صفحات مختارةموفق نيربية

هل الفساد تراكم بدائي أم جريمة ضد الإنسانية؟

موفق نيربية *
تاج الدين عبدالرحيم ناشط وكاتب مشاغب معروف واسع التأثير من خلال حركته ونزعته الأفريقانية – ليس على طريقة العقيد القذافي- وقد توفي في حادث سيارة في العام الماضي. قال في إحدى مقالاته التي كانت تُنشر في صحفٍ ومجلات عدة في شكل متزامن:
«الحصانة هي التي جعلت الفساد مؤسساتياً في الكثير من الدول الأفريقية. وليس كافياً لوم النظام مجرداً من دون النظر في الواسطة البشرية. لقد ولّت تلك الأيام التي كنا نفسّر فيها الفساد بطريقة مرتجلة على أنه تراكم بدائي لرأس المال. ويجب أن نقبل بعد عقود من هذه البدائية، أن هذه الطبقة من المستغِلين ليست قابلة للنمو من دونها، أو تحويل ما نهبته إلى أيّ اتجاه ما خلا النهب نفسه. وبالفعل، ينبغي أن نعتبر موظفي الخدمة العامة وشركاءهم مرتكبي جرائم جماعية يقتلون الملايين من شعوبنا من خلال الخدمات العامة الفاشلة بسبب الفساد. والأموال العامة التي يجب أن تذهب إلى الدواء والطرق والمشافي والمدارس والأمن العام يتم «شفطها»، لتجعل من كلٍّ منا فريسة سهلة للموت المبكر، وتجعل مجتمعاتنا غير آمنة ولا ضامنة لأبنائها».
يبدو هذا الرأي متطرفاً قليلاً أو كثيراً، على الأقل لأنني كنت ألجأ بين الحين والآخر إلى فكرة «التراكم البدائي» ذاتها التي أكد عبدالرحيم على سخافتها. لكن الوضع ربما يدعو إلى المراجعة والتقليب قليلاً.
ببعض الاختصار، مفهوم تراكم رأس المال الأصلي أو المسبق أو الابتدائي أو البدائي – بحسب الترجمة أو إعادة الترجمة أحياناً – ظهر عند آدم سميث وطوّره جيمس ستيوارت وأوضحه كارل ماركس مع بعض الفروق بينهم في التعريف والخلفية. وقد بدأ في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، قبل الثورة الصناعية الحديثة، أو قبل ظهور الرأسمالية وطريقتها في الاستثمار والتحديث. عملية الإقلاع هذه كانت تحتاج إلى تمويل من نوعٍ وحجم مختلفين عما عرفه العالم حتى الآن.
أمكن تأمين ذلك التراكم البدائي من خلال مصادر متنوعة، من الاستعمار واعتصار المكامن الطبيعية، إلى مصادرة الأراضي من الأديرة أو الإقطاعيين القدامى، إلى نهب الذهب والفضة بعد اكتشافهما في أميركا الجنوبية، إلى استعباد الناس من أفريقيا لتأمين أعداد كبيرة من العاملين بأرخص السبل، إلى القرصنة.
في الوقت نفسه، كان هنالك «تراكم بدائي» للدولة الحديثة أيضاً، يرعى ويؤمن ويتداخل مع التراكم المذكــــور أعلاه. فالعنف «قابلة» تحولّ المجتمعات من «نمط إنتاج» إلى آخر كما قال ماركس، والعنف عملية تحتاج إلى القوة الأقوى بكثير من أية قوة أخرى في المجتمع المعني، أو تجاه المجتمعات الأخرى. هذه القـــوة هـــي الدولة، وتراكمها البدائي هـــو تراكم قوتها وعنفها المحتكر. يُقال إن الكابتن دريك، القـــرصان الشهير، كان ينسق عمله مع الملكة إليزابيث الأولى، وإنه نال لقب نبيل منها لخدمته بلاده بإخلاص.
كانت عملية متوحشة تتقدم فوق بحرٍ من الدماء وتتغذى بجوع الملايين وبؤسهم، لكنها مبررة عند الكثيرين بمقتضيات التقدم. وقد حصل ذلك بالفعل في أوروبا وأميركا الشمالية. تراكم بدائي ضروري، كما يُقال.
حدث مثل ذلك بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتمت استعارة المفهوم لتفسيره. قام بذلك نظرياً البروفيسور جيفري ساكس وشركاؤه في معهد هارفارد للتنمية الدولية، الذي قام بالتسويق للعلاج بالصدمة كما سماه، وفتح الباب لأكبر وأسرع عملية فساد في التاريخ، تم خلالها بيــــع اقتصــــاد الدولة العاجز القديم بأبخــــس الأسعار إلى نجوم جديدة، بإشــــراف إيغور غايدار، مستشار يلتسن السامي. وحتى تلك الأثمان الرخيصة، التــي لم تكن متوافرة اجتماعياً، تمّ تأمينها علـــــى طريقة العصـــــابات غالباً. وفي فترة ما مـــــن عملية التحول العاصف تلك، حين ظهر التذمّر والقلق من مسار العملية والكارثة الاجتماعية التي أنتجتها، قال بعض هؤلاء، إن الوقــــت ما زال مبكراً، وينبغي ترك الأمور لتنضج، ويتبلور التراكم البدائي الذي سيـــؤمن الانتقال إلى الرأسمالية والحداثة. كان ذلك الفساد الضاري محمياً أيضاً بعنف الدولة والعصابات معاً، بل كان أقوى من الدولة نسبياً، حتى استطاعت حكومة بوتين أن تعيد التوازن تدريجاً فيما بعد.
في الصين كان هنالك شيء مختلف أكثر هدوءاً، لكنه نفسه في الجوهر: فساد لتأمين التراكم البدائي بالائتلاف مع قوة الدولة وإمكانات العنف فيها. وفي منطقتنا كان الوضع مختلفاً أيضاً، لكنه – ربما – في الجوهر واحد.
نحن لدينا عوامل مساعدة تتكون أيضاً عبر تراكم «بدائي» لا يزال مستقراً ومستمراً، في حقل التاريخ والاجتماع من جهة، والأيديولوجيا والدين والقومية من جهة أخرى. فمفاهيم الغلبة والقهر، والمستبد العادل، والقبيلة والغنيمة، ونزعة «التجارة والمقايضة» الفطرية في الطبيعة البشرية كما تحدث عنها آدم سميث أو «حلال على الشاطر»، و «كل شيء من أجل المعركة»، وحجب قيمة العمل لمصلحة قيمٍ شكلية أخرى، وغير ذلك، كلها تساعد على تبرير الفساد الكبير والاكتفاء بملاحقة الفساد الصغير. لكن هذا موضوع آخر أكثر اتّساعاً، ويحتاج إلى معالجة لاحقة.
ابتدأ الفساد باكتساب أبعادٍ نوعية تشبـــه التراكم البدائي منذ ثلاثة أو أربعـــة عقود، من طريق العمولات المتصلة بالتنمية والنفط والحرب خصوصاً، وبغير ذلك أيضاً. ولم يكــن آنذاك محتاجاً إلى «التبييض» على ما أصبح عليه الأمر لاحقاً. وتكونت ثروات كبرى قادرة على التحــــول إلى الاستثمار الحديث، بل حدث بعض التحول فعلاً، وتأسست شركات كبرى قادرة على الدخول في الاقتصاد العالمي بقوانينه وأنظمته وحدوده. لكن ذلك لم يـــحدث بالطريــقــة والوتائر نفسها في الاقتصاد المحلي والإقليمي، واستمر معتمداً على الآليات نفسها التي قام عليها ذلك التراكم البدائي، بالعمولة والشراكة والتحالف مع قوة الدولة وأدوات عنفها.
فكما يحتاج التراكم البدائي ذاك إلـــــى تبييض يقوم على سيادة القانون وحكمه واستقلال القضاء والخضوع لمعايير التجارة الدولية، يحتاج التراكم البدائي للدولة بآليات وأدوات العنف إلى «تبييض» أيضاً من طريق تعزيز حياديتها واستقلالها النسبي، وإلى الإقرار بالحريات الأساسيــــة والمواطنة وسيادة الشعب. لكن ذلك بطيء بطءَ تاريخنا، مستقــــر استقرارَ فكرنا. ومثل هذه الأوضاع هو ما يعطي لقول تاج الدين عبدالرحيم – أعلاه – مشروعيته حول سخافة فكرة تفسير الفساد بالتراكم البدائي لرأس المال، ويعطي الحق باعتباره جريمة ضد الإنسانية. وقد قــــال المذكور أيضاً قبل وفاته بفترة إنه أصبح مقتنعاً أكثر بأن «المعركة ضد الفساد لا يمكن الانتصار فيها في قاعات المؤتمرات أو عبـــر لجان مكافحة الفساد أو حتى بقوانيــن أكثر. فهنالك قوانين كافيـــة في الكثير من البلدان، لو طُبقت فإن العديد من السياسيين وعائلاتهم وأصدقائهم، ورجال أعمال كبار ومهنيين كبار كالمشرّعين والمحامين والموظفين وقادة منظمات غير حكومية وشرطة وضباط أمن وقضاة وأئمة وكهنة ومطارنة وصحافيين وعمداء جامعات وغيرهم… سيذهبون إلى السجن».

* كاتب سوري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى