اسرائيلسلامة كيلةصفحات العالمقضية فلسطين

عن عودة المفاوضات المباشرةالسلطة تكيفت مع المشروع الإمبريالي

سلامة كيلة
كما كان واضحاً عادت السلطة الفلسطينية إلى المفاوضات المباشرة وفق الشروط التي وضعتها الدولة الصهيونية، أي بدون شروط مسبقة ودون وقف الاستيطان. ولقد نشأ الوضوح في ذلك من أمرين، الأول هو أن المفاوضات هي الخيار الوحيد الذي بات يحكم كل سياساتها، ومن ثم ليس أمامها من خيار حين التشدد الصهيوني سوى التراجع والقبول بما هو مطروح. وبالتالي فقد فقدت كل قدرة على المناورة وكل قدرة على الرفض، وكل التصريحات التي كانت تقول بالعودة إلى خيار الدولة الواحدة، أو التي تشير إلى حل السلطة، أتت في سياق احتجاجي أكثر مما حملت من الجدية التي تجعل الولايات المتحدة أو الدولة الصهيونية يأخذانها بعين الاعتبار. والأمر الثاني يتعلق بالمصالح التي نشأت عن وجود السلطة لدى فئة من الذين يمسكون بزمام السلطة، أو المستفيدين منها. إن كل ميزانية السلطة هي إما من الضرائب على الفلسطينيين التي تأتي عن طريق الدولة الصهيونية، أو مساعدات من “الدول المانحة”، وهما مصدران مسيطر عليهما فلا يمكن صرفهما إلا بموافقة هؤلاء، ولهذا تكون السلطة محكومة باستمرارها لرضا المانحين والدولة الصهيونية أو تنهار. لكن الأكثر خطراً هو تشابك المصالح الاقتصادية بين تلك الفئة والرأسمال الصهيوني، وغلبة النشاط الاقتصادي لديهم على مصالح الوطن. إنهم يتحولون إلى كومبرادور فلسطيني. أو لقد تحولوا إلى كومبرادور فلسطيني. ولاشك في أن حصرهم العمل على المفاوضات فقط نابع من هذا الأساس الذي يجعلهم يتمسكون باستمرار العلاقة مع الدولة الصهيونية، وبالرعاية الأميركية من أجل استمرار مصالحهم. وهو الوضع الذي يفرض عليهم إطلاق كم هائل من الأوهام من جهة، والتخويف من وقف مساعدات المانحين، وأثر ذلك على أكثر من 160 ألف موظف من جهة أخرى، من أجل لجم المعارضة الممكنة لاستمرار المفاوضات.
في هذا الوضع ستكون حدود المناورة معدومة أصلاً، لأن استمرار السلطة مرهون برضا “العدو” الذي يجري التفاوض معه من جهة، كما هو مرهون من جهة أخرى بمصالح هذه الفئة التي تحكم سيطرتها على السلطة من خلال أجهزة تدربت بإشراف أميركي ووفق سياسة تنطلق من “مقاومة الإرهاب” وليس “الدفاع عن استقلال السلطة”، أو الوصول إلى التحصّل على استقلال حقيقي للسلطة.
إذن، ستكون العودة إلى المفاوضات المباشرة هي عودة تستتبع الموافقة على شروط إسرائيلية تالية أساسها القبول بدولة في حدود مؤقتة تشمل لمام الكانتونات التي أصبحت أمراً واقعاً، وأيضاً الموافقة على ضم غور الأردن للدولة الصهيونية، وغض النظر عن التوسع الاستيطاني. أي القبول بالحل النهائي الذي رسمته الدولة الصهيونية، الذي يقوم على أن تبقى السلطة هي سلطة إدارة مدنية ذاتية على هذا الشتات من الأرض. وضمن ذلك تكون الأجهزة التي دربتها الولايات المتحدة هي الضامن للأمن في هذا الشتات، وتحت سلطة شكلية للسلطة وفعلية للدولة الصهيونية.
ولقد استدعت هذه الخطوة النقلة العودة إلى النظم في البلدان العربية من أجل إعطاء “الشرعية” الضرورية لحماية تلك الفئات وتبرير ممارساتها. لقد استدعت “تعريب” القضية الفلسطينية من جديد بعد أن كانت الفئات ذاتها التي تسيطر الآن (أي قيادة حركة فتح تحديداً) هي التي فلسطنت القضية وقزّمتها، فوضعتها في نفق مظلم لا يوصل سوى إلى هذه النهاية البائسة: أي القبول بالحل الصهيوني. وإذا كانت الفلسطنة هي مدخل الانهيار لأنها وضعت الشعب الفلسطيني في ظروف لا تسمح بنضال حقيقي حيث ستظهر النظم العربية كسدّ مانع لـ “نضاله” كونه ينطلق من “أرضها”، وبالتالي أظهرت هذه “الإستراتيجية” بأن الشعب الفلسطيني وحده، ليس في مواجهة الدولة الصهيونية فقط بل في مواجهة مع النظم العربية. وهو الأمر الذي أسس للقبول بالتنازلات المتتالية منذ “النقاط العشر” إلى اتفاق أوسلو. إذا كانت الفلسطنة هي المدخل لكل ذلك، فقد أصبح التقدم أكثر يفرض العودة إلى “العرب” من أجل تحقيق النقلة الأخيرة، تلك المتعلقة بالموافقة على الحل الصهيوني.
فالنظم العربية كانت قد تكيفت منذ زمن طويل مع السيطرة الأميركية، وهي تحكم من قبل فئات الكومبرادور الذي ينشط في التجارة والمال كوسيط وتابع للرأسمالية الأم المتمركزة إلى الآن في الولايات المتحدة. غنها نظم الكومبرادور الذي يشكل صيغة الهيمنة الإمبريالية على الوطن العربي. وضمن ذلك، كان ضرورياً أن يتوافق مع الوجود الصهيوني والدولة الصهيونية، حيث أن الرأسمالية الأم تعمل على ترتيب المنطقة انطلاقاً من الدور الهيمني للدولة الصهيونية كونها جزء عضوي منها، ومرتكز سيطرتها، وقاعدتها العسكرية الأساس. وبالتالي يجب على هذه النظم أن تكون “تحت الهيمنة” الصهيونية، من خلال إقامة علاقات تبعية معها، وتكريس الانفتاح الاقتصادي، والدور الأمني النشط. والنظم تتكيف مع هذا الوضع ما دامت ملحقة بالرأسمال الإمبريالي، ومصالحها تتحقق فقط عبر هذا الالتحاق. لكن لا بد من موافقة فلسطينية على حل من أجل ألا يكون هناك ما يحرج التقدم على هذا الطريق “الثوري”!
هنا تحققت “المساومة”، حيث يكون هناك غطاء عربي لموافقة فلسطينية على الشروط الصهيونية تحت الرعاية الأميركية. وربما هذا ما سوف نشاهده في الأيام القادمة بعد الفرض الأميركي لعودة المفاوضات “دون شروط مسبقة”، وبمشاركة بعض النظم العربية (مصر والأردن).
لكن هذا السياق يفرض علينا أن نتعامل مع السلطة الفلسطينية كممثلة للكومبرادور الذي انضوى تحت السيطرة الصهيونية الأميركية، وأن لا نظل تعتبر أنه جزء من “حركة التحرر الفلسطينية”، فقد بات جزءاً من الكومبرادور العربي الذي هو التمظهر العملي للسيطرة الإمبريالية على الوطن العربي. إنها جزء من البنى الطبقية التي تترابط مع الرأسمال الإمبريالي، وتفرض التكيف العملي مع مصالحه.
المؤسف أن منظمة التحرير الفلسطينية مهيمن عليها، ولجنتها التنفيذية تتخذ القرارات التي تريدها السلطة. وأن رهط كبير ممن شارك في المقاومة طيلة عقود، من فتح ومن كل التنظيمات الأخرى، بات يعتاش من فُتات السلطة، فهم موظفو الدرجة الأولى فيها، وبالتالي يتكيف مع سياساتها أو يقبلها دون تردد. ربما إذن، لم يعد لدينا حركة تحرر، وعلينا أن نبحث عن أفق جديد لحركة تحرر جديدة. لم تعد منظمة التحرير تعني شيئاً، سوى أنها تعطي “البصمة” لسياسات مضادة للتحرر وتقرر التكيف مع الاحتلال. ولم يعد “البرنامج المرحلي” سوى النقلة التي أوصلت إلى أوسلو، وأوسلو أوصل إلى ما نشير إليه، وبالتالي فقد كان خطيئة لاشك في ذلك. والفلسطنة بحاجة إلى “نفض يد” لأنها كانت أصل الخطيئة تلك. والمقاومة المسلحة بحاجة إلى إعادة بناء، لكن على أسس جديدة ووفق رؤية عميقة لطبيعة الصراع مع المشروع الصهيوني، الذي هو مشروع إمبريالي أصلاً وفصلاً، وهو مشروع قام في مواجهة التحرر العربي، والوحدة القومية، وقبل كل ذلك ضد التقدم والتطور في الوطن العربي.
في هذا الوضع هل من فائدة لتكرار المعزوفة حول المصالحة، وحول “تفعيل منظمة التحرير”، والوحدة الوطنية و”الدولة المستقلة وعاصمتها القدس”؟ لقد تحقق الفرز وبات كل حديث من هذا القبيل هو تبرير لكل السياسات التي تتبعها السلطة، وربما كانت المصالح أكثر من ضيق الأفق هي التي تفرض استمرار هذه النغمة حيث هناك من بات “معتاشاً” من العلاقة مع السلطة، ومن أجل ذلك يمكن أن يسرد كل مبررات استمرار العلاقة، بينما يفرض الوضع الذي وصلنا إليه القطع، والتقدم لإعادة بناء النضال الفلسطيني، لكن هذه المرة في إطاره الشعبي العربي. وكل تلكؤ في هذا السياق هو خدمة لما يجري، ودعم لسلطة باتت في الموقع الآخر.
لقد انتهت مرحلة جديدة من النضال الفلسطيني إلى ما هو مأساوي ككل النضالات السابقة، ولا بد من بدء مرحلة جديدة.
الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى