صفحات أخرى

صالح بشير صديق الموجة التي أخذته بعيداً… عنا

حسن شامي
لن يكتب أحد سيرة الصديق الراحل، الكاتب والصحافي التونسي صالح بشير. ليس الذهول الذي ما يزال يلف قلوبنا منذ تلقي نبأ غيابه، ولا فجائية الفقدان ومرارته، ما يحول دون كتابة هذه السيرة، سيرته. وليس كذلك لأن ما نعرفه عنه، ونحن القريبين منه والمقيمين منذ سنوات طويلة على صداقته، لا يكفي لتأثيث سيرة، بل لأننا، بكل بساطة، نستطيع أن نصادق الموجة، ولكننا نعجز عن سرد سيرة مبتدئها وصيروتها ومآلها
يمكن للواحد منا، إذا شاء ذلك، أن يصادق الموج، وأن يرتضي الصفة العابرة بالضرورة لمثل هذه الصداقة، مع الإقرار بصعوبة التقاطه والإحاطة به كي يتسنى تثبيته في رواية. ويبدو لي أن صديقنا صالح كان قد قرر، منذ مغادرته كلية الآداب في جامعة تونس ذاهباً الى بيروت في أواسط سبعينات القرن الفائت، أن يجعل من حياته موجة متصلة، وثبة متصلة. الرجل الذي عاش ومات غريباً، لم يترك لنا، ولقربنا منه، سوى رمزية عبوره المتوثب، ورمزية الإقامة القلقة في ثنايا موج يتطلع ويتوثّب دائماً نحو الأعلى والأرقى والأكثر رهافة. وكان هو يتعهّد ذلك بعصامية المتشوق بنهم الى المعرفة والى إعمال الفكرة والاشتغال على العبارة التي تجعل من الفكرة هذه حركة دائمة وعضلة حياة نابضة على الدوام. وهذا ما جعل، على الأرجح حياته تبدو، حتى للقريبين منه، على قدر من الغموض كما لو أنها مسكونة بسرٍ دفين تقتضي حمايته الكثير من الحركة لإزالة الشبهة عن وجوده. فقد كان يحلو له أن يردد بدماثة، عبارة من نوع: «نضرب، أو نسعى، في مناكبها» للتدليل على صورة الارتحال والظعن التي أقام عليها حياته في حله وترحاله. ولم يكن كثير التنقل بين الأمكنة والمدن والعواصم فقط، بل كان كذلك أثناء وجوده بيننا ومعنا. فهو كان أحياناً، بحسب ما روي لي غير مرة، يعتكف أو يعتزل في بيته في باريس بضعة أيام منكباً على القراءة والتأمل، والحزن ومواساة النفس ربما. وكان يكتفي، أحياناً أيضاً، بإخبارنا بأنه مشغول باستقبال ولديه قبل أن يفجع بموت أحدهما وهو في الثانية والعشرين من عمره. ومن يفجع الى هذا الحد في الحديث، مع أصدقائه، عن حياته العائلية، يولد انطباعاً لدى سامعه بأن حديقة صالح السرية، أي ذلك الجزء الحميم من حياة كل فرد، ليست مثل حدائق الآخرين. ومثل هذا الانطباع يحمل على الظن بأن الحديقة السرية هذه هي مستودع أسرار يمكن تقليبها وتفقدها في العزلة والهمس الداخلي، وبأن صاحبها كائن ليلي وان كان أليفاً مثل النهار.
كان صالح أليفاً وغامضاً في آن، متبسّطاً في الصداقة وجاهزاً للانسحاب في آن، وما كان يعقده معنا هو نوع من التوليف بين الألفة والغرابة. كأنه قادم من مكان قصي لا يعرف ماهيته إلا هو. وليس للآخرين سوى أخذ العلم والخبر بذلك قاصراً سيرته على الإفصاح عن احتوائها على العناصر التي تجعل منها سيرة مألوفة. وكان يسعه في هذه الحال، ويسعنا نحن أيضاً، أن نلخص هذه السيرة بعبارة شعريــــة أو حكمية من نوع: «وكنتُ إذا ما رحت أرضاً بعيدة/ تسريتُ كنتُ السرَ والليلُ كاتمه»، (المتنبي). وكــــان هو سيرضى بتقديم سيرته بعبارة شديدة الاقتضاب والإجمالية، كالقول مثلاً: «لقد ولد وعمل وتزوج وانفصل عن زوجته وأنجب ومات»، بالضبط كما كان يقول هايدغر في معرض تعريفه وتقديمه لسيــــرة أرسطو (لقد ولد وعمل ومات). ذلك أن مزاج صالح كان أقرب الى مزاج الفلاسفة والمتصوفة العرفانيين الذين يعتبرون أن الأساسي في الحياة يكمن في عمل الروح والعقل وفي النظر من علو الى جريان الحوادث والوقائع، الكبيرة منها الصغيرة. والنظر من علو ليس استخفافاً بالحوادث والشواغل السياسية والتاريخية، وليس ضرباً من اللامبالاة الاريستوقراطية الجوفاء أو الادعاء المعرفي، بل هو تعبير عن سلوك ذهني وروحي يميز المزاوجة بين فهم الحدث والتشدد في الارتقاء بهذا الفهم الى المستوى الذي يليق به. وقد تعهد صالح هذه المزاوجة بأكبر قدر من الأناقة المعرفية، وليس التأنق والتحذلق والتكلف، وبقدر كبير من التواضع. ففي مقالاته الكثيرة المصحوبة بحب المعرفة والوفاء للذات والتشوق الى العدالة، كانت جملته تبدو قلقة ومضطربة، في نظر البعض، بل حتى منفوخة أحياناً. ويعود هذا، في ظني، الى إكثاره من التنويه والاستدراك والتفسير والاستباق، وكل ذلك في الجملة الواحدة. ذلك أنه أراد لجملته أن تكون فسحة نقاش متصل، وهي بالتالي تعبير عن توتر حميم يصاحب كل تفكير نقدي وقلق يحاذر في آن معاً مجاراة الشعبوية والمواقف الجاهزة ومجاراة النخبوية المتزايدة الانتشار النجومي.
لن يكتب أحد سيرة صالح بشير. وهو أصلاً لم يكن يتطلع الى ذلك. كان يتصرف كما لو أنه يقول: الأساسي في سيرتي ليس معرفة ان اسمي الفعلي هو صالح صلوحي، أو أنني أتحدّر من عائلة ريفية فقيرة، أو أنني تنقلت بين مدن مشرقية وأوروبية. الأساسي هو في ما أفعله وأكتبه. عبارتي هي سيرتي، وسأترك للمؤرخين عناء العثور على بطل في رواية ارتحالاتي وفي خريطة هذه الارتحالات التي رسمتها بقدمي وبقلبي الذي حملته وثبة كبرى خارج الأطر المعهودة. وثبة صالح هي معقد سيرته، وكان العالم العربي في سبعينات القرن الفائت ما يزال يجيز مثل هذه الوثبة التي كانت بيروت مكاناً لاختبارها. والخريطة التي رسمتها وثبة صالح تذكرنا، بل بالأحرى تستأنف، وثبات أسلاف نهضويين مثل جمال الدين الأفغاني.
في سلوك صالح بشير شيء من تجربة الأفغاني (الإيراني الأصل). وكان هذا الأخير يقترح أن يقال عنه بالتركية أنه «سرسري» (أي متشرد) كتعريف يلخص سيرته التي طلب منه تقديمها الشيخ السوري محمد المخزومي. والحال أن الحاجة الى السيرة تتصل بالحاجة الى رواية التاريخ. وثمة حاجة الى رواية الوثبة التي عرفها جيل معين في تونس. يمكن لصديق تونسي أن يفعل ذلك. الصديق محمد الحداد مثلاً.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى