صفحات ثقافية

الأعمال الشعرية للقمان ديركي عن دار نينوى: الصعلوك يلتقط الشعر من الأرصفة ويهب الحياة نكهة مغايرة

null
راسم المدهون
منذ مطلع التسعينات، شكلت تجربة الشاعر السوري لقمان ديركي فرادة وخصوصية لعل أبرز مكوناتهما، صدور شعره عن حدقة تتجول في المرئيات، الشوارع والمقاهي والبيوت الدمشقية العتيقة التي صارت مطاعم وحانات، بل وفي العلاقات العاطفية الخاطفة تلك التي تنشأ وتنتهي على قارعة الحياة وفي صخب فوضاها التي يتقنها ديركي، بل يطيب له أن ينغمس فيها بصفته أحد أبرز أبنائها الصعاليك. لقمان ديركي، الذي صدرت أعماله الشعرية أخيرا عن دار “نينوى”، على خلاف أكثر مجايليه لا يذهب إلى الشعر في احتفالية من أي نوع. شعره في حالة كهذه لا تطوّق قصائده ربطات العنق، بل فضاء الفوضى، في المعنى الذي يتعمد الخروج على المألوفين الشعري والنقدي لأسباب كثيرة أهمها مألوفيتها التي لا تستجيب فوضى الحرية بأحلامها وهواجسها وجسارتها على الرؤية المغايرة للواقع، إلى درجة تجعل من لقمان ديركي شاعر اللحظة الممتدة في الراهن والمستقبل، اللحظة التي تقدر أن تكون حياة فيها كل ما يعصف بالحياة من ألم ومن قسوة تهيب بالشعر أن يكون صوتها ونشيدها الخافت.
في هذا المعنى وفي معان عدة غيره، أقبل ديركي على شمّ الشعر من هواء الطرق الضيقة والمزدحمة، هو الآتي إلى المدن الكبرى من قريته الصغيرة قرب القامشلي، حيث حكايات لا تنتهي لعوالم الأكراد وضياعهم الممهور بخاتم الدول الكبرى والإرادات الطاغية. عالم ينغلق على نفسه إلى حدود التقوقع، ويذهب إلى فضاءات الدنيا كأنه قبائل الغجر، من دون أن ينسى في تقلّبه العاصف ذاك أن يقدم لنا شعراء يحترفون صوغ المعنى بلغة جميلة منهم سليم بركات، شيركو ب ك سي، ثم بعد ذلك طه خليل ولقمان ديركي.
إطلالة لقمان ديركي الشعرية كانت من خلال قصائد متفرقة نشرها في بعض الصحف والمجلات. كان ذلك مطلع التسعينات. قصائد تشي منذ البداية بتحديق مغاير، لافت في بساطته التي تتعمد رؤية الغرابة في المألوف ورؤية الألفة في ما يراه الآخرون غريبا. مجموعة لقمان الأولى، “ضيوف يثيرون الغبار”، فاجأت الشعراء والنقاد خصوصا وقد قدّم لها مثقف مرموق هو محمد جمال باروت وأثارت في تلك الأيام غبارا نقديا عاصفا ذهب بعضه إلى حدود اتهامه بتخريب الشعر السوري، وهي تهمة لا أظن أن لقمان ينفيها وإن بمعنى آخر يختلف عن ذلك الذي قصده رافضوه. انه الخراب الجميل الذي يعصف بالعادات والتقاليد الشعرية، ويذهب إلى طلاقة الشعر وفوضاه التي تصنع وحدها ما يشبه النظام. ذلك أن النظام نفسه يتحول في زئبقية الخلق وعصيانه عن الثبات إلى ما يشبه لعبة قديمة لا تجدّدها الدعوات النقدية الخاملة ولا تنظيراتها. أهم ما فاجأ النقد في مجموعته الأولى، التجوّل الحر في فضاءات شعرية أخذت من اليومي ما هو هامشي، فالقضايا “الكبرى” وإن حضرت في القصائد تقصّد لقمان أن تحضر بصورة ثانوية في سياق الهامشي والعابر، ذلك أن الرؤية الشعرية تتحوّل عنده إلى ما يشبه أطلال حياة: “الذين كانوا يتمنون لنا الخير/ ويسألوننا عن الصحة والأهل والدراسة/ الذين كانوا يصافحوننا بملء أكفهم وعلى شفاههم ود عميق/ الذين وقفوا على أبواب القرى/ وهم يودعوننا بحرارة/ تجاهلناهم في المدن الكبرى/ واختبأنا منهم في زحام البشر”.
منذ هذه البداية الأولى ينحاز لقمان ديركي إلى الحياة نفسها أكثر من انحيازه إلى أي شعرية “مشغولة” من فضاء الثقافة وأفق النقد، وهو يفعل ذلك في صورة مباشرة وعفوية سرعان ما يعيد تشكيلها وقد امتلك رؤية “مدينية”، تدفعه إلى انتقائية اشد صرامة في اختيار المشهد الشعري الذي سيظل بعد ذلك اقتراحه الأهم لتجربته الشعرية كلها، وإن تنوعت مشهدياته وأخذت تشكّل نفسها تبعا للموضوعات، وأيضا تبعا لتطور النظرة ونضج الرؤية الشعرية والإنسانية على السواء.
في مجموعته الثانية “كما لو أنك ميت”، تذهب قصيدته إلى جزئيات الأمكنة وجزئيات العالم المحيط في البيت أو المقهى، حيث تشكل هذه الجزئيات مفردات الصور الشعرية وعلاقاتها التي تعكس حالة إنسانية وتعيد تظهيرها: “وحدي أمام نافذة/ لا مشهد خلفها/ البيت كئيب/ والجدران مملة/ وحدي أعض ضجري ووحشتي/ مهملا/ خرجت امرأتي وتركتني في البيت وحيدا كامرأة”.
منذ هذه المجموعة بالذات سوف تلتفت قصائد لقمان إلى داخله، سوف تحاور ذلك الداخل وتستقصيه أكثر في ما يشبه مونولوغات تتضمن الكثير من الهواجس، لكن أيضا الوشائج المتينة والواضحة مع العالم الخارجي الذي يعرف الشاعر قوّة حضوره: “مضى الآخرون/ كما يحدث دائما/ دون أن يتركوا ورقة على الباب/ أو كلمة عند شخص ما/ مضى الآخرون وتركوني/ وحيدا وجميلا/ مثل أمير حزين”.
الفضاء الشعري الذي فتحته هذه المجموعة، سوف يأخذ بعد ذلك طريقا أكثر جرأة إلى “الفوضى الشاملة”، والتي تعلن جهارا خروج الشاعر على القانون الشعري السائد وتنصّله من ملامح مشتركة تجمعه مع الجيل الشعري الذي ينتمي إليه زمنيا ليس إلا، فيما يفارقه في كل شيء، في الأفكار، والرؤية، وزوايا النظر إلى العالم، ثم الأهم الأهم وهو الالتصاق بالحياة واعتبارها مرجعية القصيدة ومرجعية الشعر. الحياة إذاً لا الثقافة أو القراءات الغزيرة، هي التي تذهب بالشاعر إلى استحضار المشاهد التي يعصف بها حنين خفي إلى شيء يشبه الحياة ولا يشبهها في آن واحد. شيء من تلك الاسترجاعات التي تقنعنا قصائد ديركي بقوة حضورها إن لم نقل باستمرارها وتواصلها كأنها الراهن المستمر والمتفاعل أمامنا: “لقد أتى الجميع/ وسأغلق عينيّ/ كي لا تكوني بينهم”.
هذه الفضاءات نفسها، وان بنضج أكبر، سوف يحملها الشاعر في مجموعته اللاحقة والفارقة “وحوش العاطفة”. هنا نحن أمام حالتين مهمتين، أولاهما انتباه القصيدة أكثر إلى كل ما هو شخصي وموغل في الذاتية، ثم “قصيدة النثر العامية”، والتي نظن أننا لم نقرأها من شاعر آخر قبل ذلك.
من ينتبه إلى قصائد “وحوش العاطفة” يراها مغفلة من العناوين. لوحات تحمل كل منها مشهدها الذي يرسم عالما خاصا لا يحتاج إلى شاهدة أو تعريف. ولعل مكان كتابتها الذي يأتي في ذيل كلمات القصائد يشير إلى ذلك العالم الذي تعيشه، إذ هي كلها كتبت في المقاهي والمطاعم. إنها رؤى شعرية هامشية تنفجر من أرصفة المدن ومن العوالم الجانبية التي لا يحتفي بها الآخرون، ولا يرونها لائقة بالحضور في الشعر. هنا يتوغل ديركي أكثر في هذه العوالم وبالذات حين يكتب “قصيدة النثر العامية”: “عم تهربي مني/ ليش أنا ما عم أهرب منّك/ مفكرة إذا كنت عم أتلفن لك كل يوم، وكل يوم عم أقلّك بدي أشوفك وأنت عم تتهربي بكون ما عم اهرب منك أنا كمان؟”.
هكذا يمضي ديركي شعريا إلى مونولوغات الوحدة وفقدان الآخر وهو يعبّر عن ذلك في المجموعة كلها وإن يكن يحلّق أكثر في هذه القصيدة التي تنبض بالأسى وتعبّر عن محنة عاطفية عميقة: “أيها الصديق الذي كنت أحكي له/ عن التي أحب/ وكان يبكي مرارا وهو يستمع/ أيها الصديق الذي كان يرفع معي كأس من أحب/ وكنت أحدثه وفي صدري ألم لا يطاق/ أيها الصديق الذي بعد كل هذا/ أحب من كنت أحب/ أيها الصديق الذي يأتي اليوم ويحدثني عنها/ وفي صدره ألم لا يطاق”.
المناخات الشعرية نفسها، لكن بتكثيف اشد تعبيرا، نراها في “الأب الضال” مجموعة لقمان الشعرية الأكثر تعبيرا عن مأزقه الوجودي وإحساسه الطاغي بالاغتراب، وهي المجموعة التي ينهي بها فضاءات شعرية ليذهب إلى فضاءات أخرى مغايرة فيها الكثير من العودة إلى المكان الكردي بناسه وتاريخه وذكرياته، وأيضا بما فيه من استرجاعات الطفولة التي تختلف عن كل طفولة أخرى. “شخوص الممالك الزائلة” مجموعته الأخيرة، قصائد كردية بامتياز، فيها يمزج الخاص بالعام، فنلحظ براعة فنية أعلى وخبرة شعرية لا تركن إلى العفوية السابقة، بل تصدر عن التأمل والإنصات للتجربة في معنييها الشعري والحياتي على حد سواء: “أرقد على رقعتي الملوثة بحشود مهترئة من الكتابة وتدوينات المؤرخين. ماذا فعلت كي ترجموني بكل هذا المشهد”.
تجربة لقمان ديركي الشعرية إذ تدخل مرحلة التورط الكامل في لعبة الشعر، تميز نفسها بالقلق الذي يشبه قلق الصعاليك ومراوغتهم للثبات في المكان أو في الفكرة. هنا يخالف ديركي زملاءه الشعراء السوريين إذ يظل قابضا على عبثيته، لا تعيده إلى “العقلانية” أي ضوابط نقدية يصرّ هو على مغادرة أرصفتها بيقين شعري يسرف في احتراف العبث.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى