صفحات ثقافية

لوي ـ فيردينان سيلين وجان جينيه.. الأدب يفضح العالم

null
رشيد بنحدو
تفيدنا المعطيات السيرية بأن سيلين عاش حياة اضطراب وقلق وتيهان توحي بالبحث عن شيء ما غيرِ اللعنات التي ظلت دوماً تلاحقه والكبوات التي كانت باستمرار تترصده. فبعد طفولة فقيرة تخللتها دراسةٌ ابتدائية دون المتوسط وبعض الإقامات اللغوية القصيرة في ألمانيا و إنكلترا، سيُضطرّ في سنّ الثانية عشرة إلى الانخراط في سوق الشغل التي لم تستجب لطموحه في أن يكون ذا شأوٍ وشأنٍ، فتطوّع جنديّاً في الجيش الذي سيغادره جريحاً من جرّاء مأثرة بطولية في الحرب العالمية الأولى، استحق عليها وساماً عسكريّاً ساميّاً سيُشفي غليله إلى المجد، مجدٍ سيعيش على نشوته متسكعاً في فرنسا وإنكلترا والكاميرون على إيقاع مغامرات مع الرعاع، منحرفين و متسوّلين ومهرّبين وعاهرات وراقصات وقوّادين. لكن حياة الهامش والمجون هذه لم تمنعه من القراءة وسد الثغرات الثقافية بعصامية متفانية ستتكلّل، وعمره خمسة وعشرون عاماً، بشهادة الباكالوريا التي ستخوّله، بعد سنوات من الدراسة، ونيل الدكتوراه في الطب، انسجاماًَ مع تهوّسه الغريزي بالصحة والطهر والنظافة من جهة، ومع استعداده الفطري إلى غوث قاطني الهوامش والضواحي، تعساء وبؤساء، مرضى ومجانين من جهة اخرى، وهو الاستعداد الذي دفعه إلى التخصص في الطب الاجتماعي. وبموازاة مع هذه الحمية العصامية، سيظل منجذباً إلى حواشي الأصقاع القصية في أوربا والولايات المتحدة وكوبا وكندا وإفريقيا، عارضاً خدماته، قبل أن يستقر في 1927 بباريس، حيث سيفتح عيادة طبية. ما يتحصل من هذه الإفادات البيوغرافية الموجزة هو أن سيلين تُحفّزه في تصوراته وتصرفاته رؤيةٌ للعالم إنسانيةٌ جعلته باستمرار ينحاز إلى فئة المهمشين، وكذا إصرارُه على مسارعة الزمن ومصارعة القدر ليثبت ذاته، اجتماعيّاً مرةً أولى، على هامش المؤسسة العائلية والتعليمية والاجتماعية، متجاهلاً بريق «المركز»، مواضعاتٍ طبقيةً وحُظواتٍ معنويةً وإغراءاتٍ ماديةً. لذلك، سيبادله التجاهلَ هذا المركزُ الذي سرعان ما سيفاجئه إقدامُ هذا الشابِّ ذي الأصل الاجتماعي الوضيع، العصامي وغيرِ المعروف في الأوساط الأدبية والإعلامية، على إطلاق قذيفة روائية في 1932، وعمره 38 عاما، عنوانها»Voyage au bout de la nuit « («رحلة إلى أغوار الليل»)، ستؤهله، حسب مؤرخي الأدب الفرنسي، ليكون مع Marcel Proust أكبر روائيي القرن العشرين، مثبتاً بذلك ذاته أدبيّاً هذه المرة. إن ما فاجأ «المركز»، ممثلاً في المؤسسة الأدبية الرسمية، أمران: أولهما أن الرواية – وهي محكيّ أوطوبيوغرافي مُموّه? استباحت هيبة الحس المشترك وحرمةَ الفطرة السليمة لدى صفوة المجتمع الفرنسي المحافظ. فعلى غير مثال سابق وعلى لسان سارد أفاق يدعى Bardamu، سيتجرأ سيلين على رسم صورة قاتمة رهيبة عن الحضارة الغربية المنهارة عقب الحرب الكونية الأولى، و ذلك من زاويتيْ نظرٍ غير مألوفتين: زاوية سوسيولوجية، حيث ان Bardamu يرصد بقسوة مازوخية أحوال الحثالة البشرية التي أقصتها التراتبية الاجتماعية الجائرة إلى غيتوهات في أرباض المدن، مثلما يرصد بشراسة سادية أحوال المحظوظين المستفيدين من هذه التراتبية. وزاوية أخلاقية، لأن السارد بطل مضادّ يتصف بالوقاحة والصلافة إزاء كل أشكال السلطة، عسكرية كانت أم كَنَسِيَّةً أم سياسية أم عائلية، حافزه على ذلك الاستخفافُ الفوضويُّ بنسق القيم الشائعة والحقدُ العدميُّ على الرأي العام. أما الأمر الثاني الذي فاجأ «المركز» وأثار سخطه، فهو أن سيلين قد تجاسر في روايته على انتهاك قداسة اللغة الفرنسية الأكاديمية بتلويثها المقصود بالكلام الشفهي، لا على ألسنة الشخصيات المتحاورة فحسب، بل كذلك وبخاصة على لسان السارد. فالشّاذ والمربك في هذه الرواية الفضائحية فعلاً هو إنجازها الأسلوبي الذي يستمد تميزه من ازدواج صفائية اللغة المعيارية بنيوية كلام أخلاط الناس وفظاظة استعاراتهم ولا نحوية تراكيبهم. والحاصل هو لغة معنّفة ومهجّنة يُجْمِعُ النقادُ على ألاّ أحد من الروائيين يضاهيه فيها ما عدا James Joyce في التقليد الإنكليزي، مما يغري بالقول إن اللغة هي بدون منازع البطل الحق لرواية «Voyage au bout de la nuit «، مثلما قيل ذلك عن رواية «Ulysse». ذلك أن أصالة الكتابة بالنسبة إلى سيلين لا تتأتّى مثلاً من الدفاع عن فكرة أو من إيصال موعظة، بل من إبداع أسلوب حوشي إرهابي قادر وحده على تفجير تلك الهالة من القدسية القدرية التي تجثم على اللغة الفرنسية وتحنطها منذ 1632، تاريخ إنشاء الأكاديمية الفرنسية الجليلة! وما زاد حفيظة «المركز» إثارةً، إضافةً إلى تعبؤ عدد من النقاد و الروائيين للدفاع عن سيلين وروايته والإشادة بمأثرته الأسلوبية، من عيار André Malraux وLéon Daudet وGeorges Bataille وBlaise Cendrars وLouis Aragon وElsa Triolet، هو مضاعفة سيلين لتصريحات صَحفية عاكسة بعمق ودقة لتصوره للكتابة، تنضح غروراً وتحديّاً، من هذا النوع: «ليست الأفكار والمواعظ ميدان تخصصي. فأنا لست رجل مواعظ. أنا لست رجل أفكار. هذا شأن الكنيسة. أنا رجلُ أسلوبٍ وكفى. إنني أكتب مثلما أتكلم. وقبل هذا، فأنا ابن الشعب، الشعب القح، المهمش بعيداً عن الأنظار في تلك الأرباض التي أفهمها وأحسها. إنها تهيّجني تلك الأفضية الضاحوية الكئيبة. يجب أن يكون لك أسلوب خاص لتكتب. وبعد هذا يمكن لك أن تتكلم عن المطر والجو الصحو، عن الحب والكراهية. فالأسلوب هو ما يتكفل بكل شيء. الحكايات والموضوعات يكفيك أن تنحني لتلتقطها، يكفيك أن تجيل نظرك في الشارع لتراها. أما الكتابة، أما التعبير عن إحساسك بالحمى، بالخوف، بالجوع، بالحب، بالغيظ، فهذا يتطلب ابتكار أسلوب. أنا، كالصانع الحِرفيّ، صاحبُ أسلوبٍ يُشيع حرارة الانفعال في لغة الكتابة التي صدئت وتكلست. أداتي هي لغة الشعب التي تؤلفها صور خشنة حِرِّيفَةٌ منبثقة من مشاعر الحقد والكراهية، والتي تستطيع وحدها التعبير عن لوعة الإحساس بالغبن والإقصاء. لغة الشعب التي تسعف وحدها العامل على أن يقول لمُشغّله الذي يكرهه، تعيش أنت حياة الرغد والرخاء وأنا أعيش حياة الكمد والشقاء. تستغلني وتتنقل في سيارة فارهة: لذلك، سأخرج مصارينك…». لكل هذا، شعُر «المركز»، هويةً ومؤسساتٍ ولغةً وثقافةً وقيماً وتقاليدَ وامتيازاتٍ ومصالحَ، بالخطر الذي يمثله هذا الكاتب المارق المارد. فانبرى لمحاربته، مستنفراً الكُتّاب الذين أربكهم قولُه المستفزُّ عنهم ذات تصريح صحفيّ آخر: «لماذا أكتب؟ سأقول لكم لماذا: أنا أكتب لأجعل الآخرين غير مقروئين»، ومستنفراً أيضاً محافل شَرْعَنَةِ الخيرات الرمزية، وفي طليعة هذه المحافل جائزةُ Goncourt، أكبرُ الجوائز الأدبية في فرنسا، التي تَسَرَّبَ من مكاتبها أن الفائز بها عن سنة 1932 سيكون بدون منافس هو Louis-Ferdinand Céline على روايته، والتي ستتراجع عن ذلك في آخر لحظة بإيعاز غاشم من المؤسسة الأدبية الراعية لسلامة اللغة والأدب لتمنحها إلى كاتب آخر مغمور وتافه هو Guy Mazeline. فكانت هذه المؤامرة الخسيسية فضيحة كبرى في تاريخ الأدب الفرنسي المعاصر، سيكون ردّ فعل محبّيه عليها هو منحه جائزة Renaudot. أما ردّ فعله هو على هذه المؤسسة وعلى سلطة «المركز» ككل الذي تنتمي إليه، فكان هو إمعانه العنيد في الاستخفاف بهيبتها، وفي تخريب مناعة اللغة الفرنسية في رواياته السبع اللاحقة، وفي معاكسته السلطة السياسية المركزية باتخاذ مواقف تعارض مواقفها الرسمية، كمناهضته للسامية اليهودية ودفاعه عن الإيديولوجية النازية، وهي الأمور التي أدت إلى منع كتبه تارة، وإلى نفيه تارة أخرى، وإلى اعتقاله تارة ثالثة.
القديس جينيه
جينيه: بين أخلاق مضادّة وصفائية اللغة بالاستناد إلى شذرات متناثرة من حياة جينيه، يتضح أن تجربته مع الدوكسا كانت شاقة مريرة. فقد تكالبت عليه مؤسساتها بضراوة منذ ولادته، مصدرة في حقه حكماً قاسياً بالتهميش والتحريم، سيردّ عليه طيلة حياته بإصراره على العصيان والتمرد، مما طبع رؤيته للعالم وممارسته للأدب بالعدمية والمأساوية. تنكرتْ له أولاً المؤسسةُ الأبوية: فهو مجهول الأب ومتخلَّى عنه من لدن أمه، حيث احتضنته في البداية مؤسسة للرعاية الاجتماعية قبل أن يتم إيداعه لدى أسرة فلاحين. وستظل هذه اللعنة القدرية الأولى جرحاً تهجس به استيهاماته وتلهج به معظم نصوصه. وسيقابلها بنزوع مكين إلى بُغض النساء. بالفعل، سيتشكل هذا الجرح الغميق اللا يندمل طيمة مركزية ستستحوذ على لاوعيه، إذ منه ستنبثق الشخصيات النسائية لرواياته ومسرحياته، شحاذاتٍ ومنحرفاتٍ وسارقاتٍ ومومساتٍ ومعتوهاتٍ… لا تستثرن سوى الحقد والنفور بسبب تخاذلهنّ وتقاعسهنّ عن تحمّل مسؤولياتهنّ أمّهاتٍ ومربّياتٍ. ولعل روايته ( Pompes funèbres) («مواكب جنازية») (1947) أحسن مثال للتشخيص الغروطيسكي الذي خص به المرأة.
وعلى أثر لعنة النبذ هذه التي فتح عليها عينيه، ستترصد له المؤسسة القضائية لتدينه بتهمة السرقة وعمره عشر سنوات. فكان ذلك ثاني جرح في حياته سرعان ما سيقاومه، على نحو غريب ومفارق، بالتكيف معه، حيث سيوجب على نفسه بكل مازوخية أن يتصالح مع شخصية اللص التي حُكم عليه بأن يكونها وأن يتآلف مع تبعاتها، وذلك بإدمانه السرقة فترة طويلة من حياته القلقة. وهي التجربة العسيرة التي ستقوده باستمرار إلى مؤسسات إصلاح الأحداث وإلى السجون، التي كان أحياناً ينجح في الفرار منها ليعود إليها باعتبارها «جنّته»، والتي سيقول عنها بعد سنوات في روايته الأوطوبيوغرافية ( Journal du voleur (1949) : «لأجل مقاومة الإحساس بالخراب الذي كان ينخرني، كنت أجبر نفسي على الالتزام بهذا المبدإ الصارم: أن أردّ من صميم قلبي بقول «نعم» على كل تهمة ضدي بالسرقة، حتى ولو كانت جائرة. ففي كل مرة كنت أقول «نعم» ? أو أي جملة دالة عليها – كنت أحس في قرارة نفسي بالحاجة إلى أن أصبح مَنِ اتُّهِمْتُ بأن أكونه». وسيكتشف جينيه عند بلوغه أن مؤسسةَ الفطرةِ نفسَها جبلته على أن يكون شاذاً جنسيّاً، وهي لعنة أخرى سيردّ عليها باستعذابها (من العذاب والعذوبة)، حيث لن يستنكف أبداً من التعهر العلنيّ بوضع جسده البض رهن نزوات اللواطيين الذين كان يتصيدهم في السجون والموانئ والشوارع والحانات والفنادق، والذين كان يقترن بهم بِزِيْجَاتٍ عابرة يختلط فيها الحب بالغيرة القاتلة. وتطفح رواياته بمشاهد صادمة للحس البورجوازي السليم تصور بكل حرية وتلقائية، وشاعرية أيضاً، طقوس مهرجان المداعبة والمغازلة والتعري والمضاجعة بينه وبين «أزواجه». فهذه رواية ازهار نوتردام مثلاً، الصادرةُ في طبعة سرية سنة 1944، تحكي مغامرات جينيه الغراميةَ في سجون مختلفة مع منحرفين ومجرمين شُغِفَ بهم على نحو جنوني، جعله تارةً يشبّه هذا بـ«وردة بهية ملغزة»، وذاك بـ«زهرة صوفية» وآخر بـ«ملاك نورانيّ» وآخر بـ«رئيس ملائكة بلّوري» وآخر ب «ندفة قطن». أما في روايته 1946(معجزة الوردة)، فإن الهيام والحمية يستبدّان به إلى درجة ترقيته هذا «الخطيب» أو ذاك «الزوج» إلى مقام القداسة، مبرّئاً إيّاه من كل جريمة اقترفها باعتبارها فعلاً مشروعاً. وهي الأمور التي ألّبت عليه سلطة الرقابة الأخلاقية التي كانت تحاكمه وتصادر رواياته وتمنع مسرحياته من العرض. فكان محبّوه من الأدباء، أمثال جان كوكتو، وجان بول سارتر واندريه مالرو وسواهم يتدخلون لأجل الإفراج عنه وفك الحصار عن كتبه. وإضافةً إلى المؤسسة العسكرية، التي لم تنج من نقده وسخريته في مسرحية (Les Paravents 1961) («الستائر») التي تدور أحداثها على خلفية الاحتلال الفرنسي للجزائر- فإن له قصةً طريفةً مع المؤسسة الأدبية، وخاصة النقد الأدبي. ففي 1952، أصدر جان بول سارتر دراسة رائعة عن جينيه في 700 صفحة بعد أن كانت ستكون مجرد تقديم في بضع صفحات لطبع أعماله الكاملة. وقد كانت لهذا الكتاب المعنون بـ: «القديس جينيه»، أهميةٌ مزدوجة: أولاً، نظراً لقيمته النقدية، حيث مثّل حدثاً بارزاً في مجال النقد الأدبي المعاصر، وثانياً، نظراً لأثره الكبير في جينيه وفي كتابته.
أثر سلبي
فعلى رغم عمق تحليلاته وسداد استخلاصاته وكذا فضله في ذيوع صيت جان جينيه، إلاّ أنه كان ذا أثر سلبي لم يتوقعه جينيه الذي أصيب باحتباس فادح أعاقه عن مواصلة الكتابة الإبداعية، يقول جينيه، «ستة أعوام لم أنتج خلالها سوى الرداءة و الغباوة». والسبب هو الارتباك والقلق الكبيران اللذان شعر بهما حين «رأيتُ نفسي مُعَرّىً من لدن شخص آخر غيري» هو سارتر. فلقد تعوّد جينيه فعلاً أن يكشف بنفسه عن نفسه للقارئ، لكن مع بعض المخاتلة والمكر والتمويه الذي هو أسّ الإبداع الأدبي الحقيقي. وحين قرأ الكتاب، أحسّ «بفراغ شديد نجم عنه تَلَفٌ نفسي». فكأنّ صديقه سارتر قد خانه، دون تعمّد، إذ فضحه بشكل صريح ومباشر. فماذا كان رد فعله؟ رمى بالكتاب في نار المدفأة و ظل ينتظر. «في جميع كتبي أتعرّى. لكنني في الآن نفسه أتنكّر بواسطة الكلمات، أتنكّر بواسطة التخريف، أتدبّر أمري لكي لا أتضرّر كثيراً. أما سارتر، فقد كشف عن عورتي دونما لطف أو مراعاة». أفلا يمكن اعتبار رد فعل جينيه ذاك إزاء دراسة سارتر موقفاً منحرفاً من المؤسسة الأدبية في شكلها النقدي، هذه المؤسسة التي تتقن بخبث لعبة إضفاء الشرعية على هذا الكاتب و تهميش ذاك؟ يحق لنا هذا الافتراض، خاصة إذا تذكّرنا نزعة جينيه العدمية. علماً بأنه استغل تلك الأعوام الستة ليتأمل في ممارسته للكتابة، تأمّل سيقوده إلى الإقلاع عن كتابة الرواية والتفرغ كلّياً للمسرح. وتجدر الإشارة إلى أن معاناة جينيه «للهامش» وتمرّده الدائم على «المركز» تحفّ بهما مفارقة حقيقية حيّرت النقاد، بمن فيهم جون – بول سارتر. فبخلاف لوي – فيردينان سيلين الذي لم يستثن، كما رأينا، مؤسسة اللغة من حملات انتهاكه للسلطات المؤسسية، فإن جينيه يحرص حدّ الهوس على معاملة اللغة الفرنسية بمنتهى المراعاة والرقة والعناية. فهو، على رغم استيحائه مادةَ نصوصه من تجاربه في الهامش ومع المهمشين، لم يكن يهتم بما يقوله قدر اهتمامه بأسلوب قوله، باعتبار أن وظيفة الأسلوب، في تقديره، هي تحويل مادة رذلة دنيئة إلى موضوع نبيل، بواسطة الكلمات والصور والأخيلة. ولذلك، فإن لكتابته قيمةً أدبيةً رفيعةً خلصت تجاربه من حموضتها واعترافاته من نيوءتها. وقد كان هو نفسه واعياً بهذه القيمة من خلال قوله المشهور: «إن مفخرتي لغوية، وأنا مَدين بها لبذخ كلماتي». لذلك، و خلافاً لسيلين، فقد قاوم الاستسلام كليّاً إلى إغراء لغة المهمشين البذيئة. يقول في روايته مواكب جنائزية: «إذا رضختُ للغة اللصوص الخاصة، فسأكفّ نهائيّاً عن الكتابة. سأفقد نعمة لغة الشعر التي أسعفتني على الارتقاء مع نصوصي إلى أعالي السماء. لقد كان عليّ أن أختار أو أن أناوب أو أن أخرس (…). فلتتحمّلوا إذن أن يكلّمكم شاعر هو أيضاً لصٌّ .
إن نصوص سيلين وجينيه، حتى وهي تتغنى بالفحش والبذاءة وتمتدح الهرطقة والزندقة، ليست في جوهرها أعمالاً انتهاكية إباحية تمجّد الشر بما هو قيمة عكسية للخير. فالفنان، يقول جينيه، «ليس أبداً مخرباً تماماً». إنها بالأحرى أعمال انقلابية تخون معنى الكلمات باسم أخلاق جديدة. لذلك، فهي بمثابة «بيانات سياسية» لا بد من أن تزعج السلطة الدوكسولوجية. أما مؤلفاها، فليسا أبداً في حاجة إلى جوائز أدبية أو تدبيرات رادّة لاعتبار ما. يكفيهما أن أسطورتهما الشخصية الموحدة قد حوّلتهما حيّين إلى قديسين، وميّتين إلى شهيدين.
(كاتب مغربي)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى