اسرائيلصفحات العالمقضية فلسطين

المفاوضات كطريقة لتسويق الدولة «اليهودية» كقوة عظمى

حسن شامي
هل إسرائيل دولة عظمى؟. هذا السؤال الذي يجول بطريقة شبحية في خواطر كثيرين، يبدو للوهلة الأولى أقرب إلى التهويل منه إلى التوصيف الواقعي. على أنّ النظر في بعض معطيات الارتباك الشامل الذي أسفرت عنه المفاوضات المباشرة يجيز حمل السؤال على معنى يتعدى التهويل الخطابي. كانت الشكوك كبيرة، عربياً وغربياً، في حظوظ نجاح المفاوضات إلى حد أن كثيرين لمحوا في ظروف انعقادها، دون شروط ودون أي مرجعية قانونية ودولية، وقائع فشل معلن. لا مبالغة في القول إن المرجعية الوحيدة لهذه المفاوضات هي التحكيم العاري قدر المستطاع، لميزان أو نسبة القوة. لقد ارتأى المفاوض الفلسطيني، والعربي إلى حد بعيد واستطراداً، أن لا بديل من مسايرة الرئيس الأميركي وإدارته وهو على أبواب انتخابات نصفية ترجح الاستطلاعات فوز خصومه الجمهوريين. وسرعان ما دخلنا في لعبة عض الأصابع، وهي جولة إضافية من جولات مواجهة بين الإدارة الأميركية وحكومة نتانياهو يبدو أن الفوز فيها لا يكون إلا بالنقاط فيما يمكن توجيه الضربة القاضية إلى… الفلسطيني. يكاد المشهد يكون سوريالياً.
تتصرف إدارة الدولة الأعظم كما لو أنها تترجى حليفها أن يكون أقل رعونة في الشروط التعجيزية فيما تضغط على الطرف الفلسطيني الضعيف وتهدده. لدينا تلعثم من جهة، وفصاحة عالية من جهة أخرى. فهذه تعوض عن ذاك. الاتحاد الأوروبي، بعضويه الدائمين في مجلس الأمن، يبدو هو الآخر أقرب إلى التأتأة. فيسخو الرئيس الفرنسي بعبارات التأسف على تعثر المفاوضات وانتقاد استبعاد الأوروبيين منها فيما يدأب على تعزيز العلاقات الاستراتيجية مع الدولة العبرية وتسويق تفوقها العسكري والاقتصادي والأخلاقي تاركاً لوزير خارجيته استعراض ديبلوماسية راقصة لا مأتى لها. ما تحسنه هذه الديبلوماسية الراقصة الضغط على الفلسطينيين وسلطتهم الوطنية نظراً إلى أن أوروبا هي المانحة الأساسية للمساعدات المالية لها.
ينبغي التذكير بالحلقات الأخيرة من المسلسل. فهي بدأت برفض نتانياهو تمديد التجميد الجزئي والموقت للاستيطان غير الشرعي أصلاً حتى في نظر الدول المؤيدة لإسرائيل. وللحصول على تمديد لمدة شهرين فقط أغدق أوباما عليه ما عرف برسالة التطمينات العتيدة التي تضمنت، بحسب «معاريف»، تزويد إسرائيل بوسائل قتالية حديثة، تضاف إليها تعهدات أمنية أخرى، وإحباط أي محاولة عربية لطرح قضية الدولة الفلسطينية على مجلس الأمن، والتزام الإدارة الأميركية بمنع الفلسطينيين من إعادة طرح قضية المستوطنات بطريقة منفصلة عن المفاوضات المباشرة، بحيث يتقرر مصيرها في إطار التسوية الدائمة. لكن نتانياهو رفض الضمانات الأميركية وطالب إدارة أوباما بأن تعترف برسالة الضمانات التي قدمها سلفه جورج بوش إلى آرييل شارون وتعهد فيها ضم الكتل الاستيطانية الكبرى ودمجها في إسرائيل في أي اتفاق سلام، إضافة إلى إطلاق سراح الجاسوس الإسرائيلي جوناثان بولارد.
لا داعي للتشكيك في صحة الأنباء والتقارير التي تتحدث عن استياء الإدارة من المأزق الذي وصلت إليه المفاوضات، وعن تذمر أوباما من «ألاعيب» نتانياهو التي جمدت عملية السلام وأضعفت موقع مبعوثه جورج ميتشل، خصوصاً مع تناقل أنباء تشير إلى تشنجات بين الفريق الذي يقوده دنيس روس (المعتمد لدى الجانب الإسرائيلي) وفريق ميتشل وتقوده مساعدته مارا رودمان. وقد نقلت صحيفة أميركية عن هذه الأخيرة قولها إنها مستعدة للخروج من الفريق التفاوضي والانتقال إلى الوكالة الأميركية للتنمية، ما يعني ترجيح كفة فريق روس. يمكننا أن نضيف إلى عناصر المواجهة «الديبلوماسية» دعم أوباما لمجموعة ضغط يهودية، وهي «جي ستريت»، للتخفف من ضغوط مجموعة «أيباك» النافذة والملتحمة بالتطرف الإسرائيلي. ولا نعلم ما أسفرت عنه منافسة المجموعتين. في المقابل، نعلم أن الحكومة الإسرائيلية أصدرت سلسلة من القرارات في مقدمها فرض قسم الولاء لدولة إسرائيل «اليهودية والديموقراطية» (دون أي تعارض بين الصفتين) على كل من يطلب الحصول على جنسيتها. وهناك مشروع لإقرار قانون استفتاء حول أي انسحاب من الجولان والقدس الشرقية. والحلقة الأبرز اقتراح نتانياهو مقايضة تجميد الاستيطان باعتراف الفلسطينيين بإسرائيل دولة للشعب اليهودي، ما يعني شطب حق عودة اللاجئين ومنح شرعية استباقية لأي تهجير محتمل لعرب 1948، كحل للمشكلة الديموغرافية. والغريب أن الإدارة الأميركية طلبت من الفلسطينيين تقديم عرض بديل لاقتراح نتانياهو. وجاء الرد الفلسطيني في تصريح لياسر عبد ربه، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير يقول «إننا نطلب رسمياً وعلناً من الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية أن تقدما لنا خريطة لحدود دولة إسرائيل التي يريدون منا الاعتراف بها»، وأضاف أنه «كلف رسمياً» من القيادة الفلسطينية التقدم بهذا الطلب «بعدما دعتنا الإدارة الأميركية إلى تقديم اقتراح مضاد لعرض نتانياهو». ثم أضاف أنه «إذا كانت هذه الخريطة على أساس حدود 1967، مع ضمان إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لعموم الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967، فسوف نعترف بإسرائيل كما تسمي نفسها وفق القانون الدولي» من دون التطرق مباشرة إلى إمكانية الاعتراف بها كدولة يهودية. على أن المسؤول الفلسطيني نفسه صرح الى «هآرتس» عن إمكانية الاعتراف بإسرائيل «دولة يهودية»، بل حتى صينية إذا انسحبت من الأراضي الفلسطينية المحتلة. وقد أثار هذا التصريح ردود فعل عنيفة، ليس من قبل حماس فقط، بل كذلك من قبل فصائل فلسطينية أخرى ومن مسؤولين في حركة فتح حتى أن بعضهم طالب بمحاكمته وإقالته.
المطالبة بتقديم خريطة لحدود إسرائيل تأخرت كثيراً. ثم ماذا لو وافق المجتمع الدولي على «يهودية» الدولة دون الالتفات، كما هو حاصل، إلى كل القرارات الدولية المتعلقة بالحدود، وخلافاً للمبدأ الديموقراطي. يمكننا أن نتوقع احتجاجات إسرائيلية على الجمع العشوائي والعنصري بين الصفتين، اليهودية والديموقراطية، أكثر مما نتوقع ذلك من الإدارات الغربية، ليس فحسب بسبب التواطؤ والمحاباة وتفادي الابتزاز، بل لأن الصفة اليهودية مثقلة بتاريخيات مختلفة ومتباينة ولا تستقر على معنى واحد أحد. ففي هذه الصفة يختلط التعريف الديني بالتعريف الإتني، أو العرقي إذا شئتم.
نرجح أن تكون الصفة هذه محمولة هنا على المعنى الإتني بالضبط كما كانت اللا سامية النازية عرقية وبعيدة من اللا سامية الكاثوليكية التقليدية. وهذه «العرقنة» أو «الجنسنة» هي، على ما يبدو، من سمات عصرنا الحديث حيث يجرى تقديم المسلمين مثلاً كما لو أنهم جنس متجانس فلا يعود هناك فرق بين الباكستاني والمغربي والتركي والسوداني…
باختصار يصبح الفلسطينيون والعرب طرفاً في عملية السلام عندما يستطيعون أن يضعوا الآخرين أمام مسؤولياتهم عن تبعات العرقنة هذه وكلفتها الثقيلة.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى