صفحات مختارةغياث نعيسة

في إشكالية مفهوم الدولة .. “المدنية الحديثة”

null
غياث نعيسة
“إننا لم نتوجه للناس بشكل عقائدي و بمبادئ جديدة، و كأننا نقول: هذه هي الحقيقة فاركعوا لها.  بل ما فعلناه هو أننا طورنا مبادئ جديدة عن العالم تستند على مبادئ العالم نفسه..”
كارل ماركس
فاقم الطور النيوليبرالي للرأسمالية في عصر العولمة، و مع ما رافقه من انهيار للاتحاد السوفيتي و الدول التي كانت تسمى اشتراكية وأفول تأثير اليسار على الصعيد العالمي، من الأزمة الفكرية لكل التيارات اليسارية بخلخلة برامجها و مرجعياتها النظرية، وتم ذلك مع ترويج لأطروحات ليبرالية و نيو ليبرالية عمت العالم، وشملت بالتأكيد منطقتنا العربية.
من بين أكثر المفاهيم التي لاقت رواجا نجد مفهوم “الدولة المدنية الحديثة” ، مفهوم موارب يستخدم ليس فقط لتحديد نقلة ديمقراطية ما فحسب بل أصبح يستخدم كأيقونة للدولة المنشودة التي يجب حشد كل الطاقات من اجل إقامتها. و لكن قراءة متأنية لكيفية تطبيقه من قبل دعاته في تحليل الوقائع و تحديد آليات العمل تؤكد عطبه وخواءه المعرفي وعدم صلاحيته في الإمساك الفعلي بالواقع و إمكانياته المتعددة أو في قدرته على المساهمة في تشكيل برامج أو آليات عمل ، إن هذا المفهوم مجرد فانتازيا لفظية.
إن انجرر أطراف من اليسار إلى تبني هذا المفهوم يزيد من تشوش اليسار الفكري و يعيق أية إمكانية لإعادة بناء جدية له، و يجعل منه أسيرا للأطروحات الليبرالية و ستزيد من عزلته .

إشكالية “الدولة” في الماركسية
من اجل فهم أفضل لإشكالية الدولة ، نرى من الضروري تقديم عرض مكثف للموقف الماركسي منها، قد يسمح بتحليل تعييناتها في مجتمعاتنا، وبالتالي قيام ممارسة فعلية مطابقة.
لم يكن تعريف “البيان الشيوعي” للدولة بوصفها” مجرد لجنة لإدارة المصالح المشتركة لعموم البرجوازية” سوى إشارة إلى عدد من الوظائف الأساسية للدولة.  لأن أهم ما يميز ماركس هو قدرته على الفهم العميق لمقولات الاقتصاد السياسي  كالقيمة و رأس المال و الريع و الدولة.. الخ وان يبرهن على أن هذه المقولات تعبر عن علاقات اجتماعية محددة تاريخيا،  حيث ركز ماركس على أن “الإنتاج” يمكن فهمه بشكل اصح إذا تم النظر إليه باعتباره سيرورة اجتماعية يقوم البشر خلالها بإنتاج و إعادة إنتاج عالمهم الخاص. فالإنتاج هو ابعد ما يكون عن كونه مجرد علاقة “تقنية” تربط البشر بالطبيعة ، بل هو أيضا و بشكل أساسي نشاط اجتماعي يقوم البشر من خلاله بصنع تاريخهم المحدد و مجتمعهم المحدد.  فالعمال لا ينتجون بضائع (و أشياء مفيدة) فقط بل أيضا شكلاً متميزاً لمجتمع يقوم على علاقات إنتاج مستلبة، فهم بخلقهم فائض قيمة، فإن قوة عملهم تتلبس شكلا يقومون من خلاله بإعادة إنتاج أرباب عملهم و إنتاج وسائل يتم من خلالها استمرار إخضاعهم و استغلالهم.
لذلك ، من الضروري أن نفهم النظام الاجتماعي بمجمله (علاقات العائلة و الدولة والعلم والتعليم…الخ) باعتباره عناصر منتجة و يعاد إنتاجها بشكل دائم من خلال النشاط الفعلي للأفراد ضمن علاقات اجتماعية تربط فيما بينهم. فليس هذا القسم من المجتمع  أو ذاك هو من يشكل المجتمع بينما يقف القسم الثاني سلبيا تماما ، بل أن التاريخ الإنساني هو تاريخ نشاط كل أفراده الذين يشكلونه.
و قد ميز ماركس بين العلاقة الوثيقة  التي تربط بين الطبقات الاجتماعية و الدولة في العصور الوسطى ، و بين حالة الانفصال بين الدولة و المجتمع المدني في العصور الحديثة، مؤكداً أن السياسات الاشتراكية الثورية إنما تستند على فهم علمي للتاريخ ، فإمكانية قيام الاشتراكية ، كمجتمع يقوم فيه بشكل واع غالبية السكان بتشكيل مجتمعهم الخاص وفق خطة مقرة ديمقراطيا، إنما تعتمد على تحليل عميق للمجتمعات الرأسمالية و الطبقية الأخرى. و مع أن الثورة الاشتراكية تشكل قطيعة راديكالية مع الماضي، إلا أنها لا تضيف للتاريخ مبدأ جديدا تماما هو النشاط الذاتي للبشر ، لأنه بدون هذا النشاط الذاتي للبشر لا يمكن فهم كل التاريخ السابق للبشرية.
انطلاقا من هذا الفهم، فان الشكل المعين الذي يسم العلاقات الاجتماعية هو الذي يحدد “أنماط الإنتاج ” المتعددة في كل المجتمعات الطبقية ومنها المجتمع الرأسمالي. بالاستناد على نقطة الارتكاز هذه ، فان مفتاح فهم المجتمع القائم هو معرفة الشكل الذي يأخذه الصراع النشط بين الطبقات، ويصبح فهم العلاقات الاجتماعية  وأنماط النشاط  ما بين الطبقات أساسي في تكوين وعي مطابق لكيفية المحافظة على الوضع القائم ، من جهة. أو كيفية تغييره من خلال ممارسة ثورية ، من جهة أخرى. فقد نظر ماركس إلى “الطبقة” بوصفها مفهوم نظري و ليست مقولة وصفية لشريحة من البشر ، و كان يقصد من خلالها سبر و كشف الوقائع الكامنة للمجتمع وليس وصف الأشياء كما تبدو. كما أكد بأن انتماء شخص ما إلى طبقة إنما يتحدد بالموقع الذي يقفه في علاقات الإنتاج، و هذا يعني النظر إلى “الطبقة” كعلاقة اجتماعية. المسألة وفق رأي الكاتب الاشتراكي اليكس كالينيكوس “ليست في ما هو العمل الذي تقوم فيه، بل في ما هو موقعك من العلاقة التناحرية مع الاستغلال الذي يشكل قلب العالم الرأسمالي”.
و مع أن نمط الإنتاج الرأسمالي  ، الذي يتميز بالمنافسة والاستغلال و بالعلاقات الاجتماعية السائدة إنما يحدد بنفسه حالة القانون و السياسات والعلم والتعليم  و السياسات الاقتصادية ..الخ، إلا انه لا يفرض على “الدولة” سياسات معينة في كل تفاصيلها، فالدولة الرأسمالية في كل مجتمع تحافظ على بعض خصوصياتها. و بالرغم من ذلك فان الرأسمالية تفرض تخوما لسياسات الدولة و لنشاط الفاعلين الاجتماعيين، مهما كانت اختلافاتهم، لا يمكن تجاوزها إلا عبر قطيعة جذرية تغير من طبيعتها.
في عصرنا حيث يسود نظام رأسمالي عالمي فان كل دول العالم رأسمالية. و هي رأسمالية مهما كان شكل سياساتها” كانت تلك طغمة عسكرية، سلطة لاهوتية ، أو ديمقراطية برلمانية، أو دولة تمييز عنصري ،الخ. فمثلما أن رأس المال ليس شيئا ما منظوراً بل هو علاقة اجتماعية كذلك ترى الماركسية أن الفكرة الجوهرية في فهم الدولة هي أن الأخيرة عبارة عن علاقة اجتماعية ، و هذا بعكس تلك الأطروحات (الستالينية والسوفياتية في أوساط اليسار) التي ترفع الدولة عن المجتمع و تنظر إليها باعتبارها خارج العلاقات الاجتماعية والسياسية ، بينما الدولة هي ، كما يوضح الكاتب الاشتراكي بوب جيسوب ، منخرطة مركزيا في تشكيل و إعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية.  فالقول بان الدولة هي علاقة اجتماعية يعني أنها عرضة للتغيير و التطور ، مثلها مثل أي علاقة اجتماعية أخرى، وهذا ما يتيح لنا إمكانية فهم تطورها التاريخي و أشكالها و وظائفها، ما يوفر إمكانية وضع استراتيجيات مطابقة لتغييرها.
لقد ساد أوساط اليسار لغاية السبعينات من القرن الماضي فهم ستاليني (وسوفيتي) للدولة أخرجها عن العلاقات الاجتماعية، فأصبحنا نسمع حينئذ بطريق التطور اللارأسمالي و البعض وجد في انقلابات عسكرية مثل انقلاب منغيستو هيلاماريم في اثيوبيا (1977)  دولة”ثورية” الخ، ناهيك عن الادعاء بتحليل “طبقي” سخيف لرأسمالية هذه الدولة أو تلك من خلال كشف أسماء عدد من الأفراد “الرأسماليين” المؤثرين فيها، و هو تناول للدولة ما يزال مستخدماً من قبل بعض اليساريين و الليبراليين، فنقرأ بعض التحليلات التي تذكر اسم احد الأغنياء وتبرز نسيه وقرابته لأحد مسؤولي الدولة للوصول إلى دليل على أن الدولة مجرد “مزرعة” عائلية أو “فئوية” وكأن إزاحة هذا الحاكم أو ذاك مع قريبه البرجوازي وإحلال غيرهما مكانهما سيغير من طبيعة الدولة القائمة. للأسف، إن هكذا نوع من التحليل السطحي و المبتذل للدولة شائع في أيامنا.
في مواجهة هذا النوع من فهم الدولة المتأثر بالستالينية و”ماركسية الدولة السوفيتيه”، بزغ في السبعينات من القرن الماضي مفهوم “السلطة غير المشخصنة” (أحد أبرز رموزها لويس ألتوسير) كرد فعل مباشر على التفكير الستاليني السائد آنذاك.  لكن هذا المفهوم عن “السلطة غير المشخصنة” حمل معه إشكالياته أيضا، لأنه بالغ من استقلالية وظيفة الدولة عن العلاقات الطبقية السائدة. و لأنه أهمل أن الدولة الفعلية (القائمة) يسيطر عليها أشخاص حقيقيون (وليسوا أشباحاً) يمارسون عنفاً واسعاً في ظروف تاريخية محددة. و أغنت هذا الحوارمساهمات نيكوس بولنتزاس الذي طرح مفهوم أن الدولة “هي جهازي القمع والايديولوجيا”  و شدد بولنتزاس على أن الدولة “هي عامل التماسك الاجتماعي الكلي، فالدولة بجهازي القمع و الايدولوجيا تمسك بمجمل النظام الاجتماعي ككل”.
لكن تحليل بولنتزاس للجهاز الايديولوجي( في مؤلفيه السلطة السياسية والطبقات الاجتماعية (1973) ، و الفاشية والدكتاتورية (1974) )، و أيضا موقف رالف ميليباند المشابه له في كتاب الأخير الدولة في المجتمع الرأسمالي ( 1969)، انه جهاز متجانس و بلا تناقضات داخلية فيه، وهذا يتنافى مع حقيقة أن الأيدولوجيا هي أفكار صيغت و يعاد صياغتها في سيرورة الصراع بين الطبقات. إلا أن تحليل كلا من ميليباند و بولنتزاس قد افتقر لمقاربة أن الصراع الطبقي المتجذر في علاقات الإنتاج الرأسمالية هو شرط منظم أو مفكك للعلاقات الاجتماعية في المجتمع الرأسمالي.
يقدم بوب جيسوب في كتابه (سلطة الدولة 2008) تعريفاً للدولة بكونها ” ليست سوى مركب(مجمع) مؤسساتي من بين مركبات أخرى ضمن التشكيلة الاجتماعية”. ولكنه يتبنى تعريف بولنتزاس لها حين يشير إلى أن الدولة لها سلطات خاصة لكونها ذلك المركب الذي يملك وحده” المسؤولية الكلية في الحفاظ على تلاحم التشكيلة الاجتماعية”.
في المقابل يرفض جيسوب كلا من النظريتين الماركسيتين الشائعتين حاليا حول الدولة. الأولى هي”البنيوية” التي تستند على منطق رأس المال ، أي أنها ترى أن الدولة تساند بشكل آلي مصالح راس المال و تقوي منطق أحادي لتراكم رأس المال و لإعادة الإنتاج الرأسمالي في كل مرحلة من مراحل تطوره. وثانيا، يرفض جيسوب  في الوقت نفسه النظرية الأخرى التي يمكن أن نسميها “الطبقية-النظرية”، لأنها ترى الدولة مجرد نتيجة لميزان القوى الطبقي الراهن بشكل مجرد واختزالي، و لا تستند على أي تحليل ملموس.
يطرح جيسوب مقاربة بديلة لهما تقوم على تركيب من عناصر من البنيوية مع الإقرار بأهمية نشاط و نوايا الفاعلين الاجتماعيين. فالضغوط البنيوية حقيقية و لكنها ليست مطلقة ، في الوقت نفسه ، طالما أن الدولة ليست بنية متجانسة فإنها استراتيجياً انتقائية بمعنى تشجيعها لاستراتيجيات معينة من بين كل تلك ” الباحثة عن السيطرة أو مقاومة إعادة إنتاجها آو تشكيلها”.
في عصر العولمة ، لم تفقد الدولة من قوتها، رغم العديد من الادعاءات بالعكس، ولكن تزايد ارتباط الدول باليات العولمة، مثل الارتباط بالبنك الدولي و صندوق النقد الدولي و المنظمة العالمية للتجارة، و أدى هذا بها إلى استبطان (أي جعله داخليا)مصالح رأس المال الخارجي ،من جهة . والى تشجيع و دعم مصالح رأس المال المحلي في الخارج، من جهة أخرى. في ظل الاقتصاد العابر للقوميات ما يزال إعادة الإنتاج البرجوازي متمحورا حول الدولة-الأمة.
معضلة مفهوم “الدولة المدنية الحديثة”
يتفوق مفهوم الدولة الحديثة على غيره من المفاهيم بالإشكاليات العديدة التي يطرحها، فهو مفهوم يتلبسه غموض كثيف يجعل من محاولة الإمساك به أمراً صعباً مهما كانت أداة التحليل المستخدمة، أكانت من خلال العلوم الاجتماعية و السياسية السائدة أم كانت النظرية الماركسية نفسها، و تطبيقاته في التحليل الملموس للوقائع يتراوح من الشيء إلى نقيضه. و لعل ما يجعل ضروريا تناول هذا المفهوم هو أن دور         ” الدولة” المركزي في المجتمع يقع في صميم معظم برامج القوى السياسية في منطقتنا، و لأن تبني بعض قوى اليسار له يضعف من قدرتها على الفهم و النشاط المستقل والفعال لها.
لكن الملفت للنظر هو أن تبني القوى السياسية  لمفهوم “الدولة المدنية الحديثة ” كمخرج لا جدال فيه من الأزمات المتعددة التي تنهش مجتمعاتنا يأخذ أشكالا متفاوتة لديها وبمضامين مختلفة و متناقضة، ما يخلق ضبابية سياسية وفكرية أكثر مما يقدم توضيحاً لمفهوم الدولة، و ما يتبع ذلك من تشوش سياسي و برنامجي و عملي للقوى التي تطرحه نفسها.
من المتفق عليه في كتابات المثقفين العرب هو أن مفهوم الدولة المدنية الحديثة يتضمن بشكل أساسي دولة تقوم على الانتخابات “الحرة” و على فصل السلطات الثلاث مع تعددية سياسية و حزبية. و هو ما يعني بكلمات أخرى أبسط، و أقل زخرفة و أكثر دقة إنها الدمقرطة، أو التحول الديمقراطي. وبذلك تكون سيرورة تقوم على نتائج و واقع الصراع الاجتماعي، وليست أمرا مرهونا فقط برغبة دوائر الحكم.
و الحال، لا يمكن أن يشمل هذا المفهوم و ترسيمه أنموذجاً واحداً لأن الدمقرطة هي في الأصل عملية اجتماعية تتفاوت درجاتها و عمقها- بتراكم مكاسب على صعيد الحريات بفضل النضالات الاجتماعية- وفق شروط محددة (اجتماعية و اقتصادية و سياسية) في كل بلد و مجتمع. لإبراز هذا الالتباس في كتابات بعض المثقفين في بلدان الشرق العربي نجد أن بعضهم يرى في الممارسة السياسية لحكومات مصر أو المغرب، مثلا، نموذجا متطورا للممارسة الديمقراطية، يا حبذا لو تمتعوا بمثيلتها ! بينما يجد غالبية مثقفي و مواطني هاتين البلدين أي درك من السوء على صعيدي الحريات و الحياة اليومية، تعانيه غالبية شعوبهما.
و لأن أصحاب “الدولة المدنية الحديثة” يراهنون على تغيير فوقي و نخبوي  في معاداتهم للسلطات القائمة و استبدادها، فإنهم يقومون ببساطة إما بنزع صفة “المدنية” و “الحديثة” عن الأخيرة، بينما يؤكد أي تحليل عقلاني على أن “الدولة” في أي من بلداننا الأكثر تخلفا هي المؤسسة الأكثر “تطوراً” تقنياً.  لأن الاستبداد ليس سمة لغياب التحديث- بمعناه التقني- فدولة مثل الصين نموذج على ذلك مثلها مثل غالبية بلدان منطقتنا. أو يرجون منها تلطيفا لاستبدادها، أو الاثنين معا و هذا رائج في عديد من الكتابات.
للدعوة إلى دولة “حديثة”، يلجأ فكر دعاتها في المنطقة العربية إلى ما يشبه نوع من “المكر” اللفظي و الإسقاط التاريخي القسري أكثر منه تحليلاً للواقع الفعلي و التطور التاريخي وذلك من خلال النظر للدولة القائمة باعتبارها تعود إلى الماضي و عصر غائب. وقد وفرت كتابات عبد الله العروي مصدرا هاما في ذلك، ولاسيما مقولته حول الدولة السلطانية التي تبناها رهط من المثقفين العرب إذ يؤكد العروي أنه “منذ قرون والدولة في البلاد العربية الإسلامية سلطانية” ويتابع بالقول” أن الدولة يحكمها سلطان يقول إنه “خليفة الله” في أرضه ..أي أن لا عدل في الأرض إلا تحت رايته وان “الله” أورثه الأرض ومن عليها” ، إنها مقاربة لا تاريخية، مثلها مثل مقولة “الدولة المملوكية ” التي يتبناها الحبيب الجنماني.
بخلاف الاستناد إلى التاريخ الإسلامي، فإن مقولة “الدولة السلطانية” تبرر لأصحابها القول بأن الدولة الحالية قامت بتفكيك المجتمع  إلى”جماعات أهلية و جهوية ” أي حالة ما قبل العصر الحديث، مما يشرعن لهم تقليص ـ إن لم يكن إلغاء ـ أهمية و دور العلاقات الاجتماعية السائدة في مجتمع معين في تحديد طبيعة الدولة، ما يجعل المهمة الأساسية للعمل المعارض و المثقفين، من وجهة نظرهم،  تنصب في محاولة إنتاج هوية وطنية، و اختزال مفهوم “الدولة المدنية الحديثة” السابق الذكر، بما له من إشكاليات، إلى دعوة من نوع ” ربما تكون السياسة الصحيحة هي تلك التي تجمع بين ليبرالية سياسية و بين تدخلية اجتماعية” ، أو الدعوة إلى ما يسمى ب”الديمقراطية التوافقية” على نمط العراق و لبنان –أي الطائفية-  لأنها ” تسبق الديمقراطية التمثيلية….وتولد من شروط يطبعها الانقسام المجتمعي و التباينات الاثنية و العرقية والهوية وضعف الوحدة الوطنية” وفق رضوان زيادة، ليبدو مفهوم “الدولة المدنية الحديثة ” ، في نهاية المطاف، لدى اغلب أصحابه أنفسهم كحاوية بلا محتوى ديمقراطي محدد  و واضح.
ما نريد التشديد عليه أن مفهوم “الدولة المدنية الحديثة” ،عندما يتوجب تعريف تعييناته الواقعية، يتحول في كتابات دعاته إلى وعاء لاطروحات “ديمقراطية” قاصرة و اقل بكثير من كلمات المفهوم نفسه. وغالبا ما نجد هذه المفارقة واضحة في نصوص المنادين بالمفهوم أنف الذكر. و المعضلة في هذا التعويم انه يؤدي إلى تغييب التعامل مع الدينامية الديمقراطية باعتبارها علاقة اجتماعية تشكلها-أو تفككها- الصراعات الاجتماعية الفعلية،أي نضالات الجماهير من اجل الحريات العامة، بانتصاراتها و هزائمها، وليس الجمال أو التزيين اللفظي لهذا المفهوم أو ذاك.
و إننا لنؤكد مجددا أن احد شروط النجاح في إعادة بناء اليسار الاشتراكي الراديكالي و اليسار الواسع هو الحاجة الماسة إلى الوضوح الفكري و النظري و السياسي المستقل ،بوقوف اليسار على أرضية مناهضة الرأسمالية و معاداة الإمبريالية  مع الالتزام الدائم بالمصالح العامة لجماهير العمال و المأجورين و كافة المضطهدين و الانخراط في نضالاتها.
اب/اغسطس 2010
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى