صفحات مختارةياسين الحاج صالح

مقالة غير عقلانية: الغيلان الثلاثة وأزمة الثقافة العربية

null
ياسين الحاج صالح
القوى الثلاث، الدولة والدين والمركب الغربي الإسرائيلي، التي يتشكل من تفاعلها العالم السياسي والثقافي والنفسي للعرب المعاصرين، تظهر في هيئات غولية وخاصة (مقابل إنسانية وعامة). ستعمل هذه المقالة على تعريف “التغوّل”، وتتقصى أصول الهيئات الغولية، وتقول شيئا عن العلاقة المحتملة بينها، وعما ينهض في مواجهتها من مقاومات، ثم تحاول الكشف عن المعنى الثقافي لنشوئها، أو إظهار دلالتها على أزمة كبرى في نظامنا الثقافي، نسمّيها الأزمة الغولية.
تغوّل الدولة
منذ ثمانينات القرن العشرين، استخدم النقد السياسي العربي كثيرا تعبير “تغول الدولة”. الصيغة معبّرة، إذ تشير إلى تحوّل نوعي مهول في تكوين الدولة، خرجت في محصلته من إمكان التدبر الاجتماعي، وأخذت تفتك بمحكوميها بـ”وحشية” يمتنع تسويغها على أرضية ما تواجهه هذه الدولة من خصوم داخليين. كان في سويات التنكيل بالمجتمعات المحكومة ما يتجاوز تحدي الروابط الإنسانية والوطنية إلى ما يشبه تلذذاً مجنوناً بالفظاعة، وما يتجاوز معاقبة خصوم سياسيين إلى إقامة صناعة إرهابية كاملة وواسعة النطاق، تتفنن في الترويع والانتقام. ولقد استمر عمل بعض أبشع مصانعها، سجن تدمر السوري مثلا، عقدين من السنين وأكثر.
لعل في أصل تغوّل الدولة، إرادة جمع ما لا يجتمع: الطوارئ والدوام، الدستور والاستثناء، الخوف و”الأمن”، الجمهورية والإقطاعية، البشرية والخلود. ولأن هذا ممتنع أو غير معقول، فإنه لا يتحقق من دون أن تُجنّ “الدولة” أو تُؤلِّه نفسها، ومن دون أن تجرد المحكومين من أي “عقل” عام يجمعهم، أي من دون أن يكفّوا عن تشكيل مجتمع متفاهم أو قابل للتفاهم. لا شيء ممتنعاً في عين الإله، ولا يعرف المجنون معنى للممتنع، وكذلك لا تطور الجمهرات المعزولة المبعثرة مفهوماً مشتركاً للممتنع أو غير المعقول. ومن دون مفهوم للمعقول وغير المعقول، يغدو كل شيء ممكنا، ويتعذر توقع أي شيء. تمسي الحياة سلسلة من النوازل لا يمكن التنبؤ بها أو توقّيها أو التأثير عليها.
نتكلم على دولة غول بالضبط، بسبب تحطم مفهوم المعقول السياسي، جملة الأعراف الاجتماعية والثقافية والأخلاقية غير المكتوبة (فضلا عن أي قواعد مكتوبة) التي تُعرِّف المقبول وغير المقبول سياسيا، فتشكل ضابطاً خفياً لسلوك الأطراف السياسيين، وأساساً للتوقع السياسي الرشيد، ومعياراً للعادل سياسياً. ولكونه بمثابة تفاهم على أصول جامعة لا يباح تجاوزها إلا في أحوال خاصة مفهومة، فإن المعقول السياسي يحمي حياة الناس ويشكل ضماناً ضد تبديدها. إنه “الدستور” الضمني الذي يتعيّن أن تبنى دساتير الدول في أي يوم عليه.
والحال، إن مجتمعاتنا المعاصرة تفتقر إلى مفهوم عام للمعقول السياسي، وليس ثمة قواعد مكتوبة أو غير مكتوبة تحدد المقبول سياسيا. أصول ذلك قديمة نسبيا، تعود إلى عصر التنظيمات العثماني وتقوّض الدولة السلطانية ونظام مراتبها التقليدي الراسخ. محل هذا النظام لم يتشكل تقليد جديد ومعقول سياسي عام. هذا واقع الحال اليوم.
لقد كان منتشرا في ثمانينات القرن العشرين، في العراق وسوريا بخاصة، الشعور باستهوال الحال وخروجها على المعقول، وكذلك العجز عن الفهم والتوجه، بدرجة تفوق العجز عن التأثير على مسار الأحداث المنفلت من أي ضبط. لم تكن إباحة الحياة وحدها ما تحوز طاقة ترويعية رهيبة، بل بخاصة عدم توافر مخططات إدراكية تتيح عقلنة هذا الهول، أو إدراجه في منطق عام معقول. للفهم مفعول أمني (نزع غرابة الأشياء وبرّانيتها أو برّيتها)، وفي وسع فقدانه أن يكون مُزلزِلا أكثر من مادية الهول ذاته. ذلك أننا في مثل هذه الأحوال “نفقد صوابنا”، فلا نعرف كيف نتوجه، ولا أين نحتمي، ولا من أين تأتينا الضربات التالية، ولا إلى أين تسير الأمور.
على هذا النحو يعيش المحكومون شرط انكشاف كلي عام، من دون حمايات قانونية أو سياسية أو ثقافية، مجرّدين من القدرة على الاعتراض أو على التماسك، وممنوعين بخاصة من تشكيل هوية اجتماعية مشتركة، أو بناء مشتركات وطنية واسعة. ويجري تعطيل الفارق البنيوي بين الخاص والعام، بما يمنح هذا سلطة لا نهائية على ذاك. كل شيء يغدو عاماً، أي مجرداً ومكشوفاً ومفتوحاً، وفاقدا لأيّ حرمة أو ذاتية أو خصوصية. وهو ما يعني أن حياة الأشخاص تحوز بالكاد قيمة نسبية، لا تحول دون أن تباح وتلغى.
السجن والتعذيب والقتل سهل في مثل هذا الشرط. إنه شرط “الإنسان المباح” (جيورجيو أغامبن) الذي يعيش “حياة محضة”، عارياً من كل حماية أو حصانة.
ومن باب تأله الدولة، عبادة الحاكم التي ازدهرت على نطاق واسع منذ سبعينات القرن العشرين، قبل أن تمسي دين الدولة الرسمي الذي تمارس طقوسه بهوس عدواني في أوقات الأزمات، وبشكلية ساهية في غيرها. وإذ هي مفروضة بالقوة وخالية من كل محتوى أخلاقي، وغير قادرة على الإعلان عن نفسها، فإن هذه العبادة لا تؤسس مشتركاً اجتماعياً. شرطها انعدام المشترك الاجتماعي بالأحرى.
لكن ما الذي يوحّد بين الآلهة والغيلان، بين التغوّل والتأله؟ الخروج على القياس الإنساني، أي على “الثقافة”. جميع الآلهة غيلان عدا من نأمن لهم، فنؤمن بهم. نتكلم على الدولة- الغول لأنها منبع خوفنا العظيم، لا يأمن أحد على نفسه في ظلها، ولا حتى أعوانها.
تغوّل الدين
في الوقت نفسه تقريباً ظهرت علامات “تغوّل الدين”. على شكل عنف مادي منتشر لا ينضبط بغير حدود قدرة ممارسيه، لكن أكثر على شكل تحكُّميّة قصوى، لا تستوقفها معاني الممتنع وغير المعقول، لا في المنطق ولا في الأخلاق ولا في السياسة. وبخاصة لا تأبه للتمايز بين خاص وعام، على ما تشير أمثلة الحكم الإسلامي المعاصرة كلها. وليس غير التأله يكفي لتزول هذه التمايزات التي تحمي الحياة البشرية، أو تضمن حرمتها واستقلاليتها. في أصل التأله، هنا أيضا، إرادة أن يكون الدين دولة على ما يريد عموم الإسلاميين، وأن تقام “مملكة الله على الأرض”، على ما أراد سيد قطب، وأن يكون حكم هذه المملكة “ثيوقراطيا ديموقراطيا”، على ما تقرر للشيخ يوسف القرضاوي.
من أجل جمع متنافيات لا تجتمع، كهذه، لا تكفي قوة غير إنسانية أو فوق إنسانية، يستمدها الإسلاميون من التألّه، بل كذلك أن يتجرد الجمهور من حس العدالة والقدرة المستقلة على تقويم أوضاعه، ما يعني عمليا خفض مرتبته إلى ما دون الإنسانية. أي يلزم أن تتداعى “الثقافة” بما هي نظام تمايزات مكتسبة بين المعقول وغير المعقول، والممكن والمستحيل، والخاص والعام، والكل والجزء، والهدى والإكراه، و… الدين والدولة. والمحصلة تشكّلٌ غولي، راغب في السلطة العليا ومتجه القلب نحوها بكليته.
ما يهدر في هذا التشكل السلطوي الغولي، هو البعد التحرري والإنساني المهمل للإسلامية المعاصرة (الاجتماعية بخاصة)، أعني ما توفره من قدرة احتجاج ومن روح تضامن لجمهور مهمش واسع، وما تؤمنه من ذاتية وكرامة وتكامل لكثير من المؤمنين، وما تتيحه من إمساك بالحياة ودرجة من التحكم بشروطها لقطاعات من السكان ترى هذه الشروط تفلت من بين أيديها. على هذا النحو تعرض الإسلامية المعاصرة تناقضاً إضافياً بين نوازع إنسانية تغذّيها وبين تشكلات فكرية وسياسية سلطوية، تصادرها وتسخّرها لخدمة السلطة المطلقة.
ليست عقيدة “الحاكمية الإلهية” بخاصة غير تأليه للذات ما دام الله لا يحكم مباشرة، وما دام الناس ليسوا آلات كاملة مبرمجة إسلاميا، وما دامت لهم نفوس تلوم وتأمر بالسوء وتطمئن. ولا تبعد عن الحاكمية كثيراً عقيدة “تطبيق الشريعة” التي تُلزِم الدولة “دستوراً” متعالياً لا يقبل التعديل والإصلاح. وهذا ما يجعل الكلام على “دولة مدنية” يقول الإسلاميون السياسيون إنهم يتطلعون إليها، بلا معنى.
ومن الموقع الإلهي لا تصحّ محاسبة الناس فقط، وإنما تجبُ: المخالفون كافرون، لا تحق لهم الحياة. لا يقول جميع الإسلاميين السياسيين هذا، لكن هذا هو الإمكان الأقوى في تفكيرهم، لذلك لم يستطع معتدلوهم في أي وقت قول شيء متماسك ضد من يقول ذلك من متطرفيهم. في التغوّل الديني جانب إبستمولوجي، يتمثل في “الأصولية”، القراءة الحرفية للنصوص الأُوَل، وإهمال السجل التاريخي والتأويل والتراث المتنوع، “الثقافة” كنظام وساطات بين الأصل (أو التجربة الأصلية) والعصر. في هذا الجانب يتفوق المتطرف الإسلامي دوماً على المعتدل، والجهادي على السياسي. يبقى الاعتدال المحتمل ذاتياً، موجوداً على مستوى النية والتفضيل الشخصي، فيما التطرف مؤسس إبستمولوجيا في التأويل المهيمن للمتون الإسلامية.
خارجاً على طوره، ينقلب الدين قوة مجنونة وغير إنسانية، تنخرط في صراع مطلق من أجل سلطة مطلقة على الحياة والأحياء. ويغدو منهل الإيمان رمزا لعدم الأمن. في أساس ذلك أن رؤية الإسلاميين العامة سلطوية جدا، مجاهرة بطلب السيادة السياسية (سلطة الدولة) والمعرفية (تعريف العلم)، ذات منزع تكفيري غالب، أي بلغة عصرية لاغٍ للمواطنة والحمايات القانونية المقترنة بها، وتعرض انجذاباً مرضيّاً إلى “العقوبة العظمى”، الموت. في أساسه كذلك، استعداد “العلماء” الميسور للنطق باسم الله والعدالة الإلهية والانتقام الإلهي. من الموقع الإلهي، أي المطلق، تحوز الحياة الإنسانية قيمة نسبية جداً، فتغدو مثل عدمها تقريباً، فيسهل إعدامها. “الأصولية” والعدمية قرينان لا يفترقان.
هذا التأله الديني تغوّل، نظرا إلى شحّ ما يوفره من أمن عام. لا يأمن على أنفسهم فيه حتى عموم المؤمنين.
تغوّل الغرب
بالمثل، ومنذ ما بعد هزيمة حزيران 1967، يَظهَر المركب الغربي الإسرائيلي لدينا كغول، كقوة عنيفة منفلتة، خبرنا عنفها المهول مراراً في الأربعين سنة الماضية، وآخر أيامها كانت في غزة بين أواخر 2008 وأوائل 2009، وقبلها في لبنان 2006. وقبل في العراق 2003، وفي العراق أيضا 1991، وقبلها في لبنان 1982.
لكن هنا أيضا لا ترتد الغولية إلى مجرد القدرة على صبِّ عنف جحيمي على أي أعداء متصورين؛ ثمة عنصر “روحي” وقيمي فيها أيضا، هو، اختصاراً، “الحداثة”، وما يفترض أنه يلتصق بها من قيم: حقوق الإنسان، الحرية، العلمانية، المساواة.
من أجل الجمع الممتنع بين عنف قاتل وما يفترض أنها قيم مساواتية وتحررية، لا بد من التأله الذي لا يبعث أمناً عاماً أكبر مما بعثه تأله الدولة وتأله الدين. لا يمكن أن تكون إسرائيل، الكائن المتمرس في القتل، “الديموقراطية الوحيدة” في الإقليم، وجيشها “الجيش الأكثر أخلاقية في العالم”، وأن تحظى بحصانة قانونية وأخلاقية تامة ودائمة، بينما هي تجرد الفلسطينيين من أي حصانات وتبيح حياتهم، ولا ترضى بأقل من انكشاف أمني واستراتيجي تام للعرب كلهم، هذا كله لا يمكن تحقيقه من دون تأليه متعصب لها ولظهرائها الغربيين، الأميركيين بخاصة. الإله وحده يفعل الخير تعريفاً ودوماً وتلقائياً مهما يكن ما يفعل، ومن منظوره وحده تحوز الحياة الإنسانية قيمة نسبية بإطلاق.
هنا أيضا يستلزم التأله خفض الفلسطينيين، ومن يهتم بأمرهم من العرب، إلى ما دون المرتبة الإنسانية. يترك لهم أن يعيشوا “حياة محضة”، مكرسة للحذف في كل آن، حتى من دون أن تكون لها قيمة قربانية (أغامبن)، مع مطالبة القاتل لنفسه بما هو أكثر من الحصانة: تقدير أعماله ومباركة كيانه. هذا يقتضي أبلسة الفلسطينيين وإنكار جدارتهم الإنسانية المساوية لغيرهم، وهو ما تجتهد منابر متنوعة لتثبيته عن العرب عموما، وباسم الحداثة والعقل أيضا. في هذا السياق نرى أن ممانعتنا التشكك في الحداثة، ومثابرة أكثرنا على تقديسها، والنظر إليها كحقيقة مطلقة (تثبتنا على ذلك دواعي مواجهة “الأصولية” و”القدامة”)، تساهم في تأليه الغرب وإخراجه من التدبر، وتالياً في تغوّله. وعبر مطابقة ذاته مع حداثة عامة و”كونية”، يفترض أنها مبرّأة من الهوى والهوية، يخفي الغرب تغوّله عن نفسه وعن غيره.
هنا أيضا ثمة انحياز ثقافي وإبستمولوجي تأسيسي، يكاد يجعل إسرائيل دِين الغرب وديْنه، فيحكم على كل اعتدال غربي محتمل بأن يكون ذاتياً وعلى مستوى النية فحسب. قلة هم المعتدلون الغربيون الذين يسائلون شرعية إسرائيل وعدالة مبدئها، أو يتفهمون أساس الاعتراض العربي عليها، كونها انتهاكاً جوهرياً دائماً لفرص العرب التاريخية والوجودية، لا يترك لهم خياراً غير الخنوع والتبعية، وإلا فعنف ساحق يعيدهم إلى الوراء.
لا يعني منح ذلك الكيان الصغير بحجمه قوةً تمكنه، دائماً وأبداً وفي كل حال، من إلحاق الهزيمة بالعرب مجتمعين، ومنها “السلاح المطلق” (النووي) القادر حرفياً على أخذ المدن العربية كلها إلى الجحيم، لا يعني إلا عدم الإقرار للعرب ككيان جمعي محتمل بغير “حياة محضة”، لا بأس بمحوها.
هناك تعطيل عميق للمنطق، أي للعقل والوجدان البشري، أي للثقافة، حين تتساوى سياسات الفلسطينيين والعرب في عقمها، فلا فرق بين “عقلاني” منهم و”لاعقلاني”، أو بين “معتدل” و”متطرف”، وبين محارب ومسالم، وبين علماني وإسلامي. ينبغي أن يكون المركّب الغربي الإسرائيلي لامتناهياً، إلهياً، حتى تكون الفوارق بين العرب صفراً مهما فعلوا. لكن صلابة هذا الجدار ولا إنسانيته تثيران تفاعلاً انحلالياً في البيئة العربية: تحلل كل وحدة وتفسخ كل مشروع جمعي وفقدان الإرادة والتشاؤم وازدراء الذات والعنف العشوائي والعدمية، كل ما يؤشر إلى رغبة في الموت.
عبر إسرائيل، وهي تربط نفسها مصيرياً بالغرب ويربط الغرب “الحضاري” مصيره بها، جرى تمديد الشرط الاستعماري في المجال العربي. وهو ما اقتضى على الدوام ردّه مجالاً مباحاً مكشوفاً لا كيان له، يعيش حالة استثناء دائمة؛ أو حقل صيد مشاعاً، يمتنع أن يتأسس فيه أمن عام أو عقل عام أو مجتمع بشري. نتكلم على تغوّل غربي لهذا السبب.
يندرج ضمن منطق الاستباحة، اختراع اسم لقلب هذا المجال لا يحمل دلالات ثقافية أو تاريخية، مجرد إطار جغرافي لا شكل له، متمركز حول أوروبا: يقع شرقها، لكن ليس في أقصى شرقها: “الشرق الأوسط”.
هنا، كما في خصوص الدولة وخصوص الدين، ثمة من يرى الغول إلهاً ويعبده.
من جهتنا، نعتبر القوى الثلاث غيلاناً، لأنها قوى خاصة مُغرِضة، لا تقبل المساواة لمن هم في عُهدِتها، ولا التساوي مع غيرها من قوى، ولا تقبل نظمها التعميم. وكذلك لأنها تقتل كثيراً. وكثيرين. في تكويناتها الراهنة، هذه قوى غير إنسانية وغير عامة، وغير مؤهلة لأن تكون إنسانية وعامة.
في الجوهر هي قوى عدمية، تضفي الإطلاق على نفسها، فيغدو كل ما هو عداها مباحاً وقابلاً للإعدام.
صراع الغيلان
ليست العلاقة بين هذه الغيلان الثلاثة عارضة أو خارجية. لقد سهّل التغوّل الغربي انقلاب دولنا المهزومة والفاقدة للشرعية والشعور بالكرامة غيلاناً مفترسة. إذا فقد شخص كرامته نهائياً واحتفظ بقوته، فإنه ينقلب سفاهة فتاكة، غولاً. مثل ذلك يقع للدول.
بالمثل، استثار تغوّل الدولة وتغوّل الغرب تغوّل الدين أو دعمه بصورة مباشرة. في مواجهة سلطات مطلقة، محلية ودولية، لا سند أقوى من سلطة المطلق. وبقدر ما كانت السياسة، من المناشدات إلى حروب الدول وإلى التفاوض، تفشل في تحقيق أي شيء، أي بقدر ما كانت تفقد نجوعها وعقلانيتها، سوف نلتمس لها، ونَجِدُ، أساساً غير عقلاني أو فوق عقلاني، الدين. لكن بثمن أن ينقلب الدين سياسةً مباشرة، ودولة. يتغوّل الدين بهذا الانقلاب المضاد للمعقول.
على أن فشل الدولة الذي نتكلم عليه ليس مجرد فشل سياسي. إنه كذلك فشل المعقول السياسي، أعني ما يتيح التوجّه والتوقّع والاحتساب لجمهور المحكومين. أو ما يقوم بوظيفة العقلنة. يوفر الدين عقلنة عامة بديلة، تعيد الأفعال والأشياء كلها إلى الله وكلماته وقضائه وقدره. قد يمكن القول إن الدين هو دستور عالم سياسي لا دستور له (نحاكي تعابير ماركس)، وسند المحرومين النفسي والعقلي في عالم لا يوفر لهم سنداً. لكننا نسارع إلى القول إن العقلنة الدينية لا تنجح. فهي أعمّ بكثير من أن تكون فعالة في تنظيم عالم معقّد لا يكفّ عن التحوّل.
تعقّدُ العالم هذا، هو جذر أساسي لتغوّل الدين. يفقد الدين السيادة السياسية والمعرفية، فيلعن العالم الحديث ويواجهه بالعنف، ويسند لعناته وعنفه إلى الله. يتأله فيتغوّل.
يثير تغوّل الدين مزيداً من غولية الدولة وخروجها على القياس. عنفه المطلق يثير عنفها ويطلقه. تريد بما هي دولة أن تمسي ديناً، ويريد زعماؤها البشريون المبتذلون أن يكونوا أرباباً معبودين.
ما أصاب الغرب من تغوّل الدين لدينا، يشجع بدوره مزيداً من تغوّله، على نحو ما رأينا بعد 2001. نتذكر أن الأميركيين سمّوا حربهم الأفغانية “العدالة اللانهائية”، ما يشي بتأليه ذاتي غير منقوص. ومعلوم أن جانباً من تغوّل الدين وفرط تسيسه كان محرضاً من القوة الأميركية ومن حلفاء عرب ومسلمين لها، السعودية ومصر وباكستان بخاصة.
التغوّل، في جميع الحالات، ليس قوة ساحقة فقط، وإنما هو تجاوز للحد وخروج على القياس الإنساني. تؤله تلك القوى نفسها، فتبيح لنفسها كل شيء، فتنقلب غيلاناً. قبل زمن الآلهة- الغيلان، لم يكن الغرب عقلاً وعدلاً، لكن لعله لم ينقلب غولاً إلا بعد 1967، ثم أكثر في تسعينات القرن الماضي وما بعد؛ ولم تكن الدولة لدينا إنسانية وقانونية قبل سبعينات القرن العشرين، لكنها لم تكن مسخاً فتاكاً إلى هذا الحد؛ ولم يكن الدين إيماناً وسكينة صافيين، لكنه لم يكن كذلك ربّاً رقيباً رهيباً كحاله اليوم (سنستدرك على هذه التقديرات بعد قليل).
نريد أنه كان يمكن أن يتطور كلٌّ من الغرب والدولة والدين في اتجاهات أقل جنوناً وغولية وأنانية، وأكثر إنسانية ومعقولية وكرماً. في سبعينات القرن العشرين أخذت الأمور كلها تخرج على التدبر والعقلنة، وكان الوقت فات على منع التحوّل الغولي. أخذ الغرب يظهر أكثر وأكثر كـ”حضارة” هنتنغتونية أو كطرف خاص، بالغ التطرف أيضاً، لا كأفق مفتوح لإنسانية متطلعة إلى “الحرية والمساواة والأخوة” للجميع. وأخذ الدين يظهر كسياسة وحزب خاص، لا كإيمان ولا كرابطة اجتماعية عامة. وأخذت الدولة تمسي جهازاً حزبياً أو إقطاعة مملوكة لخواص أقوياء، لا كدولة وطنية عامة.
مقاومات محبطة
لم يجر التغوّل من دون مقاومات متنوعة، كانت محدودة في النهاية بسبب ضمور العنصر الثقافي فيها.
قلنا إن التغول مركّب من عنصرين. عنف وقسوة مهولان، ثم فكرة أو مبدأ شاذ ومتناقض: الدولة الإلهية، الدين الدولتي، والغرب العالمي.
مقاوماتنا واجهت العنف وقاومته. أقلّ من ذلك بكثير، اهتمت بمواجهة الفكرة الشاذة أو بتطوير ثقافة ومعان أكثر إنسانية. هذه أهمّ بكثير.
قاومنا الاستبداد، غير أننا لم نستأنس الدولة أو نحوّل طابعها الغولي، لاستنادنا إلى نماذج ناجزة، إسلامية أو غربية. ما ننكره ليس “هوية” هذه النماذج، بل نجازها، ومن ثم تعاليها وخارجيتها حيال التفاعلات الاجتماعية والسياسية في بيئتنا. إلى ذلك، دولنا بالفعل “إسلامية” و”غربية” (أو حديثة) معاً، مهما يكن رأي الإسلام والغرب في ذلك. رمزياً وثقافياً، هي تأخذ من هنا ومن هناك، وبنيوياً هي توفّق بين هنا وهناك، أو بين قوى وبنى اجتماعية تتماهى أكثر مع هنا أو هناك، جاعلةً من الإسلام هوية بديهية ومن الغرب حداثة عامة.
ليست الدولة لدينا غولاً لأنها غير حديثة، بل لأن الحداثة (وقد أُدرجنا فيها على يد قوى منظمة مسيطرة من الخارج) منحازة تأسيسياً الى كل ما هو منظّم وفوق ورسمي و”عقل” ودولة… وغربي، وتالياً غير مؤهلة لضبط الدولة أو أنسنتها. بالمثل، ليست الدولة غولاً لأنها قليلة الإسلام، بل أيضا لأن الإسلام المعاصر موجّه كثيرا نحو السلطة، حيازتها والاستئثار بها وتعظيمها، ما يجعله غير قادر على بثّ روح إنساني في هذا الغول. فإن كان من فرصة لأنسنة الدولة، فإنها تمرّ عبر الصراع معها، وكذلك عبر الصراع مع المثالين الإسلامي والغربي، وبالتمرس السياسي والثقافي المتحقق عبر هذا الصراع، وليس في أي حال، استناداً لهما.
لقد جرت مواجهة التغوّل الديني أيضاً. وتمثلت أسانيد مقاومته في الدولة وفي الغرب، هذا كطرف سياسي وكحداثة. وبدرجة أقل بكثير، بتفكير نقدي مستقل منفتح على المقاومات الاجتماعية (غير المنعدمة) للسلطة والممارسات الدينية. لكن هنا أيضاً كان البعد الثقافي والفكري ضعيفا. توسلت الدولة بـ”الحل الأمني” في مواجهة الإسلاميين، واللافت أنها بلغت ذروة التغوّل في مواجهتهم، ربما بفعل الطباع المطلق لهذه المواجهة. لكنها توسلت بشيء آخر: دفع “الإسلام” ضدهم. في محصلة هذه السياسة انتصر الإسلام وهزم المسلمون. غدا الإسلام مطلقاً والمسلمون نسبيين جداً، لا شأن لهم. على هذا النحو، جرى اجتناب الصراع الفكري والثقافي والنفسي مع الإسلام، فخسرنا ميداناً رئيسياً من ميادين الأنسنة. وعلى هذا النحو أيضا غدا الإسلام سلطة قوية متمكنة في مجتمعاتنا، على يد النظم التي حاربت الإسلاميين. والسلطة تنجذب إلى السلطة وتقويها.
وتوسل مثقفون وإيديولوجيون بـ”الحداثة” لمواجهة الإسلاميين. لكن إما جرى التسليم بمعاصرة ناجزة لنا مع الغرب الحديث، تتيح لنا مشاطرته حداثته من دون إشكال، وتطبيق حلول جرّبها من دون مساءلة (فخسرنا فرصة إبداع مؤكدة)، وإما اعتمدت صيغة توفيقية بين “الإسلام” و”الحداثة”، ما يعني في الحالين تجنّب الصراع الفكري والثقافي. والحال، نميل هنا أيضا إلى أن الصراع المزدوج، مع الإسلام ومع الغرب (معهما، وليس ضدهما حصراً) هو ما قد يساهم في إنتاج معان ودلالات من شأنها أن تساهم في الحد من تغوّلهما معاً. أكثر من ذلك في كسب الصراع الثقافي (المعرفي والقيمي والرمزي) الذي قد يساهم بدوره في الحد من تغوّل الدولة أيضا.
لقد جرت مواجهة الغول الغربي، وقدِّمت تضحيات كبيرة جدا في هذه المواجهة. لكن البعد الثقافي والمعنوي كان ضامراً هنا أيضاً. إما أننا رفضنا الحداثة رفضاً برّانياً وتأثيمياً على طريقة عموم الإسلاميين، وإما قدّسناها ولم نتجاسر على نقدها على طريقة عموم الحداثيين. وبينما قد يشير التقديس والتأثيم (أو الأبلسة) إلى عنف المقاومات وضخامة رهاناتها، فإنه أيضا مصدر جزئيتها وتعثرها وإخفاقها. وهذا ما ينطبق أيضاً على تأثيم الإسلام باسم الحداثة ومشتقاتها. عدا أن المعادِلات السياسية لهذا المسلك نخبوية ويمينية وديكتاتورية حتماً، فإنه يقتضي تقديس الحداثة، بل تديينها، الأمر الذي تكاد الثقافة العربية تنفرد به عن الثقافة الغربية ذاتها، كما عن الهند وأميركا اللاتينية على الأقل.
هذا على رغم أن الحداثة الغربية (غربية لأننا لم نعمل في أي وقت على فصلها عن ملابسات ميلادها الغربية، الخاصة) تعرض كما قلنا للتو، انحيازاً تكوينياً إلى المنظم والرسمي والسلطة والغرب والطوابق العليا (في المجتمع وفي الدولة). لا يقود هذا الانحياز إلى جعل بيئاتنا الاجتماعية والثقافية غير مرئية فقط، وإنما إلى سياسات حكومية “تحضيرية” أو “استعمارية”. وهذا ما ظهر بخاصة في وجه المقاومات الاجتماعية الدينية التوجه منذ سبعينات القرن العشرين. لا نخطئ اليوم في القول إن العلاقة بين دولنا المتغوّلة ومحكوميها هي من النوع الإسرائيلي (والاستعماري عموما)، أي تحاكي علاقة إسرائيل بالفلسطينيين. فإن كان لنا أن نحوّل هذه العلاقة، فلا بد من المرور عبر منازعة الحداثة ومثالها السياسي.
هل يؤدي ذلك إلى خدمة “القدامة” و”الأصولية”؟ هذا محتمل، لكنه ليس حتمياً. ثمة نقد ونقد للحداثة. ويمكن تجنب ذاك الفخ بمباشرة منازعة مزدوجة، للقدامة كما للحداثة. يؤمل من منازعة كهذه، تطوير حداثة مختلفة، جمهورية وديموقراطية (مقابل نخبوية وسلطوية)، وتحوير المثال الغربي وتحريره من ملابسات ميلاده الخاصة ليحوز طاقة تحررية ومساواتية أكبر. من هذا الاعتبار نرى وجوب فك الارتباط بين الغرب والحداثة، لكن ليس لإعفاء هذه من النقد، بل لممارسة نقد اجتماعي وديموقراطي لها لا يختلط بملابسات النزاع السياسي مع الغرب.
نرى كذلك لزوم نقد مماثل، اجتماعي وديموقراطي، للإسلامية السلطوية وملاقاة التطلعات التحررية الكامنة في الإسلامية الاجتماعية المعاصرة.
نحتاج إلى طفرة ثقافية تمر حتما عبر هذا الصراع المزدوج.
الثقافة هي منهج مقاومة التغوّل، نظرا إلى أن هذا ليس عنفاً فقط، وإنما هو (لا) عقل أيضا، أو جنون، وإلى أن الثقافة عقل مضاد. أما الاستناد إلى الدين والدولة في مواجهة الغرب، وإلى الدين والغرب في مواجهة الدولة، وإلى الغرب والدولة في مواجهة الدين، فهو سياسة، ولا شيء غير سياسة. وهذه قد تكون نقيض العنف، لكنها ليست نقيض الجنون. فإن كان ذلك صحيحاً، على ما نرجح، فمفاده أن أكثر المثقفين في بلداننا سياسيون متنكرون، معبِّئون أو محرّضون أو دعاة. أو هم حزبيون ممارسون، وإن فضّل أكثرهم انتحال “الفكر” اسماً لنشاطهم. لكن الفكر هذا ليس غير إيديولوجيات أحادية الجانب، متمركزة حول الدولة مرةً (ضدها أو معها: ديموقراطية أو دولانية)، وحول الدين مرةً (علمانية أو إسلامية)، وحول الغرب مرةً أخيرة (قومية أو غربوية). وليس “المفكر” غير وكيل عقلاني لواحد من هذه الغيلان. في عالمنا الذي لا يطابق شيء فيه نفسه، كما سنقول للتو، ليست لا مطابقة المثقفين لأنفسهم بالأمر العجيب.
الأزمة الغولية
نعلم أن الغول أحد المستحيلات الثلاثة في ثقافتنا، إلى جانب العنقاء والخِلِّ الوفي (في صيغة أخرى، الرخّ بدل الغول). وهو مستحيل بمعنى ممتنع، لكنه مستحيل أيضا بمعنى متحوّل كائناً مسخياً. فإذا وجدت ثلاثة غيلان معاً، إذا وقعت ثلاثة تحولات مسخية، كان هذا علامة على استحالة ثقافتنا ذاتها، أعني قصورها في القيام بوظيفة العقلنة الأساسية، وما تقتضيه من نصب حواجز في وجه وقوع الممتنع، فتسهّل بذلك زوال الفوارق والتمييزات التي تشكل حمايات للعقل وللحياة. إذا اختلطت كل الأشياء وتساوت، فلا فرق بين خاص وعام، وبين ممكن ومستحيل، وبين طارئ ودائم، وبين إيمان وإكراه، وبين الدولة والدين، وبين الإنسان والله…، تمّحي الحدود أيضا بين إنصاف وعدوان، وبين مودة وبغض، وبين رفق وعنف، وبين صداقة وعداوة، فيتضاءل الفرق كذلك بين حياة وموت. يغدو الحُكْم (= السلطة، والقول الفصل) للقوة والجشع والبهيمية. ويمتنع النقاش والتفاهم حين يكون دين زيد دولة عمرو، وإكراه سين من الناس هو هداية عين. تتساوى الأشياء، فتنهار الثقافة. نحن في هذه الحال اليوم.
وإذ يتعذر على الثقافة أن تضبط المستحيل، تغدو هي ذاتها مستحيلة: ممتنعة، ومنتجة مسوخ أو غيلان. أو في الأصح، ما إن تتعطل فاعلية الثقافة كنظام تمييزات وفوارق، كقواعد لتنظيم العالم والمجتمع والنفس البشرية، حتى تنشأ الغيلان والأشباح والعفاريت والمسوخ من كل نوع. بهذا نعرِّف أزمة الثقافة.
هنا منشأ الغيلان: ضعف الفاعلية المؤنسِنة والمعقلِنة لثقافتنا. سبقت الإشارة إلى أن التغوّل خروج على المقياس الإنساني. يصلح هذا بدوره تعريفاً لأزمة الثقافة. ثقافتنا اليوم لا إنسانية، بمعنى أنها غير قادرة على أنسنة الدولة والدين والغرب (كسيطرة وكحداثة)، أو حتى على محورة اعتراضها على هذه القوى الثلاث حول مفهوم متسق للإنساني.
وهي لهذا في أزمة عميقة. معطلةٌ أو قاصرة لدينا فاعلية إنتاج الأشكال التي تزود الأشياء صورها، فتحدد هوياتها وتُميِّز بينها وتضبط مفاهيمها وتحول دون اختلاطها. في أساس الفاعلية هذه ضبطُ تيار الشعور الفوضوي وتحويله “وعياً”: أسماء ومعان وصور ومفاهيم متمايزة، لا تتداخل وتتراكب، فتشكل مسوخاً.
أما ما قلناه قبل قليل عن دور لكلٍّ من الغرب والدين والدولة في الأزمة، فهو الإطار الظرفي والتاريخي للأزمة. قد يعود التغوّل إلى سبعينات القرن العشرين، لكن على خلفية اعتلال ثقافي أقدم، يعود إلى الأيام المبكرة للصدمة الغربية (هشام جعيط)، صدمة الحداثة (أدونيس) في القرن التاسع عشر.
ليس غير مدرك الأزمة الثقافية يوفر مفهوماً موحداً لضروب المبالغة والإفراط والتهويل وتجاوز الحد في سلوكنا وتفكيرنا وانفعالاتنا؛ للتشوش العميق، المعرفي والعاطفي والوجودي، الذي يعمُّنا جميعا ويتولد من العيش في “شُواشٍ” واقعي، “خاووس” (Chaos)؛ للعنف المنفلت في حياتنا العامة والخاصة؛ للتعسف واللامبالاة بالمنطق في التفكير والنقاش؛ لعمى قلوبنا وقلة تمييزنا بين صديق وعدوّ؛ لأزمة الهوية الشاملة، أعني أن لا شيء يطابق نفسه، لا الدولة دولة ولا الدين دين ولا الحداثة حداثة، لا السياسة سياسة ولا الثقافة ثقافة… ولا المثقفون مثقفون.
وليس بغير مواجهة الأزمة الغولية، أزمة الاستحالة واختلاط الأشكال، يمكن أن تتشكل ثقافتنا من جديد، وتنتج أشكالا معقولة من جديد. وتتأنسن.
في سياق مواجهة الأزمة هذه، نقدّر أن مواجهة الغول الديني تتمتع بخصوبة خاصة، وتحوز طاقة تجدد ثقافي كبيرة. هنا منبتنا الرمزي أو شجرة نسب سلالتنا الثقافية، التي تشكل اليوم وغداً مرجع قياس إلزامياً لكل ما نفعل. وهنا تقيم “النماذج الأولية” لكل من الخلق والسيادة والحرية والعبودية والسلطة والإمكان والمطلق والمستحيل. وهنا، في مفهوم الله بخاصة، تقيم اللاإنسانية الجذرية أو المغايرة المطلقة للإنسان. من هذا الباب ترتبط فرص الأنسنة أساساً بالصراع مع الدين وترويض الغول الديني.
وبقدر ما إن الإسلام يجعل ممن “ليس كمثله شيء”، أي ما لا شكل له، مصدر كل الأشكال وضامن مطابقتها لذاتها، فإن المسافة بين ما لا شكل له وبين الإنسان الذي تشكل على صورة ما لا شكل له (الله)، هي حيز الثقافة، صناعة الأشكال الإنسانية وفاعلية الخلق الإنسانية. أو لنقل إن الثقافة هي الحل المستحيل للتناقض بين امتناع استقرار الله في أي شكل وبين خلقه الإنسان على صورته. كصناعة للأشكال، الثقافة هي ما يساعد الإنسان في أن يصوّر نفسه ويضيّق الهوة بينه وبين الله. المثل الأعلى للشكل (الإنساني) هو… اللاشكل، الشكل المطلق.
ثمة وجهة معاكسة هي وجهة الإسلاميين، الأكثر أصولية وعدمية ثقافية منهم بخاصة (الوهابيون): ينبغي أن يبقى العالم كله وفي كل وقت بلا شكل ولا فروق، متجهزاً فقط للموت. الجمال والمنطق والفنون نوافل. وليس الإصرار على أن تكون النساء بلا شكل، مغطيات بصورة تمحو أشكالهن، وأن يكون الرجال قليلي الشكل (ذقون غير مشذبة وثياب زريّة) معزولاً عن إرادة الفصل الجذرية بين الله والعالم، ورفض الثقافة، بما فيها أكثر التراث الإسلامي، كتوسط بينهما. الإسلام المضاد للوسائط، بما في ذلك وساطة النبي، وبما في ذلك الأولياء، وبما فيه زينة المساجد، الإسلام الوهابي، هو أيضا الأكثر عداء للثقافة والأكثر استخفافاً بالحياة وانجذاباً إلى الموت، والأكثر بداوة وبدائية.
أزمة أساسية!
أزمة الثقافة ليست أزمة ثقافية بالمعنى الشائع للتعبير. ليست أزمة معان ودلالات وأفكار واعتقادات أو تعاليم. وتالياً لا حلول ثقافية لها، على شكل معان جديدة أو أفكار حديثة أو نظريات علمية أو عقائد مختلفة أو مذاهب مغايرة لما نعرف. إنها أزمة نظام ثقافي، تطاول علاقات السلطة الثقافية ونظم إنتاج الأسماء والمعاني والدلالات والمفاهيم…، جملة ما يصنع الفوارق والاختلافات التي تؤسس الثقافة كنظام اجتماعي. يتعلق الأمر بأسس إنتاج الدلالة، بخاصة بالعلاقة بين أقوالنا وكلٍّ من “الوحي” و”القوة” و”الواقع”. هذا مهمّ دوما، وهو في “ثقافة كلمة”، كثقافتنا، أكثر أهمية بعد.
ليس ثمة حلول سلطوية أو بالقوة لأزمة الثقافة. ولا يوفر حل مشكلة الدولة حلاًّ لمشكلة الثقافة. الدولة أصلاً قوة خام لا شكل لها، تعسف. ما يجعلها ذات شكل هو “الثقافة”، القواعد التي تضبط القوة أو الأشكال التي تحوّل القوة الخام نظاماً إنسانياً. الثقافة، إذاً، هي حل مشكلة الدولة، وليس العكس.
ولا حلّ غربياً أيضا. الغرب إما “سلطة” (قوة غالبة مُقلّدة، بالمعنى الخلدوني؛ أو مرجع نظر وتفكير مقرر authority؛ هذا حين لا يكون قوة خاما ساحقة)، وإما هو “وحي” (ألوهة محجوبة، تُنزِّل عِلْمها الحداثي على مُصطفين). ليس حلاًّ في الحالين. ليس “الغرب” هو الحل. هو أيضا مستحيل لا شكل له، غول.
وليس ثمة حلّ إسلامي أيضاً. الإسلام لا شكل له اليوم، غولٌ لأنه لا شكل له. وما لا شكل له ليس حلاًّ لـ”تفشكلنا”، لأزمة التغوّل أو التشكل الغولي. كلمة “تفشكل” (متداولة في المحكية السورية، في صيغة “مفشكل” بخاصة) غير أنيقة، لكنها مفيدة جداً إذا يتكثف فيها مدركا الفشل وفقدان الشكل في دالّ واحد وتربط بينهما (أحمد بن فارس يعتبر أن الجذور الرباعية، “فشكل” في سياقنا، متحصلة من اندماج جذرين ثلاثيين: “فشل” و”شكل” هنا؛ ويُشكِل الشيء حين يلتبس أو لا يكون واضح الشكل).
في اختصار، لا حلّ ثقافوياً لأزمتنا الثقافية. الثقافوية معالجة توزيعية لأزمة لا تتصل بتوزيع المعاني أو اعتناقها أو تبنّيها، سواء أكانت هذه المعاني إسلامية أم حداثية أم توفيقاً ما بينهما. علماً أن الحلول المتداولة لأزمتنا الثقافية لا تعدو واحداً من هذه الاقتراحات الثلاثة: “الحداثة” أو “الإسلام” أو “التوفيقية”.
بكل همّة وحماسة، و”عقلانية”، يقول الداعية الحداثي (العفيف الأخضر، جورج طرابيشي…) إن الحداثة كُلٌ، وإن علينا أن نأخذ من الغرب الأسس الفكرية والفلسفية لتقدمه، وليس ثمرات تقدمه وحدها. الحداثة المقدسة على هذا النحو “هي الحل”. ولن نُرشَد أبداً إلى كيفية أخذها كلها، ولن يتاح لنا أن ندرك أن كل ما لا ننتجه بفاعليتنا الحية هو ثمرات أو نواتج، حتى لو كان مكتوباً على جبينه إنه فلسفة وعلم وعقلانية. تلك الأسس أسسٌ هناك، ولا تمسي أسساً هنا من دون منازعتها والصراع معها، وإعادة تأسيسها. الإنسانية أساسٌ، لكن الصراع مع غيلاننا (مع اللاإنساني الخاص بنا)، هو ما يؤسس للإنسانية عندنا، وليس مجرد القول إن الإنسان مركز العالم، وإن الحداثة متمركزة حول الإنسان. لا يستقيم موقف الدعاة الحداثيين إلا إذا اعتبرنا الحداثة ثقافة كونية ناجزة، صالحة لكل زمان ومكان، ينبغي اعتناقها فوراً وإلا “انقرضنا” أو “خرجنا من التاريخ”، على ما لا يملّ من القول أضرابهم من أصوليي الحداثة.
ما ينطبق على ثقافوية الدعاة الحداثيين ينطبق على الدعاة الإسلاميين (جميعهم، القرضاوي مثلا)، الثقافويين بدورهم والتوزيعيين بدورهم. لا ينتجون أي أسماء ومعان جديدة، ويريدون أن يكون “الإسلام هو الحل”. النتيجة هي الإسلام الأصولي حصراً، الحرفي والمضاد للثقافة. لماذا؟ لأنه كي يكون الإسلام حلاًّ، ينبغي أن يكون واحداً، واضحاً، ثابتاً، مماثلاً لذاته، صمداً، لا لبس فيه. وهو ما يقتضي طرد كلّ ما تكوّن حوله من وسائط، أي “ثقافة” و”تراث” و”تأويل”، الأمر الذي لا يلبّيه غير الأصوليين.
المستحيل هو الحل!
يبقى أن للكلام على تشكل غولي فائدة جانبية تتمثل في ما يقتضيه هذا التشكل، أو “التفشكل”، الذي لا يطابق أي شكل معروف أو الذي لا شكل له، من حاجة إلى تطوير استعدادات روحية وذهنية ونفسية لتفكير “مستحيل” أو “غير عقلاني” به، وبمعالجاته المحتملة.
حلول أزمتنا الثقافية تأسيسية فحسب، أي كبرى وإبداعية. أي أيضا “غير عقلانية” (فوق عقلانية، أو مقتضية لنمط أعلى من العقلانية). وأوّلها وأساسها الوقوف أمام الأزمة الغولية والصراع معها. من يصارع الوحش ينقلب وحشاً مثله، يقول نيتشه. لكن نحن وحوش سلفاً. عشنا طويلاً في عالم بلا أشكال، فلم يعد لنا شكل، ولم نعد نميّز. انقلبنا غيلاناً، لا مِثْل لنا. ولا تنضبط أشكالنا بمفاهيم وصور محددة. ليس السياسيون منا سياسيين، ولا المثقفون مثقفين، ولا الدينيون دينيين، ولا “الحداثيون” حداثيين، ولا شيء هو هو. كل شيء سائل ومنحلّ. هيولى أو فوضى.
وبقدر ما هي مهدِّدة، يسع هذه الفوضى أن تكون محرّكاً محتملاً للإبداع والخلق الجديد. في المقابل، يحتمل للأشكال المقررة والثقافة المستقرة أن تكون قيداً دون إبداع أشكال جديدة، بما قد يفتح الباب لنشوء غيلان جديدة.
للتقدم في معالجة أزمتنا الثقافية الغولية مقياس: ظهور الأشكال وانقراض الغيلان: دين هو إيمان، ودولة هي سلطة عامة مقيدة، وغرب هو محلة تحتل محلها فحسب.
بلغة أخرى، لا مناص من قتل ثلاثة غيلان من أجل تجددنا الثقافي. وسيكون التعريف اللائق بالمثقف هو مصارع الغيلان.
ختاما،
لا أحد يمكن أن ينوب عنا في هذه العمليات الأساسية. لا أحد بإطلاق. الغرب والإسلام الراهنان مشكلتان، ومثلهما التوفيقية أو التعسف. ألا يحتمل، في المناسبة، أن الدولة لدينا تعسفية لأنها لا تملك موارد ثقافية تتيح لها الانفلات من توفيق بين “الإسلام” و”الغرب” لا يسعه إلا أن يكون متعسفاً؟ إن كان ذلك صحيحاً، فإن الدولة الدستورية رهن بتجاوز التوفيقية وتحرر الإبداعية الثقافية في بيئتنا.
نحن، أجيالنا الحاضرة، هي من يقع عليها أن تصارع ثلاثة غيلان كي تؤنسن عالمها. ما من أحد هو “خلّ وفي” إلى حد أن يتطوع مكاننا في صراع أليم، وقد يكون مميتاً.
لكن من موت فقط، تنبعث العنقاء ¶
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى