صفحات سورية

الحزب الشيوعي السوري بين الأحلام الرومانسية والجمود الكلاسيكي

null
شاهر أحمد نصر
طرح الحزب الشيوعي السوري (مكتب النور) مشروع التقرير الاقتصادي والاجتماعي الذي سيقدمه إلى المؤتمر الحادي عشر للحزب للنقاش العام؛ إذ نشرت صحيفة النور التي يصدرها الحزب التقرير، ووضع في موقع الجريدة في شبكة الانترنت الدولية، ووزعه نشطاء الحزب على المهتمين، وهذه أسلوب متطور نأمل أن يستفيد الحزب والوطن منه، ومن آراء المهتمين بالشأن العام التي ستطرح حول هذا المشروع في مواقف هذا الحزب، وفي المسائل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تشهدها البلاد… هذا وقد تم طلب إرسال الملاحظات والآراء حول مشروع التقرير إلى: اللجنة المركزية للحزب ـ جانب جامع الكويتي في دمشق.
جميلٌُ أن يقرن الحزب الشيوعي السوري عنوانه باسم جامع في دمشق، ونأمل أن يأتي يوم يكون عنوان الأحزاب السياسية في وطننا معروفاً باسمها…
وافاني أحد الرفاق في طرطوس بهذا المشروع طالباً إبداء آرائي وملاحظاتي حوله، وتساءلت في نفسي إن كنت سأرسل هذه الآراء إلى صحيفة “النور”، التي تعاملت بأسلوب غير حضاري مع آراء وملاحظات كنت قد أرسلتها إليها حول مشروع سابق، فنشرت أجزاء منها، وامتنعت عن نشر الآراء والمواقف المنتقدة لبعض جوانب سياسة الحزب، وللبنية السياسية التي تحتضنه، مجسدة بتصرفها ذلك نظرة قاصرة حول الديمقراطية من قبل القيمين على تحريرها في حينه، نأمل أنّه قد تم تجاوزها…
لا بد أولاً من تقدير الجهود التي بذلت لإعداد هذا التقرير، وتبيان أهمية أغلب الأفكار الواردة فيه، وروح الغيرة الوطنية والاجتماعية التي يتحلى بها، والتنويه إلى ضرورة معالجة قضية التكرار في كثير من فقراته، وبنوده… ولكي يكون البحث مفيداً سنحاول تسليط النقد على الجوانب التي نرى ضرورة تقويمها في التقرير، ولا سيما العبارات الضبابية المبهمة، وغير المحددة، كالحديث عن “نزعات تساومية لدى قوى فلسطينية وعربية…”.ص3 (تقدم الدعم) إلى النزعات الفاشية المتصاعدة في إسرائيل! أعتقد أن التقرير غير موفق في إطلاق هذه الأحكام المبهمة، ولا سيما إذا فهم منها التلميح إلى منظمة التحرير الفلسطينية التي تتفاوض لإيجاد حل للقضية الفلسطينية ووضعها في موقف الاتهام بالعمالة، ومساندة الفاشية الإسرائيلية… يوجد تباين بين مختلف الأطراف المهتمة بالقضية الفلسطينية، في وجهات النظر، وفي التصرفات، وهذا أمر طبيعي، لكن هذا التبيان، والخلاف، والاختلاف لا يخول أحداً اتهام الآخرين بالعمالة وتقديم الدعم للفاشية الإسرائيلية… ومن الضروري أن يبين الحزب موقفه بوضوح في دعم مبادرة السلام العربية، ونضال الشعب العربي الفلسطيني بمختلف السبل المشروعة لنيل حقوقه، بما في ذلك سبيل المفاوضات لتكبيل الفاشية الإسرائيلية وتعرية المشروع الصهيوني الذي وصل إلى نهايته.
ويقدم معدو التقرير لوحة وردية للتطورات السياسية في المنطقة، متوهمين أنّها تترافق “مع تنامي شتى أنواع النضال من أجل الديمقراطية والتنمية الاجتماعية وحقوق الإنسان في أوساط شعوب المنطقة، الأمر الذي يعرقل عرقلة فعالة النهب المعولم لثروات هذه البلدان… ويرفع من شأن قوى البلدان النامية والناشئة…”ص3 والتقرير يعكس اللوحة هنا، ويقلب الواقع رأساً على عقب، ويبدو كمن يضع العربة أمام الحصان، إذ على العكس من استنتاجه؛ فإنّ عملية نهب ثروات المنطقة في تزايد، ودور البلدان في اضمحلال نتيجة غياب دور الجماهير فيها، ومحاربة أنظمتها لأي أفق ديمقراطي تعددي تداولي سليم فيها… وهذا يتطلب إعادة صياغة هذه العبارة، كيلا يبدو الحزب الشيوعي مطمئناً للحالة البائسة المهيمنة، ومدافعاً بشكل غير مباشر عن واقعٍ، هو وشعوب المنطقة أول المتضررين منه… كما أن الصيغ العامة كرؤية الجانب الاستغلالي من العولمة، التي “ترمي إلى إخضاع البلاد لمخططات وبرامج إمبريالية صهيونية”.ص4 وعدم رؤية فوائد العولمة، والثورة المعلوماتية العالمية يضع الحزب في مواقع القوى الأصولية المتزمتة، ويقربه من المستحاثات المنغلقة على ذاتها متجاهلة التطور العالمي، وتؤكد ذلك الصيغة العامة الواردة في التقرير والقائلة ببقاء الحزب “ملتزماً بمبادئ الماركسية ـ اللينينية”ص4، علماّ أن مبادئ الماركسية ذاتها، وأسس الديالكتيك تدعو إلى تجاوزها، فضلاً عن أن الزمن تجاوز كثيراً من أسسها ومفاهيمها، مما يستدعي إعادة صياغة هذه الفقرة مع التأكيد على أهمية الماركسية، والتجربة اللينينية تاريخياً، وضرورة تعريضها باستمرار إلى النظرة النقدية ونزع القداسة عنها! ويرى التقرير أن الحزب “إحدى القوى المؤثرة في المجتمع السوري”ص4، دون تبيان مدى التأثير وحجمه وفعاليته… وجعلته هذه الرؤية النرجسية يرى “أن أفق الحلول الإيجابية سياسياً واجتماعياً يزداد وضوحاً، وجماهير شعبنا تزداد وعياً بمصالحها”.ص5 وهذا يثير تساؤلاً حول دور الحزب: أهو دغدغة مشاعر الجماهير؟ أم تبيان حالتها الحقيقية وإيقاظها لتدافع عن مصالحها وتغيير حالتها البائسة.
الواقع الموضوعي ونوايا الشيوعيين الحسنة
لقد كان الماركسيون سباقين لربط الاقتصاد بالسياسة، فهل وفق التقرير في الربط بين البنية السياسية السائدة، وبين القضايا والمشاكل الكبيرة التي يعاني الاقتصاد منها؟
يقيم الحزب التطور العام في البلاد بأنّه “صراع بين نهجين متعارضين بشأن معظم المسائل الاقتصادية والاجتماعية التي يتصدى لها مجتمعنا… يقف في الطرف الواحد: كبار الرأسماليين الجدد، ومعظم السماسرة ووكلاء الاحتكارات، والمضاربون على العقارات، ومحتكرو أهم المواد، والطامعون بالسيطرة على المؤسسات والمرافق الحكومية، يساندهم العديد من البيروقراطيين الحكوميين والطغم المالية وبعض المتنفذين في السلطة والتكنوقراط… تواجهها جماهير واسعة من العاملين في القطاعين العام والخاص، تقودهم نقاباتهم ومعظم الفلاحين والمثقفين بقيادة منظماتهم، وأكثرية صغار المنتجين ومتوسطيهم…”ص8
يذكرنا هذا التقييم بتقييم كبير الاقتصاديين في وطننا الدكتور عارف دليلة الذي يقول: يوجد لدينا “اقتصادان؛ اقتصاد لا يعرف الأزمة والركود، في ازدهار دائم، في وفرة دائمة، بل في حالات الأزمة والركود يزداد اكتنازاً، ـ وهو اقتصاد القلة، واقتصاد الأغلبية الساحقة، وهؤلاء إذا ازدهر الاقتصاد أم مال إلى الركود، خسرت البلاد أم فقرت، هم في حالة فقر متزايد، أوضاعهم لا علاقة لها بالوضع الاقتصادي العام، وإنما تتحدد أوضاعهم بسياسات رسمية تُطبّق على مدى عقود بشكل منتظم ومحكم”. (د. عارف دليلة ـ عن موقع الحوار المتمدن في شبكة الانترنت الدولية- العدد: 917 – 6/8 / 2004)
ويرى الحزب في مشروع التقرير، وهو محق في رؤيته: “أنّ ميزان القوى العام في مجال السياسة الاقتصادية على الأقل لا يزال في صالح كبار الرأسماليين…”ص9 ويؤكد التقرير هذا الميل عندما يتناول حصيلة الخطة الخمسية العاشرة التي حققت: ” لكبار التجار والممولين معظم المكاسب… على حساب الفئات الأخرى بما في ذلك صغار الكسبة والصناعيين…”ص10 وعندما يتحدث عن عجوز الموازنة، و”التدابير التي تتخذ لمعالجة العجز عن طريق زيادة الرسوم والضرائب غير المباشرة وتقليص الدعم بأشكال مختلفة… ولا بد أن تفشل كل محاولات رأب الصدع المالي عندما يطلب من المواطن العادي المزيد من التضحية، ولا يطلب المال ممن عنده المال..”ص24
وتتجلى النية الحسنة (القريبة من السذاجة) في دعوة الحزب إلى معالجة “صعوبات القطاع العام الصناعي، الصعوبات التي أخطرها الخسائر المالية التي تفرض عليه”… دون أن يبين لنا كيف تعالج هذه الصعوبات؟ وكيف نوقف الخسائر؟ ومن المسؤول عن تلك الخسائر؟ وهل البنية التي يعمل في إطارها هذا القطاع هي المسؤولة عن الخسائر والصعوبات؟ يتجاوز التقرير كل ذلك ويرى “ضرورة إشراك إدارات وعمال هذه المعامل في إيجاد الحلول وتنفيذها”.. ص76 وكأن الأمر بهذه البساطة! يتجاهل معدو التقرير مواقع القوى المستفيدة من حالة القطاع العام هذه، وأن وراء كل مؤسسة خاسرة إدارة رابحة، ومناصرين أقوياء داعمين لها ورأسماليين كبار رابحين أيضاً!
إذا عدنا إلى ربط الاقتصاد بالسياسية نتساءل عمّا يجعل ميزان القوى العام يميل في صالح كبار الرأسماليين، وما هو دور البنية السائدة، والتي يشكل الحزب الشيوعي جزءاً منها، في جعل ميزان القوى هذا يميل في صالح كبار الرأسماليين؟! وما السبيل لجعله يميل في صالح أغلبية أبناء الوطن الكادحين بسواعدهم وأدمغتهم؟!
يرى الحزب السبيل في رفع مزيد من الشعارات قائلاً: “لذا بإمكاننا أن نؤكد أنه بات من المتعذر أن تمضي التدابير الانفتاحية بدون مقاومة شعبية، كما أن إضرارها بالموقف السياسي يزداد وضوحاً، الأمر الذي يرفع من مستوى المقاومة للنهج الليبرالي…”ص9 ولا يبين لنا كيف ستحصل هذه المقاومة الشعبية للنهج الليبرالي؟ نعتقد أن تحقيق هذه المهام يتطلب إصلاح سياسي يسمح لهذه القوى بالتعبير عن ذاتها بإقرار قانون الأحزاب السياسية العصري، وإقرار مبدأ التعددية التداولية الدستورية، وأهمية وضرورة وجود المعارضة الوطنية، ودورها البناء الفاضح للاستغلال وللفساد في المفاصل الحكومية، والمساند لدور الدولة في تعزيز مناعة الوطن. وأساس الإصلاح السياسي يكمن في تبني وتطبيق منطلقات سياسية تقود إلى بنية اجتماعية اقتصادية دينامية متطورة تساعد في رفع وتائر النمو، أي أن يتم الاصطلاح كما عرفته التجربة الإنسانية وفق آلية تعرف بالديمقراطية التعددية التداولية، التي “تشكل وبالأساس ضمانة لغير مالكي وسائل الإنتاج، أو لغير الرأسماليين في تكوين قوة مقابلة سياسية أو نقابية، تحميهم من السلطة المطلقة لأصحاب السلطة الاقتصادية. وهذا هو الدور الذي تلعبه ولعبته الأحزاب السياسية، والنقابات، ومنظمات المجتمع المدني في الديموقراطيات المتطورة، والذي سمح بنشوء نظم سياسية تنحو نحو مزيد من العدالة الاجتماعية والمساواة بين الأفراد”.( د. برهان غليون ـ الاختيار الديموقراطي في سورية ـ عن شبكة الانترنت الدولية).
ويتطلب الإصلاح الاقتصادي السليم مشاركة فعالة من قبل مختلف شرائح المجتمع في وضع السياسة الاقتصادية وتنفيذها… لن يتم أي إصلاح دون فعالية حقيقية من قوة الإنتاج الأولى وعنصرها الأساسي ألا وهي الإنسان، ما هو موقع الإنسان في منظومة هذا الإصلاح؟! كي يقوم عنصر الإنتاج الرئيسي بمهامه من الضروري تأمين ظروف ومناخ ملائمين له، كي يعطي ويتطور ويتجدد، ويتزود باستمرار بالمعرفة والوعي، ووسائل الدفاع عن مصالحه… أساس هذا المناخ هو الحرية والديمقراطية الدستورية التعددية التداولية، كما ذكرنا، وهذا يتطلب إلغاء حالة الطوارئ، واعتماد قانون أحزاب عصري، وتشريعات قانونية عصرية تفسح المجال بتفتح طاقات المجتمع المدني الحي. إنّه لأمر هام أن يطرح حزب البعث في مؤتمره العاشر مهام إلغاء حالة الطوارئ، واعتماد قانون الأحزاب السياسية، ومن المؤسف أن باقي أحزب الجبهة، بما فيهم الحزب الشيوعي يتخلفون عن هذا الطرح، ولا نجده في برامجها، وتغيب هذه المهام عن مشروع التقرير الذي نناقشه؛ مما يستدعي ضرورة إدراجها فيه.
يتضمن مشروع التقرير الاقتصادي الذي بين أيدينا كثيراً من المهام السليمة التي يدعو لتحقيقها لتعزيز قوة الاقتصاد الوطني وتحقيق العدالة الاجتماعية، إنما يبدو أن السبل المقترحة لتحقيقها تعتمد لا على الفعل وتغيير المعوقات، بل على النوايا الحسنة، مما يجعله أقرب إلى صرخات وطنية غيورة صادقة في واد سحيق أصم… نذكر منها على سبيل المثال: “عبرت الحكومة في تقييمها للخطة الخمسية العاشرة عن تدني التدفقات المالية باتجاه الصناعة والزراعة في كلا القطاعين العام والخاص”…ص18 والقول: “إن تدني وزن الإنتاج المادي في الاقتصاد يؤدي إلى تدني وزن العمال والفلاحين والمنتجين الصناعيين، صغارهم وكبارهم في المجتمع، وفي النفوذ السياسي. والأمر نفسه يصح بالنسبة إلى الدولة فعندما يتراجع دور قطاعها العام في الاقتصاد الوطني تحل محله الشركات القابضة والطبقة الممسكة بالمال والتجارة والخدمات في قيادة الحياة الاقتصادية والاجتماعية والإعلام والفكر، وفي السياسة في آخر المطاف”.ص20 والتحذير السليم من أن القانون يفقد “أحد أهم مبادئه الأساسية وهو تنظيم التناقض الموضوعي عبر الصعود بالتكافؤ المختل أصلاً إلى المستوى الذي يضمن التساوي في المواجهة، وليس تعميق عدم التكافؤ وزيادة التناقض حدة والإضرار بالعقد الاجتماعي العام. ولا يخفى أن أهم شرط في عقد اجتماعي داعم للوحدة الوطنية هو إضعاف التفاوت في مستويات المعيشة بين ذوي المداخيل الأعلى والأدنى. باستعمال الضرائب والاقتطاعات في الأولى، والإضافات والإعفاءات والدعم في الثانية. ففي البلدان المتطورة تخفض الضرائب والالتزامات الأخرى بالمداخيل الأعلى، وتزيد الإعفاءات والدعم بالمداخيل الأدنى حتى تهبط الفروق من15/1 لتصل في النهاية إلى 3/1، أما عندنا فتقدر بـ 12/1.”ص35 أليست هذه صرخات في واد، والموجهة إليهم في واد آخر؟ لمن تطلق هذه الصرخات؟! وعلى مسمع من تتلى هذه المزامير؟! أليس من الأجدى البحث عن القوى التي تساهم في تحقيق هذه المهام، وتنظيمها… وإرفاق هذه الصرخات باقتراحات ملموسة، كتحديد المواد القانونية التي يجب إقرارها، أو تعديلها، واقتراح الصياغة الصحيحة لها، لكي يناضل الحزب في سبيل تحقيقها على كافة المستويات والمنابرالمتاحة له: في صحافته، وفي مجلس الشعب، واتحاد العمال، وغيرها، كي يصل التفاوت في مستوى المعيشة إلى 3/1 ـ كما هو الحال في المجتمعات المتحضرة التي نشتم أنظمتها الرأسماليةـ ! ونعزز اللحمة الوطنية؟!! … وينطبق ذلك على حديث التقرير عن البطالة والفائض العمالي إذ نجد وصفاً جميلاً وواقعياً دون تقديم الاقتراحات والحلول الملموسة…
ضرورة تقديم الحلول الملوسة
من الضروري أن يقدم الحزب اقتراحات ملموسة لمختلف القضايا التي يعالجها، بما في ذلك اقتراحات لتعديل المواد المجحفة بحق العمال في قانون العمل في القطاع الخاص، والمواد التي تؤثر سلباً على الزراعة والفلاحين والعمال الزراعيين والتي يناضل في سبيل تخليص قانون العلاقات الزراعية منها، والتنبيه إلى أنّ عدم معالجة مسألة الملكية الزراعية بين الفلاحين والإقطاعيين السابقين في بعض المناطق يخلف قنابل موقوتة لا تُحمد عقباها، وتحديد هذه المواد والمسائل لتبقى في صلب نضال الحزب في جميع المحافل… ومن المفيد عند الحديث عن مسألة السكن، تقديم إحصاءات تقارن دخل العمال والموظفين وتكاليف السكن… فالإحصائيات جزء ضروري من التقرير الاقتصادي…
ومن الضروري ربط مسألة حماية البيئة بتطور وتقدم المجتمع: فالإنسان المتخلف الجشع يلوث البيئة ويفسدها، وحيث يوجد الإنسان المتنور المتحضر الواعي يسود الجمال والبيئة النظيفة. والبيئة تشمل كل ما يحيط بالإنسان بما في ذلك وسائل الإعلام، والترفيه، والموسيقى… لقد تحولت وسائل الإعلام من وسائل تثقيف، وترفيه، وتوعية إلى وسائل تلوث وإفساد، كما تحول كثير من صالات المطاعم التي تبث الموسيقى إلى وسائل إزعاج وتلوث وصمم… وتحتاج هذه الظواهر، وغيرها إلى دراسة ووضع قوانين تحد من أثرها التلوثي… فضلاً عن فسح المجال أمام مؤسسات المجتمع المدني لكي تلعب دورها المساعد للدولة في حماية البيئة… وخلق الظروف المناسبة لتعزيز صناعة السياحة في بلادنا التي يغفل التقرير الحديث عنها…
والتقرير محق في دعوته لـ”وضع موانع جدية في طريق هجرة الرساميل السورية أوتهريبها إلى الخارج. ص80 حبّذا لو أورد التقرير إحصائيات بالرساميل المهربة إلى خارج الوطن، وطالب بوضع أسس قانونية لعودتها ومحاسبة مهربيها.
ويرفع الحزب شعار مكافحة الفساد، دون أن يلاحظ أنّ الفساد طغى على أدوات مكافحته من قضاء، ورقابة وتفتيش، وغيرها… كما أنّ حالة الطوارئ تخلق حالة من اليأس والخنوع والإحباط في المجتمع، فضلاً عن الخوف من استخدام هذه الحالة والقوانين الاستثنائية من قبل الفاسدين في وجه من يتجرأ على فضحهم… وبالتالي فمكافحة ظاهرة الفساد، مثلها مثل مختلف الظواهر التي تحتاج إلى معالجة والتي تطرق التقرير إليها، تحتاج إلى إصلاح عام يخلق حالة سياسية ديمقراطية تعددية تداولية قانونية سليمة، من الضروري أن يتطرق التقرير إليها…
والتقرير محق في الدعوة لاعتماد التخطيط المركزي الملزم للدولة، في المشاريع التي تتولاها، والتخطيط التأشيري في إشراف وتوجيه الدولة للقطاع الخاص والسوق. وفي الدعوة ليكون التصنيع الهدف الأساسي في الخطة الخمسية القادمة.ص43 ومن المفيد لو تقدم معدو التقرير باقتراحات ملموسة حول الصناعات المقترحة في كل محافظة، ومنطقة… ومن السليم في ظروف بلادنا التأكيد على “دور الدولة الإنمائي والرعائي، وضرورة تملكها وإدارتها لأهم المرافق الإستراتيجية وتلك المتصلة بالسيادة والأمن الوطنيين”.ص76 وفي الوقت نفسه، من الضروري الاتفاق على مفهوم الدولة الراعية، التي تسود فيها الحرية المسؤولة والديمقراطية التعددية التداولية، وتلعب المعارضة الوطنية دوراً وطنياً هاماً فيها، والتي تفسح المجال لأبنائها جميعاً وفي مقدمتهم بناتها بسواعدهم وبأدمغتهم للدفاع عن مصالحهم… وحمايتها من تحكم كبار الرأسماليين والفاسدين بشؤونها…
ضرورة الابتعاد عن الانغلاق والعزلة الدولية
لقد أصبح واضحاً عدم مقدرة اقتصاد أي بلد من بلدان العالم، مهما كان قوياً أن يعيش في عزلة عن الاقتصاد العالمي… ولمّا كانت السمة العامة للاقتصاد العالمي في المرحلة الراهنة هي سيادة قوانين الرأسمالية الاحتكارية، فمن الضروري أن تعتمد إجراءات تكفل للاقتصاد الوطني، ألا ينعزل عن الاقتصاد العالمي، وفي الوقت نفسه، حماية الكادحين والمنتجين من الآثار السلبية لهيمنة الرأسمال الاحتكاري العالمي الجشع… وهذا يتطلب دوراً للدولة التي تحدثنا عنها، ولحمة وطنية متميزة بين قيادة المجتمع السياسية الاقتصادية وبين أبنائه، فضلاً عن وجود بنية سياسية واقتصادية ذات نهج وطني واجتماعي واضح، تبني العلاقات الاقتصادية في الداخل ومع الخارج على أسس قانونية واضحة، وشفافة، وموضوعية، وسليمة، وعادلة.. ومن الضروري أن يأخذ معدو التقرير هذه الوقائع في الاعتبار. والخطوة الأولى لكي يتطور اقتصاد البلاد بشكل سليم، من وجهة نظرنا، هي مكافحة الفساد والطفيلية، في ظل جو ديموقراطي سليم، ـ فالفساد طارد للاستثمار، ومهلك للاقتصاد ـ فضلاً عن المهام التي حددها مشروع التقرير من اعتماد قانون علاقات زراعية عادل يشجع على الاستثمار في الزراعة، ويزيد من إنتاجية الأرض، وإيلاء اهتمام جدي بالقطاع الصناعي، وخلق الظروف المناسبة لنشاط القطاع الخاص، ومعالجة مشاكل القطاع العام الصناعي والإنشائي والمصرفي، عن طريق إيجاد سبل لتحفيز المنتجين، وحسن توزيع فضل القيمة، حتى لا يشعر المنتجون أنّ جهة ما تنهبهم، مع وجود البيئة الديموقراطية السليمة التي يستطيع فيها المنتجون في القطاعين العام والخاص الدفاع عن مصالحهم، وإيجاد السبل السليمة للتراكم كي تتم عملية تجديد إنتاج وسائل الإنتاج، ووسائل إنتاج المواد الاستهلاكية وفق معادلة واضحة وشفافة…
من الضروري خلق المقدمات الضرورية كي يصبح الاقتصاد السوري قادراً على المنافسة وعلى مواجهة تحديات العولمة الاقتصادية… وخلق الظروف الملائمة لإبرام الاتفاقيات الدولية، بما في ذلك اتفاقية الشراكة السورية ـ الأوربية، تجنباً للأضرار الكبيرة التي قد تنجم عنها على الاقتصاد الوطني، عن طريق معالجة المشاكل التي يعاني منها الاقتصاد، ورفع كفاءة الإنتاج، وتخفيض الكلفة كي يكون منافساً للسلع المستوردة مع التحرير التدريجي للتجارة، وتحسين موقف الحكومة في المفاوضات الجدية لإبرام الاتفاقيات الدولية، للحصول على ما يمكن من المزايا، وجعل هذه الاتفاقيات عاملاً مساعداً للمنافسة وتصدير فائض الإنتاج. ونختلف هنا مع مشروع التقرير ونرى أنّ معدي التقرير مخطئون في الموقف السلبي من التعامل مع السوق العالمية، والشراكات المحفزة والتي تطور الاقتصاد الوطني بما فيها ما يسمى (BOT)، وفي الموقف السلبي من الشراكة السورية الأوربية ـ يشير البعض إلى أن الموقف السلبي من قضايا الدفاع حقوق الإنسان يقف وراء المواقف السلبية من الشراكة الأوربية ـ وعلى الحزب بدلاً من شتم العولمة، وبدلاً من الموقف السلبي من الشراكات، البحث عن سبل الاستفادة من هذه الشراكات، مع المحافظة على حقوقنا وحماية اقتصادنا، لا الدعوة إلى الانغلاق والتقوقع، ولا الاكتفاء بشتم “الثورات البرتقالية” ومن وراءها، بل البحث في جذورها، وفي الأسباب الداخلية الذاتية والموضوعية لنشوبها…
نعود ونثمن الجهود التي بذلت لإعداد هذا التقرير، ونؤكد على روح الغيرة الوطنية والاجتماعية التي يتحلى به، وصدق الدعوات الصائبة التي يدعو إليها لإضفاء الصبغة الاجتماعية على الاقتصاد الوطني، وننوه إلى أنّه وبما أنّ مشروع التقرير سمي اقتصادياً اجتماعياً، فقد كان من المفيد التطرق إلى بعض القضايا الاجتماعية التي تحتاج إلى معالجة، ومنها مسألة الإجحاف الذي يشكو منه الأخوة الأكراد نتيجة إحصاء عام 1962 ومعالجة تبعاته… والتأكيد على ملاقاة الحزب لنشاط الجمعيات الأهلية والمدنية التي تساهم في غنى الحياة الاجتماعية، وتطوير وعي أبناء المجتمع، سواء العلمانية، أو الدينية الإسلامية والمسيحية، مع التأكيد على أن تركيبة المجتمع السوري وبنيته التعددية تتطلب نهجاً علمانياً في قيادته.
أما عند معالجة التحديات الجديدة التي يفرضها التطور العالمي فيبدو الحزب وجلاً متقوقعاً وراء رؤية كلاسيكية جامدة، تجعله يشتم المجتمع الرأسمالي بدلاً من تحليله والبحث عن سبل التعامل معه، على الرغم من أنّه يتمنى أحياناً أن يحقق مجتمعنا بعض ما تم إنجازه في المجتمعات الرأسمالية، ويبدو ذلك جلياً على سبيل المثال عندما يتمنى أن “يصل التفاوت في مستوى المعيشة إلى 3/1 كما هو الحال في المجتمعات المتحضرة (الرأسمالية)”ص35… ومثال آخر عندما يشكو التقرير من أنّ “الإدارة البيروقراطية المفروضة على مؤسساتنا تتطلب تضخم القوام الإداري، مثال ذلك في لجان المشتريات” ويلاحظ أن ذلك “أمر منظم في اليابان على نحو آخر تماماًُ”.ص37 واليابان بلد رأسمالي، وهذا إقرار بأنّ الرأسمالية تمتلك مزايا يمكن الاستفادة منها، بل هي واقع علينا التعامل معه… سيقول البعض هذه دعوة للتخلي عن الاشتراكية، نقول: كلا، لقد دعونا وندعو إلى إدخال المبادئ الاشتراكية ضمن شرائع الأمم المتحدة” (انظر كتابنا: بحوث في الاقتصاد السياسي ـ إصدار دار الطليعة الجديدة بدمشق عام 2008) كما أنّ طبيعة مجتمعنا تتطلب تطبيق العدالة الاجتماعية، لمعالجة مختلف مشاكله، وأزماته، وللمساهمة في تقدمه الاجتماعي، وهنا تكمن المعضلة والمهمة الأساسية أمام الأحزاب التقدمية، والباحثين الاقتصاديين؛ في البحث عن سبل تطبيق العدالة الاجتماعية، والتي لخصتها خبرة البشرية بالإجراءات ذات الطابع الاشتراكي، وكيفية الحد من الفروقات الطبقية الكبيرة، وغلو الاحتكارات الرأسمالية، في مجتمع تسوده علاقات الإنتاج الرأسمالية، وله علاقات حتمية مع سوق عالمية تهيمن فيها الاحتكارات الرأسمالية، على الرغم من إرادتنا أو نوايانا الحسنة…
توجد تحديات عملية وفكرية جديدة وكبيرة يفرضها التطور العالمي، لا يمكن حلها بتجاهلها…إنّ التحديات الجديدة تتطلب رؤية جديدة وربما تتطلب أحزاباً جديدة، والحزب الذي يتمترس وراء مواقف قديمة يعدها ثابتة، ويتهيب من متطلبات الواقع المتغير باستمرار يفارق رومانسيته الثورية، ويتقوقع في قاع الجمود الكلاسيكي البائس، فيصاب بالإفلاس، ويشيد حاجزاً بينه وبين القوى المتطلعة إلى المستقبل بمن فيهم المثقفين… حاجزاً لا يستطيع تجاوزه، ولا يسمح هذا الحاجز له برؤية الواقع بشكل سليم… ويصبح الافتراق نتيجة هذا المرض بين هذه الأحزاب، وبين هذه القوى افتراقاً جذرياً، نأمل ألا يقع الحزب الشيوعي السوري فيه…
وتثير بعض المواقف الوجلة والمنغلقة والبائسة عند بعض الأحزاب التقليدية تساؤلاً إن كانت تلك الأحزاب قد وصلت إلى حد الإنهاك؟!
يتحمل الجميع المسؤولية عن هذا الانهاك، وعن طغيان البؤس على الحالة السياسية والاقتصادية السائدة، بمن فيهم من اطلع عن كسب على التجارب الحضارية العالمية، وأمّل الجميع بالإصلاح… ولن نفوز بازدهار جديد في الفكر والاقتصاد، إلاّ إذا فزنا بأسلوب سياسي جديد في الممارسة يُطلق فيه للفكر العنان، والحرية للإنسان، ليبني اقتصاداً قوياً، ووطناً منيعاً… وليبقى الشيوعيون مكوناً فاعلاً وضرورياً فيه.
الصفصافة 27/8/2010 شاهر أحمد نصر
الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى