صفحات ثقافيةعلي جازو

نوافذ دستويفسكي وبيسوا وكفافي وريلكه وبودلير

null
علي جازو
النافذة حيّزٌ محصور، فراغُ مُضيّ، ومنظرٌ مطلّ. إشرافٌ بالمعنى الذي يكون فيه الإشراف علواً عارفاً، واهتماماً رائعاً. إنها حدٌّ بين خارج لا يهدأ ولا يستقر، خارج يشبه أحوال الغيوم وتبدل الفصول، وداخل لا يتكلم. ما هو خلف النافذة، وداخلها، صمتٌ مقبل على الكلام، غير أن هذا الكلام المقبل على نفسه مرئيٌّ، أو انه في طور مرئي، أي أنه كلام في الشكل والمساحة، كلام في ما نعده من الظاهر والسطح والبَشرة. النافذة فجر البيت، الفجر المراقب تحت أو فوق نظرة إرهاق طويلة. والنظرة كذلك تبحث عن شكل قادم، شكل آت من التغير الذي يرغب في أن يهدأ ويتجسد في حيز محصور ومحدد. النافذة توقٌ جليّ في عرفان الشكل من التبدل الخفي إلى التجسد المكتمل في ذهاب وإياب متداخلين.
ليس للنافذة قيمة في الظهيرة، وقت التعب والخمول واكتمال الضجر. اليقظة والنهضة تناسبان النافذة لا النوم والركود. اليقظة الساهية القريبة من صور تجول أرض الأحلام. تظل النافذة مشغولة بالأحداث التي تود استعادتها، التي أضحى ربما من المتعذر امتلاكها، أو انها بنَتِ المخاوف التي تتمنى النافذة ألا تعود أبداً. إنها مثل عمل الذاكرة تتعلق بالحدود والأطراف، بالأقاصي التي كلما دنت كلما ازدادت صعوبة وغموضاً. تتمنى النافذة لو تتجاوز محورها الدائر عليها، تنفذ من مركزها لتلحق بسمات طفولة جاهلة، أو خصال شيخوخة متأملة. في الحالتين، فإن الصباح والمساء أكثر تناغماً وانسجاماً مع الفضاء الزمني والنفسي المحيط بالنوافذ من خلال لون الأشجار الكبيرة وهشاشة وقصر أعمار الورود. الصباح كتدفق للبداية الطرية الصافية، تدفق الخفيف والهادئ. المساء كعلامة على قرب النهاية، على ثقل الحكمة القاسية وعتمتها المترنحة المترجرجة، حيث السكينة التي لا يستهان بأثمانها. النهايات كلها، دون تذمر ودون عناء، محفورة في قلب النوافذ، في قلبها اللامرئي. مع ذلك تظل النافذة أرحب من المصائر التي تحضنها وتخليها في الفراغ، الفراغ الذي يتسيد النوافذ كلها، مقفلة كانت أم مفتوحة. النافذة أرحب مثلما هو الحب أعمق من نهايات كلامه في النوافذ ومن على الشرفات: جولييت تخاطب قلب روميو عبر اسمه: روميو، وحده اسمك هو عدوي. كل ما هو بكرٌ، أي بلا ثقل ولا شبهة ولا وطء، يلائم الرواح والمجيء اللذين يغلفان النوافذ ويمنحانها الصمت عينه، صمت الروح إزاء خوائها.
النافذة أسبق على الضوء لأنها قادرة على انتظاره ومنح الغريق خشب نجاته، كما لو كان الضوء تائهاً في حجب السماء الطيفية، وكما لو كانت النافذة هي اليد الحرة النحيفة التي تنشل الضوء إلى بيته، البيت النافذة التي يمكن من خلالها للضوء كشاهد وحيد أن يعثر على بيت يليق بالغرق والموتى، بيت جدير بالبعد والكمال اللذين ينحدر الموت والحب منهما توأمين صامتين.
للنافذة ميزة من ميزات الانعكاس النزيه المحايد؛ إظهارُ المرئي داخل فسحة انتظار مؤبدة، مؤبدة بسبب اللطف والهيام. قرابتها إلى العابر والهامشي والمنسي أكثر من قرابتها إلى تثبيت الصورة الجامدة التي تقدمها الفوتوغرافيا مثلاً. لأنها مبنية على فواتها واندثارها، على اللحظة الآنية الزائلة التي يختلط فيها التذكر بالنسيان والمرح الخفيف بألم مرير. النافذة تعكس، أي أنها تجلي وتظهر وتبين، غير أن هذا الانعكاس المشتهى لا مرئي، أو بشكل أدق، إنه انعكاس الصورة العابرة لوجه لا مرئي أو نظرة خجولة ومتحسرة أو عاطفة لوم خانقة. ليست النافذة مرآة، فالمرايا تضاعف الرعب الأعزل إذ تضاعف عريَ وجوه ساكنيها. تعزينا النافذة، تحمل جزءاً من قلق الانتظار، لتخبرنا في الختام ان هناءة الإقامة صعبة ، وأن التجوال، رغم هباته العديدة، ورغم تعاساته التي لا تنسى، رحيم ونافع وجميل. لا شيء يمنحنا اليقين إزاء منظر نافذة. لا يمكن تقدير حالتها؛ تلك التي تدور وتهيم في كل حال. لا نعرف إن كانت سعيدة أو خائفة، غير أنها تشي بنوع من الإصرار الهادئ والبقاء الصامت. ربما هي صيغة من صيغ العزلة الرصينة، بعد أن غدت العزلة مسكن الكائن ولغة لغته، بعد أن غدت أليفة لفرط بهائها الأرجواني، دون أن تفقد شيئاً من ثراء غموضها. غموض مريح مثل خطو ملاك، مثل عاطفة ملاك تلمسنا يداه جناحاه الصغيران الضعيفان، دون أن نقدر على الاحتفاظ بجمال نظرة عينه، الشبيهة بزرّ من أزرار الندى. تنقلنا النافذة إلى مكان آخر وتظل هي في أرجوحة مكانها الملتبس بإسدالها نظرة الظلال الباردة على مصائر مجهولة. ربما هو المكان نفسه الذي لا نجرؤ منه النظر في أنفسنا، المكان الذي منه نكتب وجوهنا على قياس الساعة وقد التأمت على أكفنا من فرط الندم ومن ضراوة الأسى.
لم يرَ فرناندو بيسوا الوقوف أمام النوافذ سوى وقوف جدير في وجه المستحيل، المستحيل – الصمت الذي لا يطلب منا تجاوزه، ولا الصراخ في وجهه:
” لو كانت حياتنا وقوفاً أبدياً أمام النافذة، لو استطعنا أن نبقى هناك إلى الأبد مثل دخان يحوم ويعلو، وفي اللحظة ذاتها يلون الغسق إلى الأبد منحنى التلال لو استعطنا أن نبقى كذلك إلى ما بعد الأبد! لو استطعنا على الأقل الاستمرار هكذا في جهة المستحيل هذه، بدون اقتراف أي فعل، بدون أن ترتكب شفاهنا الشاحبة خطيئة النطق بكلمة أخرى”.. لا رجاء هنا، وليس لنا أمام النوافذ سوى قدرة انتظار وصبر حتى نغدو ظلالاً أو تماثيل مندثرة.
تنفتح النافذة على المطلق، أي على كل شيء. لكنها ليست مطلقة في حدودها. النافذة مقيدة ومحدودة الحركة. إنها مطلقة لكن داخل أطر وعواميد، ولها بيت تنتمي إليه انتماء الحافة إلى النهر والضوء إلى محيط القمر. ليس للنافذة روح خارج إطارها، وهي نفسها ليست روحاً. إنها ما يمكن للروح عبرها أن تتحول وتختبر وترى. لا تقبل النافذة ولا تقدر أن تتسيد وتسيطر وتعمم على فضائها. إنها تتحمل امتصاصه الرحيقي، امتصاص المتألم الصامت لشكوى جسمه المريض. ما ينشر النافذة ويضيئها هو ما يسكنها ويلمسها لا ما يكوّنها ويحبسها. النافذة هي المحل الذي منه يرتعش المرئي ارتعاشة غيابه. إنها المكان وقد تموّج وتظلّل وتخرّب وتحطّم وتجدّد وتشعّب، وبقي مع كل ذلك وحيداً.
نطوي النافذة، أي نلغيها أو نسترها بطريقة مؤدبة طريقة رجال القانون الناعمة الماكرة. وبانطوائنا خلفها، بالتستر ورغبة الاختفاء وحرمان الآخرين من النظر إلينا، نصغي برتابة إلى اختلاط دخان عقولنا السقيمة بأنفاسنا الحائرة المكروبة حيث لا يعود من الممكن لأحد أن يشهد علينا عدا الستارة، هذا القناع الذي نحبه أكثر من أي وجه. إنها فرصة أخيرة وكاملة لتحويل النافذة إلى شاهدة قبر قلما نلاحظها، أو نشمّ عفونة الجثث الخاوية ورائها، وراء نار الستائر المسدلة.
النافذة تأكيد مرئي على السهو والخمول. إنها سهو البيت عن حال نازليه. نفسه السهوُ الذي لا يريد البيت أن يعترف به أو يكشفه. لكن النافذة لا تخفي – هنا – ولا تتستر. إن مكانها في العين هو كلامها إلى القلب. ولأنها ساهية ضجرة، ومتعرقة باردة، مكشوفة وعارية، تبقى معرضة لكل ما يحادثها أو يأتيها دون توقع. وتكون طواعيتها للنقل والبوح من طواعية وضعف مخمور بريء. إنها السذاجة وقد حولت كلمات قلبها إلى قطع من زجاج محصورة بين مضلعات خشبية أو زوايا معدنية سرعان ما يتكثف الصدأ حولها ليبرهن خضوعها لتقلبات الزمن وتأثيراته الحاسمة، تأثيرَ المحو القاسي والدفن الأخير. تعيش النافذة مثلها مثل الذاكرة الحية على وفائها. الوفاء طاقة حياتها المتحولة. لا حضور خارقاً لها، فحضورها لا يدوم سوى برهة، برهة تكفي للولادة والموت، لـ ( ساعة الذئب)، تلك التي يختلط فيها القيد الرنان مع الرغبة المحزنة في نزع كل قيد، ورميه من النوافذ كلها.
تحولنا النافذة، سواء كنا خارجها أم داخلها، إلى متفرجين صبورين. إننا نغتذي بصمتها العريق. ما لا يمكننا نسيانه بسهولة تمنحنا إياه النافذة بيسر، تقريباً بلا عناء. يكفي أن نرفع نظرنا، أو نخفضه، حتى يتكشف لنا في ضوء ما نرغب أو نخشى، ذلك السرُّ اللصيق وتلك اللوعة العاضَّة. لكننا سرعان ما نضجر مما يلتصق ولا يفارق. ليس لنا جَلَدُ النوافذ وطول صبرها العالي. نرغب منها ألا تكون إطاراً، بل لوحة، أي أن نستطيع دخولها كما يدخل رسام شخصاً في لوحة. ندخلها لنمكث فيها ولا نخرج أبداً. نريد أن نمتزج بحلولها في نظراتنا، كما لو كانت هي أيضاً تنظر من خلالنا.
[نافذة مساكين دوستويفسكي:
يشعر (ماكار ألكسييفتش)، في قصة المساكين، بسعادة بالغة لأنه أدرك ما كان يشتاق إليه، ما كان يجعل قلبه ينطّ من مكانه: رؤية زاوية من ستارة نافذة (فارفارا ألكسييفنا) مطوية لتعلقها بمزهرية البلسمينة، لدرجة أن العجوز ألكسييفتش يتخيل لمحة من وجه فارفارا وقد نظرت إليه من حجرتها مفكرة به على النحو الذي يرغبه خفية. ثم في نفس اللحظة الخاطفة المبهجة يجتاح ألمٌ غامض قلب ماكار ألكسييفتش لأنه لم يتبين الوجه الحلو لفارفارا جيداً، فيكتب في رسالته الأولى لها: ” قد مرَّ زمان كنا نرى فيه الأشياء بوضوح. إن الشيخوخة ليست هيّنة، يا شقيقة روحي! كل شيء يترجرج أمام عينيّ الآن” . يمكننا ملاحظة الآتي من هذا المقطع الصغير: النافذة هي الحيز الصغير، وسط حجرات المساكين الضيقة وسيئة التدفئة، الحيز الأضأل والأكثر أماناً، الذي من خلاله يمكن لأكسييفتش رؤية الستارة منثنية ومانحة. ستارة منثنية هي فرصة للنظر والتلصص، لكنْ بسبب تعلقها بمزهرية. هذه الرؤية اللماحة لدستويفسكي تجعلنا نرى النافذة نفسها كإزهار، كتفتّح آني مفرح، لكنه فرح معلق ومؤجّل. تفتّح ناقص، لأن الرؤية الأجمل، محل رجاء عيني العجوز الواهيتين، هي تلك الرؤية التي تظهر وجه فارفارا، وجهها العذب. بسبب هذا النقص بالذات يتألم قلب ألكسييفتش. تلعب النافذة مع طرف الستارة المعلق دوراً مزدوجاً: إنها تمنح الرؤية الحميمية، وفي الآن نفسه، تحجب عن الرؤية الأجدر بالنظر والشغف المتلهف: وجه شقيقة الروح فارفارا. الإزهار كتفتح نحو الخارج، كخروج من البرعم المنغلق إلى فضاء النور، إزهار ناقص، ما لم يكتمل بوجه غائب محبوب. غياب الوجه يوقع قلب ألكسييفتش العجوز في ألم محير. هذا الألم نفسه هو ما يغلق من جديد نافذة عين ماكار ألكسييفتش، يغلقها تحت ستار من الغبش وترجرج الرؤية، الترجرج المرتعش كزبالة شمعة ملتهبة، شمعة الشيخوخة التي ينفذ فيها جفاءُ ضوء الشوق العاري، وقد آلمها ضعفُ حالها وعدم قدرتها على رؤية الأشياء الحبيبة واضحة جلية تحت نور وأزهار النوافذ.
[نوافذ ريلكه ـ قصيدة:
مثل شجرة، طالما مدحها ريلكه بحب وحنان كبيرين، هي النافذة ـ النوافذ. قصيدة ريلكه في النوافذ قصيدة هيام لا ينتهي. نوافذه لا تشكو غير جمالها المؤطّر بها. يمكن للجروح والآلام داخل فراغاتها المشمسة والظليلة أن تشفى بيسر من قلب الواقف تحتها، والمنتظر إشراق وجه حبيبٍ عبرها: “من الشرفة، أو في إطار النافذة، يكفي أن تجرؤ امرأة، أن تكون تلك التي نضيّعها عند ظهورها”. تصمت نوافذ ريلكه الرحبة وهي تأخذ شكل وهيئة ندوب منحوتة ترى من بعيد. كذلك لا تعرف النافذة صراخاً، غير أنها تمنح الصراخ شكله الأثيري الحي، شكل الذكرى الباقية في كمال تألمها، حيث لا براء من الألم ولا ملجأ من أوجاع الحنين. جرس بسيط أصفر ذهبي، يكفي صوته ليعلن قدوم المساء، وتتموج لطخات معتمة على فمه المنكس. مع ذلك لا ترغب النافذة أن توقظ نيامها اللطفاء، لا بسبب حيواتٍ شرسة بل بسبب هشاشة قلوب ساكنيها العزَّل وتراب أجسادهم المتعبة. نوافذ ريلكه مانحةُ صورٍ ذهنية مرئية، ولأنها كذلك فهي متحولة عبر صورها الممنوحة، طارئة، وتتحمل ما يثقلها، وقادرة خلال تحولها حيازة مشاهد العناء القلبية.
إذا كان دوستويفسكي في (المساكين) قد ثبت النظر الملتهب والعاطفة اليائسة الودودة والاعتراف المرير على خلفية نافذة محددة، فإن ريلكه حول النافذة من فرصة للنظر والكشف والبوح إلى عين تطلق الرغبة إلى أوسع مدى ممكن، مدى النظرات العاشقة وهي تتلهف داخل صمتها، ترقُّ وتتألم، تحلم وتسافر داخل عينها التي تبني النوافذ مع ساكنيها داخل نظرة واحدة. نافذة ريلكه شرفة نفسية لالتقاط الجدير بالحب، إنها أيضاً مكان تلتمع فيه خسارات العاشق، لمعات خافتة في قلق وارتعاش انتظار لا ينتهي. يكفي أن تجرؤ امرأة جرأةَ طفلٍ، وتمد رأسها من النافذة حتى يمتلك الشاعر إطلالتها السخية وينحتها في بيت عينيه. ومع أن ظهورها قصير قياساً إلى عمق الرغبة وزمن الجرأة المرغوبة، فإن الفترة القصيرة كافية كي تولد في الشاعر حلماً يجبره إعادة النظر في النافذة وقد غدت مؤطرة وممتلئة بصاحبة الوجه الغائب: “أليست هندستُنا أيتها النافذة، مشكلة جدّ بسيطة، تحيط بيسر بحياتنا الكبيرة. المرأة التي نحبّها ليست أكثر جمالاً البتة، إلا حين نراها مؤطرة بك، أنت أيتها النافذة من يوشك على تأبيدها”. بعين ترى وتحلم في آن، ربما بسبب النافذة، تحتاج العين أن تنظر ببراءة أوسع وتأمل أكثر تأنياً، فما تراه سرعان ما يغيب ويُنسى. ولكي تستعيد المنسي المعشوق – استعادة مطلقة أكبر من الغياب نفسه ـ تحلم كما لو كانت أوجه النوافذ هي ممرات الأحلام الوحيدة، ممرات شبه مغلقة تحمي ساكني النوافذ من التحطم والسقوط في أرض النسيان.
[نوافذ كفافي:
لدى كفافي الأفكار هي النوافذ الأكثر عتمة ويأساً، الآمال التي لا يمكن أن تفتح أي درب أمام الشاعر. وهو لا يرى من النوافذ بعدما تخربت من الداخل ومن ساكنيها أية جدارة بالبحث عنها أو اكتشافها. لا أمل وراء العثور على نوافذ أخرى، فغرفة كفافي كما هي حال عزلته الرصينة، عزلة كاملة مغلقة ومحصنة ضد أي تطلع نحو الخارج والحاضر. لكأن كفافي يفصح بما يشبه نبرة مؤكدة وقاطعة بعدم جدوى البحث، ويضيف أن النوافذ ربما غير موجودة، وإذا وجدت وفُتِحت، فمن يدري عن أي مآل ستكشف، عن أي بشاعة وأي طغيان. الشاعر كفافي لم يجد في الحياة سوى مراكز ثلاث: مبغى للمتعة، ومعبد للغفران، ومشفى يموت المرء فيه، وفي ظلال هذه الدعامات الثلاث لا تغدو النوافذ سوى أوهام ضحلة أو عذابات مقبلة.
” في هذه الغرفة المظلمة التي أمضي فيها أياماً ثقالاً، أروح وأغدو باحثاً عن النوافذ. عندما تنفتح نافذة سيكون هذا عزاء. لكن النوافذ لا أثر لها، أو أنني غير قادر على أن أعثر عليها. وربما كان من الأفضل ألا أجدها، ربما كان النور عذاباً جديداً. من يدري كم من أشياء جديدة ستظهر “.
[نوافذ بودلير:
غير أن بودلير السئم والنهم ليس كفافي المنزوي والمتأمل، وتاريخ الاسكندرية ليس من تاريخ باريس. نافذة بودلير هي حياته الأخرى المغلقة والمبعثرة والمشتعلة، حياته التي عاشها مع آخرين مجهولين، غير انه احتواهم في كيانه عبر النظر والافتتان بما يحدث من حياة خلف نافذة مغلقة. لم يمنع إغلاق النوافذ بودلير من تجاوزها، ولربما كان إغلاقها معبراً لضوء مشاركتها الممكنة، لكن الخفية والمضمرة، والتي يقدر فن كالشعر على تحمل صمتها وعتمتها معاً.
“ان ذلك الذي ينظر من الخارج عبر نافذة مفتوحة، لا يرى أبداً كثيراً من الأشياء كذلك الذي ينظر إلى نافذة مغلقة: فلا يوجد شيء أكثر عمقا وأكثر غموضا، وأكثر خصوبة، واشد عتامة وأكثر إشراقا من نافذة مضاءة بشمعة. ذلك ان ما يستطيع الإنسان رؤيته في الشمس يعد اقل إثارة للاهتمام دائما من ذلك الذي يحدث خلف الزجاج، ففي هذه الفتحة السوداء أو المضيئة تحيا الحياة، تحلم الحياة، تقاسي الحياة. إني ألمح في الناحية الأخرى من موجات السقوف امرأة ناضجة هاجمتها التجاعيد بالفعل، فقيرة، تنحني دائما على شيء ما، لا تخرج أبداً بوجهها، بملابسها، بإيماءاتها، بلا شيء تقريبا، أعدت صياغة قصة هذه المرأة، أو بالأحرى أسطورتها. وفي بعض الأحيان، أقصها على نفسي باكيا، ولو أنها كانت رجلا فقيرا عجوزا لكنت أعدت صياغة قصته بنفس السهولة، واني لأرقد فخورا بأني قد عشت وقاسيت آلامي من خلال آخرين غيري. ربما تقول لي: أمتأكد أنت من أن هذه الأسطورة هي الحقيقة؟ ماذا يهم حتى لو كانت الحقيقة موجودة خارج ذاتي، ما دامت تساعدني على الحياة، وعلى الشعور بكياني، وبماذا أكون”.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى