صفحات ثقافية

العالم يحتفل بتولستوي

null
من المتوقع ان يكون هذا العام 2010 عام الروائي الروسي تولستوي مع اقتراب ذكرى رحيله تحديداً في 7 تشرين الثاني من العام الجاري، وثمة احتفالات ستشهدها روسيا والولايات المتحدة الأميركية وألمانيا وعدد كبير من الدول المشاركة.
وستصدر ترجمات جديدة وبمختلف اللغات لروائعه الادبية خاصة “آنا كارينينا” و”الحرب والسلم”، وستقام معارض لكتبه في كل من كوبا والمكسيك اضافة الى بث أفلام وثائقية تظهر الكاتب في لقطات نادرة وغير معروفة له في الصحافة والاعلام وذلك حسب تصريحات لمسؤولين في صحيفة “الغارديان” البريطانية.
ويُعرض هذا العام الفيلم السينمائي الجديد “المحطة الأخيرة” وهو من بطولة هيلين ميرين وكريستوفر بلام وجيمس ماكافوي وهو من إخراج وكتابة مايكل هوفمان استناداً الى كتاب جاي باريني الذي يتناول فيه المؤلف العامين الأخيرين من حياة المبدع الروسي الكبير، ويستوحي مناخات الرواية أي الفيلم الحالي من حادثة وفاة تولستوي في إحدى محطات القطار.
وكان ينوي المخرج هوفمان تصوير الفيلم في محطة في ياسنايا بوليانا حيث ولد وعاش الاديب.
وقد جرى أخيراً تصنيف تولستوي في الغرب على انه الروائي الأعظم في التاريخ ووضعت مجلة “نيوزويك” رواية “الحرب والسلم” على رأس قائمة بأسماء مئة رواية من روائع الروايات في العالم.
وفي هذه الذكرى، أصبحت قرية الكاتب مركز سياحة للزوار من مختلف انحاء العالم: وثمة تغطيات إعلامية وتلفزيونية وصحافية تقوم بتغطية هذا الحدث الذي بدأ منذ مطلع العام ويجري في جمالية مؤثرة حيث تصل القطارات الخاصة من موسكو تحتشد بالسياح وقد زينت بمشاهد وصور من كتابات تولستوي.
لم يكن تولستوي روائياً وفيلسوفاً وحسب انما هو كتب مؤلفات عديدة في الشؤون التربوية التي لها علاقة بالمدارس والتعليم. والمعروف انه بنى مدرسة اشتهرت في قرية مجاورة لمنزله وصارت تستقبل التلاميذ من كل حدب وصوب وكانت تعرف “بمدرسة تولستوي”. ولقد حاول تولستوي تعليم اولاد الفلاحين في تلك المدرسة التي أسسها في العام 1860.
عرف تولستوي في الغرب أكثر مما عرف في موطنه روسيا، ولا زالت المؤسسات الرسمية الروسية لا تبدي اهتماماً كبيراً بالروائي الأكثر شهرة في العالم ومواطنها، وقد يرجح ذلك حسب ما ذكرته دراسات كثيرة الى الاضطرابات السياسية في روسيا منذ تفكك الاتحاد السوفياتي.
ولأن تولستوي مات في محطة قطار صغيرة بدا لأهالي منطقة هذه المحطة ان الاديب كرمهم بذلك فما كان من القيمين هناك على المحطة وبعد مرور مئة عام على رحيل تولستوي الا ان شرعوا بتكريم له من قبلهم وعلى طريقتهم، فمنذ بداية العام، توقفت عقارب ساعة الحائط الكبيرة في محطة آستابوفو على التوقيت التالي: السادسة وخمس دقائق وهي الساعة أو اللحظة التي مات فيها تولستوي هنا على بعد أمتار من ساعة الحائط تلك. وبعد مئة عام، لم تتغير المحطة الخشبية بمقاعدها المخصصة للانتظار وكل تفاصيلها، وخاصة غرفة مدير المحطة التي نقل اليها تولستوي في حالة صحية طارئة ثم ما لبث ان فارق الحياة.
ويقام في منزل تولستوي في قريته معرض دائم طوال العام وفيه كل أغراضه الباقية، مخطوطاته، صوره، وبعيداً منه أي على بعد مئة متر مقبرة الكاتب في حديقة المنزل وهي غاية في التواضع وتحمل لافتة كتب عليها: “ليو تولستوي (1828 1910)

تولستوي، “شكسبير” الرواية الروسية، في الذكرى المئوية الأولى لرحيله
الأرستقراطي الثري الذي وَهَبَ إبداعه للعالم وممتلكاته وقصوره للفقراء
كوليت مرشليان
منذ مئة عام، رحل الأديب الروسي ليون تولستوي (1828 1910) وعلى خطى بطلته الشهيرة “آنّا” في رواية “آنّا كارينينا” أنهى حياته في محطة قطار متواضعة هي محطة “آستابوفو” حيث لفظ أنفاسه الأخيرة وأغمض عينيه على العالم. وإذا صاحب أشهر روايتين في العالم: “الحرب والسلم” و”آنّا كارينينا” كان قد أصبح في قمة التقشّف والزهد بعد الثروة الهائلة التي جمعها من إمبراطورية الكتابة، فهو لبس ثياب الفقراء ووهب ماله وممتلكاته للفلاحين في قريته وهام على وجهه “لينهي حياته كما يريد”، فربما هي لعبة الأقدار التي شاءت أن يتوجه في يومه الأخير الى محطة قطار مسافراً الى بلغاريا، فينهار كلياً بسبب إصابته بالتهاب رئوي حاد ويموت هناك.
كأن في ميتته تلك وفي ذلك المكان بالتحديد ما يتواصل مع انتحار بطلته الشابة “آنّا” التي رمت بنفسها أمام القطار. وكأنه جاء ليسهر على موتها وعلى ذكراها، تلك التي ذابت من شدة الحب ومن فرط الأحاسيس ومن قوة التحدّي لمجتمعها. ماتت عنه قبل أعوام وها هو يعود إليها ليذوب هادئاً في ظل انتحارها الصاخب. “آنّا” البطلة الشابة الجميلة العاشقة والرافضة والثائرة أحيت للحظات في صدره الهالك وفي ذاكرته التي هي ذاكرة بلاده ومجتمعه على مرّ ما يقارب القرن كل حياته كشريط سينمائي وعلى صوت صفّارة القطار وضجيج السكة الحديد وأصوات المسافرين أغمض تولستوي “شيخ الروائيين” و”أعظم روائي في التاريخ” عينيه ليكسب موته تماماً كما أراده حين لم يعش حياته خصوصاً السنوات الأخيرة كما حلم بأن يعيشها.
وليس غريباً على أي دارس لحياة تولستوي أن يبدأها باتجاه معاكس، أي من النهاية الى البداية لأن ما طمح الى عيشه هذا الكاتب في أيامه الأخيرة كان أشد غرابة وأعظم بالإحساس والإنسانية من كل ما كتبه في مؤلفاته.

فحين بلغ تولستوي الثمانين من عمره، كانت شهرته قد ضربت كل أقاصي الأرض وترجمت أعماله الى لغات عديدة. وكان أرستقراطياً حقيقياً يحمل لقب الكونت ليو نيكولايفيتش تولستوي ويعيش حياة رغيدة ويتنعّم مع عائلته بثروة كبيرة جمعها من نجاحه العالمي وبممتلكات وصلت الى أن يمتلك القرية التي يعيش فيها. لكن تولستوي الذي كان قد بدأ يميل منذ سن السبعين الى تغيير كل نمط حياته. تنازل عن ضيعته لأهلها وعن أرباح مبيعات كتبه لزوجته ولبس ثياب الفقراء وراح يعيش في الحقول المجاورة لبلدته يكسب ماله بعرق جبينه. وذاع صيته في روسيا وخارجها وتهافت الناس يبحثون عنه لمعرفة تفاصيل حياته باعتباره فيلسوفاً له مبادئه الخاصة. أما زوجته، فقد ثارت على كل هذا الموضوع وسعت الى اتهامه بالجنون لاستعادة ممتلكات العائلة واعتبرت أن حياته بين الفلاحين ونومه في أكواخهم وارتداءه ملابس تشبه ملابس الفقراء أمر يدعو الى الاشمئزاز. وكان ردّ تولستوي عليها برسالة طويلة وشهيرة تركها لها ذات يوم قبيل رحيله النهائي عن المنزل وجاء فيها: “أصبح وضعي غير محتمل في هذا المنزل يا صوفيا. لم أعد قادراً على ممارسة حياتي اليومية في هذه الرفاهية التي تحيط بي وبات الثراء يخنقني. وما أنشده هو عالم من السكون والوحدة، لا يفسده ضجيج المال، وأنانية الثراء، ووحشية الرغبة في التملّك…”. في كل هذا نقرأ حياة تولستوي وكأن هذا الأخير اختار في عرشه على مملكة الأدب والكتابة أن يقول إنها ليست مملكة من هذا العالم، فلا تاج ملكها مرصّع بالماس والذهب ولا ثيابه ولا ماله ولا قصوره لها علاقة بممالك الأرض.
الداعية للسلام
وفي الذكرى المئوية الأولى على رحيله، نتذكر ليون تولستوي في مروره الرائع على هذه الأرض فكان الروائي والمفكر والفيلسوف والداعية للسلام وهو اعتبر من المؤسسين أو من المهندسين للثورة الروسية ومصدر وحيها وقد وصف نفسه يوماً بالآتي: “إن جسمي يشدّني الى شكل فلاح روسي حقيقي…”. وهو كان شغوفاً بالمعرفة والعلم ومعروف عنه قوله: “أشعر بحاجة ملحّة الى أن أعرف وأعرف وأعرف وأعرف…”. ويقال بأن لينين طوّر شعاره الثوري منه فقال: “أيها الرفاق، تعلموا تعلموا تعلموا…”.
ولد الكونت ليو أو ليف تولستوي في 9 أيلول 1828 في قرية روسية صغيرة هي ياسنايا بوليانا وتمتلكها عائلته الأرستقراطية قرب موسكو. توفي والده وهو لما يَزَل صبياً صغيراً، فتولّت خالته تربيته، وبدأ يتلقى علومه على يدّ مدرسين خصوصيين. في العام 1844 وكان في السادسة عشرة، التحق بجامعة قازان لكنه لم يحب طريقة التدريس فيها، وفي تلك المرحلة، ظهرت لديه الميول الثورية والانتقادية البنّاءة، وحين سيصبح في ما هو عليه من شهرة سنكتب أيضاً إصلاحات في الشؤون التربوية في بلاده. ترك الدراسة عام 1847 قبل أن يتخرّج وعاد الى مسقط رأسه. بدأ بتثقيف نفسه ثم شرع في الكتابة. ومن مؤلفاته في البدايات: “الطفولة” نشرها عام 1852، ثم “الصبا”، 1854 و”الشباب” 1857، وفي تلك المرحلة من الكتابة كان مسافراً الى القوقاز حيث شارك في الحرب القوقازية.
ثم شارك في حرب القرم متطوعاً في الجيش حيث أظهر شجاعة فائقة لكنه كره الحروب وما ينتج عنها من بشاعات فكتب من وحي تجربته هذه “القوقاز” عام 1863 وتحتوي على قصص قصيرة، وبعدها كتب “قصص من سيفاستوبول” عالج فيها موضوع الحرب. لكن كتابه العظيم “الحرب والسلم” الذي يُعتبر حتى اليوم من أعظم الروايات في التاريخ فقد كتبه بعد تلك التجربة القاسية في الجيش والحروب وتحديداً بين 1863 و1868 ليصدر في العام 1869. و”الحرب والسلم” ملحمة تاريخية تغطي الأحداث السياسية والعسكرية في أوروبا بين 1805 و1820 ومن أبرز ما يتناوله من أحداث في “الحرب والسلم” غزو نابوليون لروسيا عام 1812. غير ان الظاهر من الرواية المتعلق بالأحداث هو جزء بسيط منها، فتولستوي رسم صورة عن البلاد بأسرها ودخل في تفاصيل حياة أفراد في المجتمع الروسي، حيث القارئ مدعو الى موسكو في بداية القرن التاسع عشر: في غرب البلاد الحروب التي يقودها نابوليون في أوجها، اما في موسكو فاللقاءات الاجتماعية تتواصل، خاصة تلك التي تضم شخصيات سياسية تدلي بآراء حول الحرب “بالفرنسية” التي صارت منتشرة آنذاك في المنطقة، واللقاءات تعني الحفلات ودعوات على العشاء والعيش اليومي الهانئ الى حين يأتي يوم ويدخل بونابرت الى روسيا: الكل ينهض لمواجهة الاحتلال. وحاول تولستوي ان يجسد من خلال شخصيات رمزية تصور كل المجتمع الروسي تلك الحقبة المحتدمة: الجندي الشاب والمناضل نيكولا وشقيقته ناتاشا ووالدهما الكونت روستوف، والأمير اندريه بولكونسكي وبيار، الابن غير الشرعي للكونت بزوكوف… من ينسى هذه الشخصيات المؤثرة من عالم تولستوي؟ ولكن ثمة ما حصل بعد أعوام حين كتب تولستوي روايته الطويلة الثانية وكانت بعنوان “آنا كارينينا” وصدرت عام 1877 وكانت رائعته الثانية التي انتقل من خلالها من معالجة الشؤون السياسية والوطنية الى القضايا الإنسانية والفلسفية العميقة، وهو وضع فيها بطلة نموذجية تدعى “آنا” وقعت أسيرة عواطفها الجامحة وشغفها بحب رجل جعلها تثور على مجتمعها وواقعها، وبهذه الرواية وجه الكاتب ضربة موجعة في وجه الأسس العائلية الزائفة في مجتمعه.
“الحرب والسلم” و”آنا كارينينا”
وإذا كان تولستوي قد كتب بعد روايتيه “الحرب والسلم” و”آنا كارينينا” العشرات من المجموعات القصصية، فإن الرواية لديه طبعت مسيرته وتعد “الحرب والسلم” ذات قيمة تاريخية حيث الأحداث في تدفق مستمر من تاريخ البلاد ومن حاضره في حياة الأبطال وهم في خمس عائلات روسية تمر في تجارب إنسانية وبخاصة بطله بيار بيزوخوف الكاتب المحب للسلم الذي يتلقى الاهانات من كل صوب في مجتمعه لرفضه خوض الحروب والمشاركة فيها على غرار شباب جيله، لكنه بعد غزو نابوليون بلاده ومشاهدته أهوال ما حدث من حوله انضم الى صفوف المقاتلين وعاش تجربة قاسية بين مشاعره الوطنية وواجبه بالدفاع عن عائلته ومحيطه ومبادئه الرافضة لفكرة القتل ليصل في نهاية المطاف الى حالة اكتئاب من واقع الطبيعة الإنسانية وكيف ان الإنسان يميل الى تمجيد القتل والحروب. وإذا هو وضع في “الحرب والسلم” 600 شخصية مثلت مجتمع بلاده فكل شخصية كانت قائمة بذاتها وتتفرد بتاريخها. اما كتابه “آنا كارينينا” فقد غاص فيه وعبر شخصية بطلته الى عمق القلب الإنساني النابض بالعواطف والأحاسيس واستطاع ان يفهمه بمقدرة غير عادية وتمكن من رؤية الحقيقة المجردة والعارية الكامنة فيه، وقد اعتبر كبار النقاد كما الروائي الكبير دوستويفسكي من بعده انها رواية “الكمال”
وان مغزها يشكل امتداداً لرؤية تولستوي الخاصة الى الإنسانية في الجريمة والخطيئة والشر مقابل السلم والحنين وكل ما عاشته بطلته “آنا” ليس أكثر من ذريعة ثانوية استعان بها الكاتب للولوج من خلالها الى الحقيقة الكبرى التي سعى كل حياته لشرحها أو الإفصاح عنها. ومئات الأبطال في “الحرب والسلم” اختصرهم هنا في شخصية واحدة وإن وصفها من حولها مجتمع بكامله.
لكن ثمة تشابه كبير بين تولستوي وآنا بطلته وإن هي من نسج الخيال وشيء من الواقع حيث حدث فعلاً في منطقة مجاورة لسكن الكاتب ان انتحرت امرأة بسبب الحب ورفضها لواقعها وتأثر أشد التأثير بالحادثة. غير ان تولستوي يلتمع في صورة وجه “آنا” في المرآة، في مرآة روحها المتعطشة الى الانعتاق والتحرر، وقد اثارت هذه الرواية جدلاً واسعاً في الأوساط الثقافية الروسية، لكن بعد فترة وجيزة صارت واحدة من روائع الادب المكرّسة، حتى قال فيها دوستويفسكي: “ليس ثمة عمل ادبي في أوروبا كلها يمكن مقارنته بها”، فشكلت “آنا” مع حبيبها وعشيقها “الكونت فيرونسكي” ثنائياً في لائحة أساطير الحب الخالدة. ولم تكن نهاية “آنا” غير متوقعة فهي قد جسدها الكاتب مأسوية انما مجبولة بذاك المجهول الذي مضت صوبه البطلة بموتها وكأن دائرة التعاسة معه قد اقفلت على انعتاق وتفلت يعبقان برائحة الحرية التي تبدو اكسيراً لمأساة هؤلاء الذين يصفهم منذ الجملة الاولى في الرواية بالتالي: “كل الأسر السعيدة متشابهة، اما الاسر التعيسة، فلكل منها قصتها المختلفة وتعاستها الخاصة والمميزة…”.
في القصة والمسرح والسيرة:
اعتراف
وإذا كانت الرواية قد حجبت الرؤية لفترة زمنية معينة عن باقي أعمال تولستوي من شدة تأثيرها على القرّاء والنقّاد أو حتى في البداية من شدة القسوة عليها من السلطات الروسية وخاصة من الكنيسة، فإن مجموعات القصص القصيرة الى جانب المسرح وكتب السيرة وأيضاً الأبحاث في الفلسفة والتربية والدين والتي تعد بالعشرات تعطي مجتمعة فكرة واضحة وشاملة عن فلسفة تولستوي وفكره كما تروي السيرة في محطات حياته المتنوعة: “قصص من سيباستوبول”، 1855 و”عاصفة الثلج”، 1856، “بوليكوشكا”، 1863، “موت ايفان ايليش”، 1886، “السيد والخادم”، 1895، “هكذا يموت الحب” و”مذكرات مجنون” و”الاب سيرج” 1898، “ما رأيت في الحلم” 1906، وغيرها من القصص القصيرة. اما في المسرح فكتب “قوة الظلمات” عام 1887 و”ثمار العلم” 1890.
وفي الفلسفة والدين وعلم الاجتماع والتربية كتب: “ديني” عام 1885 و”فيزيولوجية الحرب” عام 1887، “مدرسة إياسنايا بوليانا” عام 1888، “المال والعمل” 1890، “ما هو الفن؟” عام 1898، “أفكار الرجال الحكماء لكل الأيام” عام 1903 وغيرها… اما كتاباته في السيرة الذاتية فهي من أكثر المؤلفات المؤثرة لديه لما يتميز به في كيفية ربط حياته اليومية ببحثه الفلسفي العام: “طفولة”، و”عمر الشباب”، اما أجمل مؤلفاته في هذا المجال فهو كتاب “اعتراف” _(1879 1882) الذي وضع فيه عصارة تجربته في الحياة والموت وحاول في كتابته ان يجيب عن السؤال التالي: “ما هو المعنى الذي لا يحطمه الموت، أو الذي لا يدركه الموت؟” وكانت ثمرة تجربته أن كل ما تعلمه ترجمه في النصف الأخير من حياته في سلوك يعبر فعلاً عن معنى الحياة. كما أشهر أعماله التي كتبها في أواخر حياته “البعث” و”الشيطان” ورواية “الميت الحي”، وفي كل ما كتبه تولستوي خاصة في “مملكة الرب بداخلك” اعتنق أفكار المقاومة السلمية النابذة للعنف والقتل وهو اثر بذلك خاصة في الكتاب الأخير المذكور في حياة وقرارات العديد من الشخصيات عبر التاريخ وابرز من تأثر به المهاتما غاندي في الهند والأميركي مارتن لوثر كينغ اللذان اعتمدا في نضالهما على سياسة السلم.
وسياسة تولستوي هذه الداعمة للبعد الروحاني في كل التصرف البشري لم تفهمه الكنيسة في ذلك الزمن فعملت على تحريمه في رعايتها، غير ان النظرة اليوم تغيرت الى حد وصف معظم مؤلفاته بالساعية الى الروحانية والى الاتحاد بالله، وبشكل خاص رسائله كما كان هو يسميها وهي مقالات كان ينشرها في صحف ومجلات روسية محلية كان يكتب فيها، وقد تم توثيق هذه الرسائل قبل أعوام ووصلت الى عشرة آلاف رسالة يدعو فيها الى المساواة بين البشر كما يدعم فيها حقوق الفلاحين والفقراء حتى لُقّب “بمحامي مئة مليون من الفلاحين الروس”،/ كما أُطلق عليه في أميركا بعد حين لقب “المواطن العالمي”.
كل حياة هذا الاديب الفيلسوف كانت عبارة عن محطات متناقضة وهو يعترف بذلك في مذكراته مقسماً إياها تقسيماً دقيقاً: عشرة أعوام من الطفولة المشعة بالاكتشاف والعلم تبعتها مرحلة التحرر والتفلت من القيود واختبار الحرب والموت والحب والجنس ويسميها “السنوات العشرون المخيفة” ثم يليها الحب مع صوفيا التي ستصبح زوجته وستنجب له 13 ولداً فقد منهم خمسة وهم في سن مبكرة أو عند الولادة ويسميها مرحلة “الحياة المنظمة والشريفة والصادقة” وهو كتب أفضل وأروع مؤلفاته في تلك المرحلة، وأخيراً مرحلة الثورة والرفض بعد سن الخمسين والستين وفيها الخوف والقلق والتساؤل الوجودي الكبير وصولاً الى مرحلة السنوات الثلاث الأخيرة التي زهد فيها بالحياة وتقشف وعاش البسطاء وتخلى عن كل ممتلكاته على الارض لينظر فقط وبعمق الى داخله، الى عمق الداخل حيث ثمة ما لم يفهمه أو ما لم يكتب عنه ربما.

ذاك المجهول، وجه أمّه
ولكن في كل هذا، ألا يبدو تولستوي غريباً ومتناقضاً؟
فهو حتى في هجره لعائلته وكرهه لزوجته التي كانت له الملهمة ثم نقيض الملهمة والتي كتب لها حتى في رسالة الوداع كلاماً محباً: “حبيبتي صوفيا، أعلم انك ستتألمين كثيراً لرحيلي وانه ليحزنني ذلك أشد الحزن..” كان هناك دائماً في قراراته شخصية الخائف والمتردد حتى الضياع والقلق حتى الموت والرافض حتى الانسحاب من الحياة.
وهو في رفضه لكل مقومات المرحلة الأخيرة من حياته بدا وكأنه يسعى الى بداياته، وكما تخلى عن ثيابه الانيقة وكل مستلزمات الأناقة والنجومية بدا أيضاً وكأنه يتعرّى، ويفرغ من كل الحاضر ليعود الى الحقيقة العارية، الى البداية العارية، الى ولادته. وتماماً كما في روايته “آنا كارينينا” جعل البطلة تلتقي التعاسة التي تحدث عنها في الصفحة الاولى من الكتاب عبر رمي جسدها الحاضر الرافضة له أمام الموت، أمام عجلات القطار القادم الى حياتها لينتزعها لتعود الى نقطة الصفر نقطة بداية الحب أو بداية عيش شغفها وموتها، كذلك هو تعرّى من حاضره، من ثروته، من شهرته، تعرّى من حبه ومن عائلته، تعرّى أيضاً من شيخوخته لينطلق الى المجهول؟ أم الى البداية؟ وفي كلتا الحالتين، البداية في حياة تولستوي يشوبها المجهول خاصة في وجه أمه المجهول الذي لم يعرفه، الذي لم يلمحه مرة. فهو جاء من امرأة لم يحفظ وجهها، من أم ولدته وماتت بعد سنة ونصف، ثم مات الوالد وليون الصغير في الثامنة. ومن بعيد، يبدو المشهد كواحد من مشاهد رواياته الرائعة: الولد اليتيم في ظل منزل العائلة الارستقراطية الضخم والمزارع وممتلكات الأسرة من حوله وبعض الأقارب في القرية للتعويض عن الخسارة.
وقد يكون المشهد يتكرر بفارق 75 عاماً، حيث شاخ الولد ولم يكبر، وحيث القصور بقيت قصوراً والأحلام بقيت أحلاماً، والخسارة لم تعوّض، خرج الصبي متنكراً بثياب “شحاذ” يبحث عن الضائع، خرج الكاتب الملهم عارياً يبحث عن الحقيقة، خرج العجوز وحيداً ولم يعد. مات بهدوء في محطة قطار شهدت على الموت بطلته الأروع، امرأته الأجمل، الطالعة من غياب البداية وأحلام النهاية.
المستقبل

تولستوي أم دوستويفسكي؟
ك.م
سؤال لطالما طرحه النقاد كما القراء في العالم: تولستوي أم دوستويفسكي؟
منذ بروز نجمي الرواية الروسية الكبيرين تولستوي ودوستويفسكي، انقسمت الأوساط الثقافية والأدبية وحتى الشعبية في روسيا عليهما: بين فريق ينحاز الى تولستوي وآخر الى دوستويفسكي حتى اتخذ هذا الانقسام مناحي سياسية وأخلاقية وإيديولوجية واجتماعية وحتى دينية.
فدوستويفسكي الذي جاء في خضمّ التحديث في الأدب والكتابة والرواية والقصة بشكل خاص وتوغل في أغوار النفس البشرية وأعماقها وظلماتها وفي مناخات الحداثة الفكرية والفلسفية، خصوصاً في “الأخوة كارمازوف” و”آنّا كارينينا” وغيرها من أعماله المبدعة وعبر أعماله، عبّر عن تلك الانعطافات الخطرة في السلوك الإنساني، بحس تحليلي نفسي تأثر به فرويد، هذا الخواجة انحاز إليه عدد كبير من الكتّاب كـ فرانز كافكا، إضافة الى السرياليين والعبثيين.
ولهذا، بدا تولستوي يمثل العالم الآخر المتناقض لدوستويفسكي: عالم الحروب والأخلاق والعلم… والنزاهة.
وثمة أبحاث ودراسات أدبية كثيرة تناولت هذه المقارنة وكان أبرزها تلك التي وضعها الباحث جورج ستاينر الذي طرح السؤال بكل وضوح، وكان جوابه: الإثنان معاً. وهو أضاف في دراسة حملت عنوان “تولستوي أو دوستويفسكي؟”. ان عظماء الأدب كانوا أربعة عبر التاريخ: هوميروس، شكسبير، تولستوي ودوستويفسكي، والغريب في استنتاجه هذا وهو يعلق عليه بنفسه أن ثمة 1500 سنة تفصل الأولَين عن الأخيرين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى