أزمة النقاب في سوريةمعتز حيسو

العلمانية في سياق الممارسة

null
معتز حيسو
إن المتابع لتداعيات قرار وزير التربية بخصوص تحويل المدرسات المنقبات إلى أعمال إدارية، ويقدر عددهم بـ 1200 مدرّسة، وقرار وزير التعليم العالي بمنع المنقبات من الدراسة في الجامعات السورية، يتلمس مدى تضارب وتناقض الآراء بخصوص كلا القرارين، ويتلمس بذات الوقت حساسية هكذا إجراءات، ومدى تأثيرها في القاع الاجتماعي الذي ما زال يرتبط وعيه بشكل كبير بموروث ثقافي ديني، ورغم أن ظاهرة النقاب لا تستند لمرجعية شرعية،لكنها تعبّر عن تنامي التيار السلفي. وبات واضحاً بأن المجتمع السوري يضم نموذجين اجتماعيين متناقضين( فئات اجتماعية تتمسك برموزها الدينية مستندة على منهجية سلفية متشددة، وفئات اجتماعية أخرى تبالغ في السفور لدرجة التحلل) لتغيب ملامح الاعتدال نسبياً، إضافة إلى تشكّل أشكال ثقافية سطحية وهامشية، شكلانية، مظاهريه، ابتذالية… لا يربطها أي رابط بمشكلات وتناقضات الواقع. إن إصدار قرارات بهذا الشكل والمستوى، وتحديداً في ظل تنامي المد السلفي ينطوي على جرأة يجب تثمينها، دون أن يعني هذا عدم وجود بعض الملاحظات. والجانب الإيجابي الآخر الذي ينطوي عليهما القرارين أنهما ساهما في تحريك الركود المسيطر في بنية الوعي الثقافي السائد بالمستويين الإيجابي والسلبي، مما يعني أنهما سيتركان آثاراً وتداعيات على المستويين الثقافي والاجتماعي، والأهم أنهما قد يساهمان في التجاوز الإيجابي والسلس لظاهرة النقاب، لكن ومن الممكن أن يؤدي القرارين المذكورين إلى تزايد شدة الضغوط على المرأة، يمكن أن تتجلى بفقدانها لعملها أو لدرستها الجامعية مما يجعلها رهينة للمنزل والتخلف، وشتان بين امرأة عاملة متعلمة وأخرى عاطلة عن العمل وجاهلة. لكن يجب الانتباه إلى إمكانية تزايد حدة التشدد والتعصب عند شرائح اجتماعية ترى في النقاب ممارسة لحريتها الشخصية، ويتقاطع هذا الرأي مع بعض دعاة حقوق الإنسان.
وقد ساهم القرارين في إثارة حوارات ثقافية على درجة من الأهمية، شارك فيها كثيراً من المثقفين والناشطين المدنيين /العلمانيين ،وهذا بحد ذاته، رغم تباين آراء المشاركين، يدلل على الحيوية الكامنة في أوساط الشرائح الثقافية تحديداً، وباقي الشرائح الاجتماعية بشكل عام، وتبيّن أن بحث ونقاش كلا القرارين تم من منظور جزئي، أي لم يتم تناولهما بكونهما تعبيراً عن إشكالية أعم وأعمق، يرتبط أحد مستوياتها بكيفية فهم الجهات الرسمية لمفهوم العلمانية الكامن وراء تجلياته المتباينة والمتناقضة أحياناً، ويتشكل هذا التناقض من زاوية عدم تشكّل العلمانية بوصفها منهج عام يشمل كافة المستويات الاجتماعية، إنطلاقاً من أشكال التربية في الأسرة، مروراً بالتعليم بمراحله المختلفة، وانتهاءً بالقضاء والدستور والقوانين التشريعية / الأحوال الشخصية والحقوق المدنية والسياسية…. /.
بداهة، تعبّر العلمانية عن نمط وعي يتأسس على التفكير والتحليل العلمي الذي يشمل كافة مستويات وأشكال البنى الاجتماعية على قاعدة فصل الدين عن مؤسسات الدولة القضائية والتعليمية والتشريعية والسياسية..أي أنها تعبّر عن رؤية شمولية تطال كافة أشكال ومستويات البنية الاجتماعية، مكوّنة بذلك نمطاً عاماً وشاملاً لتّفكير والممارسة.
إن ظاهرة النقاب تحمل دلالة ثقافية أيديولوجية أحادية منغلقة ورافضة للآخر، وبذات اللحظة تعبّر عن ثقافة ذكورية مهيمنة تعمل على إخضاع المرأة و حجبها عن محيطها الاجتماعي، ليس بكونها جسداً يجب إخفاء معالمه وتعبيراته فقط، بل بكونها دلالة للتبعة والخضوع وفقدان الأهلية العقلية، حتى لو كانت بدرجة نسبية. و رغم أن النقاب يخفي معالم الوجه والجسد، لكنه يحمل دلالة أحادية، بحيث تقدَّم المرأة ببعدها وعمقها الجسدي الذي يجب إخفاء معالمه، كونه مثيراً لشّهوات والغرائز، وفي هذا المستوى أيضاً يتم تبخيس الرجل والحط من عقلانيته نتيجةً لرؤيته من جانب أحادي، أي من منظور جنسي غرائزي.. بمعنى أن الرجل لا يرى المرأة إلا من المنظور الجنسي، وليس بكونها إنسانة تمتلك قدرات عقلية تؤهلها لتّعامل مع وسطها الاجتماعي. وبقدر ما يحمله النقاب من دلالة أيديولوجية رافضة للآخر بكونها تستند على ثقافة سلفية أحادية، فإنه يحمل دلالة جنسية تبخيسية للرجل وللمرأة على حد سواء. لهذا فإن النقاب يمثل تبخيساً وحطاً من القدرات وإلامكانيات العقلية لكلا الجنسين. ويتم التعامل معهما من منظور غرائزي مبتذل، لا يرقى إلى أدنى المستويات الإنسانية التي من شروطها الأوّلية الحرية والمساواة والتكافؤ والمسؤولية المرتبطة وجودها بمستوى الحرية الممنوحة للإنسان. ونعلم بأن دلالات الجسد لا تنحصر بالجنس، بل يمثل مرآة للذات أمام الآخرين، أي أن الجسد وتحديداً الوجه يعبّر عن تجليات الإنسان الداخلية ويساهم من خلال تعابيره وإيماءاته ودلالاته أشكالاً من المكاشفة والمصارحة نحتاجها في حياتنا اليومية وتحديداً في العملية التربوية. يجب أن ننوه بأن أشكال اللباس تعبّر عن مستوى ونمط وشكل ثقافي.من جانب آخر فإن أشكال اللباس ذات الرمزية الدينية، تبقى ضمن حيّز الحريات الشخصية بقدر انسجامها مع المحيط الاجتماعي العام، و يبقى اللباس ضمن إطار الحريات الشخصية طالما لا تنعكس آثاره وتجلياته سلبياً على الآخرين و على آليات سير العمل، لذلك يفترض ألا تحمل الملابس في أماكن العمل تحديداً والأماكن العامة دلالات أيديولوجية دينية متشددة، أو ملامح خلاعية لا تتناسب مع المناخ الاجتماعي ويرفضها الوعي والحس والحياء الاجتماعي العام. وتخرج أشكال اللباس عن كونها تعبيراً عن الحريات الشخصية والعامة عندما تكون مقدمات لسلفية ناهضة تربط الدين بالسياسة. في هذا السياق نرى أنه في بعض اللحظات يمكن تبرير تدخل الجهات المختصة عندما ترى في تنامي ظاهرة محددة إمكانية التأثير السلبي على المناخ الاجتماعي العام، أو أنها يمكن أن تكون مقدمات لأشكال قد تؤسس لتناقضات وإشكاليات اجتماعية يفترض تجاوزها. لكن في معظم الأحوال فإن هكذا أشكال من التدخل لا تؤدي لنتائج إيجابية إذا بقيت ضمن سياق الأشكال الأوامرية. مما يعني التركيز على إشاعة الثقافة العلمانية والتنويرية والإشتغال على الحد من الظواهر السلفية أياً كان منبعها الثقافي من خلال إتاحة مناخ ديمقراطي يؤسس للتعايش السلمي بين كافة المكونات الاجتماعية، بعيداً عن مفاهيم التناقض الاجتماعي القائم على فكرة الصراع.
لذلك يُفترض أن نرى ظاهرة النقاب من أبعاد وزوايا متعددة ومختلفة، وعدم حصرها بجانب أو مستوى أحادي. إذ أنها يمكن أن تشكل أحد عوامل الضغط والاضطهاد الموجه للمرأة، لذلك فإن هكذا حالة تقتضي العمل على تحرير المرأة من سلطة الرجل المرتكزة إلى وعي سياسي وثقافي وديني ذكوري يعمل على تكريس هيمنة الرجل على المرأة. ونعلم بأن تحرير المرأة يرتبط بتحرير المجتمع من كافة الأشكال الثقافية التي تربط اللحظة الراهنة بأشكال ثقافية سلفية. بمعنى آخر يجب تحرير الإنسان وليس المرأة فقط من سلطة السماء( أيديولوجيا الميتافيزيق) والماضي الرابض على تفاصيل الحاضر، ومن سلطة الثقافة الاستبدادية الطاردة لكافة المفاهيم الإنسانية وللإنسان بحد ذاته.
أما فيما يخص السياق الذي تتجلى من خلاله بعض السياسات الرسمية ذات الشكل العلماني، نرى أنه من الضروري التنويه بأن تجليات الفهم العلماني وانعكاسه على المجتمع، يجب أن تكون شاملة ومتكاملة على كافة المستويات الاجتماعية (السياسية القضائية التشريعية التعليمية ….) وهذا ما تفتقد إليه السياسات الرسمية، إضافة لكون هكذا قرارات تبقى في الغالب ضبابية، وأسباب إصدارها ملتبسة، لذلك فإن مفتاح تحليلها ينحصر في المستوى السياسي القادر على تحليل بنية وتركيب السلطة السياسية في سياقها الحركي، إذ :كيف يمكننا أن نحلل سياسيات غض النظر عن المد الديني السلفي وتجلياته ( القبيسيات، المعاهد الشرعية ومراكز تحفيظ القرآن، الحلقات والمحاضرات والدروس الدينية التي تقام في أماكن مختلفة …. ) ؟! ضرورة الانتباه إلى الآليات التي من خلالها يتم تأهيل الطفل( أو التأثير على تفكيره وتحديد آلياته) في مرحلة التعليم الأساسي على أساس وعي غيبي يقوم على إرهاب الطفل من الله ويوم الحساب وعذاب جهنم والقبر .. من خلال توظيف بعض مدرسو مادة التربية الدينية أو مدرسو مواد أخرى .. ؟! كيف ندرك ونحلل صدور نسختين من قانون الأحوال الشخصية معظم مواده التشريعية تستند إلى فقهاء سلفيين أصوليين يحاولون النكوص بالمجتمع السوري إلى أشد مراحله تخلفاً وانحطاطاً( رفض الزواج المدني،بطلان الزواج المسلم من غير المسلمة، التأكيد على تبعية المرأة وعدم مساواتها بالرجل،انعدام النفقة عند الخلاف في الدين …)و أيضاً كيف يمكننا أن نحلل محاولات الربط بين التشريع الإسلامي،والترويج العلماني لشكل الدولة؟! كيف نحلل تنامي ظاهرة الجمعيات الخيرية ذات الطابع الديني، ونعلم مدى تأثيرها في أشكال الوعي الاجتماعي، وهل يمكننا القول بأنها تمثل تجلياً لتراجع دور الدولة الرعائي… . والأكثر غرابة هو: إذا كانت بعض الجهات الرسمية جادة في تكريس الشكل العلماني للدولة والمجتمع السوري، لماذا يتم منع التجمعات والمؤتمرات والندوات ذات الطابع العلماني،ولماذا يتم التشديد على التجمعات والأطراف السياسية ذات الانتماءات الثقافية العلمانية ؟؟!!ألا يشكل هذا تناقضاً بيّناً؟؟!! أم أنه تعبير موضوعي لبنية سياسية تقوم على التناقض وتوظيف التناقض لغايات سياسية ..؟ إضافة إلى أن هذا التباين والتناقض يمكن أن يدلّل على تناقض مصالح وميول الأطراف المشاركة في صنع القرار. لهذا نفترض أن تكون قراءة وتحليل القرارين المتعلقين بالنقاب .. شاملة وعامة وفي سياق قراءة البنية السياسية السائدة.
إضافة إلى القرارين المذكورين، فقد أصدرت وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل، قراراً يسمح للمرأة بالعمل الليلي في أماكن تثير الاستغراب: الفنادق المحال التجارية صالات المسارح/ النوادي الليلية / هل هذا تعبيراً عن تحرير المرأة ومساواتها بالرجل أم أنه يحمل دلالات مختلفة. إن التجليات والدوافع الكامنة لمثل هذه القرارات تعبّر عن الخلافات الكامنة بين الأطراف السياسية النافذة، و حتى لو تجلت بكونها تحمل تجليات علمانية، إلا أنها مبتورة عن سياقها العام والشامل، أي أنها تجليات مجتزئة لا تعبّر عن رؤية سياسية عامة من منظور متكامل ومدروس لتحديد آليات وأشكال تطور المجتمع السوري، بل تدعه عرضة للتنابذ والتناقض المؤجل. ولهذا يجب التركيز على ضرورة التأكيد على اعتماد منظور علماني عام وشامل لكافة تفاصيل آليات وأشكال التطور الاجتماعي، ومن خلاله يتم تحديد آليات تطور المجتمع، وحمايته من تشدد سلفي يمكن أن يقود المجتمع لمزيد من التناقض والصراع. لذلك نرى ضرورة التأسيس لمناخ ديمقراطي مفتوح لكافة التشكيلات الاجتماعية العلمانية والدينية المعتدلة، لكونها تشكل عوامل استقرار المجتمع السوري، وتضمن ارتقائه وتطوره السلمي.
وأخيراً نؤكد بأن أهمية الحوار الدائر حول إشكالية رفض النقاب أو تبريره تكمن بكونه يعبّر عن التنوع الاجتماعي والثقافي. وهذا الحوار يشكل أحد التجليات الثقافية الصحيحة والصحية، وكم سيكون رائعاً لو أن لغة الحوار هي السائدة اجتماعياً.حينئذٍ يكون الاستقرار الاجتماعي مؤسس على التفاعل والتعايش الديمقراطي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى