عن الآثام لم يحصل له من صومه إلا الجوع والعطش) و للإمام الغزالي شيخ الإسلام الذي قال (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) فالهدف إذن ودائماً هو تطهير الروح وتخليصها من آثامها ولو خلال شهر الصوم فقط، فضلاً عن تخليص الجسم مما يضره، وهذاـ كما يبدو ـ آخر ما يفكر به معظم الصائمين.
إن زيادة استهلاك العرب في رمضان للطعام والشراب والغذاء عامة، تكفي لإطعام فقراء العرب الـ (25) مليوناً الذين أشارت إليهم (الفاو) لمدة عام واحد، وهذه الاستنتاجات هي خلاصة عمل مراكز دراسات يمكن الاعتماد عليها، وبحساب بسيط فإن مضاعفة استهلاك الغذاء في رمضان، لو تم الاستغناء عنها، واستهلك الناس ما اعتادوا على استهلاكه، لوفر الـ (300) مليون عربي، طعاماً لجوعاهم الـ (25) مليوناً لمدة عام كامل تقريبا حيث يتم القضاء على الفقرً، وأتساءل أيهما أفضل عند الله، استمرار المسلم استهلاكه الغذائي العادي في شهر الصوم وإشباع الـ (25) مليون جائع، أم حشو معدته حتى التخمة، ولاشك أن الجواب بديهي وليس موضوع خلاف.
الغريب، أن المفتين في بلاد العرب والمسلمين مازالوا يضخون يومياً مئات الفتاوى حول صوت المرأة وشعرها ونقابها وحجابها وتدخينها السيجارة أو النارجيلة، مستنفرين لا ينامون ليلهم ولا نهارهم من شدة قلقهم، بينما هم أنفسهم الذين يتصرفون وكأنهم حراس الدين، لا يحاولون الفتوى لإنقاذ جسم الإنسان وروحه في رمضان، وصد الناس عن مخالفتهم لجوهر مبادئ الصوم وفضائله.
البيان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى