سلامة كيلةصفحات مختارة

عن الأفق الاشتراكي: علينا أن ندفن موتانا

سلامة كيلة
الأفق الاشتراكي يفرض أن يتبلور الحزب القادر على التغيير، وعلى تحقيق المهمات الواقعية، حيث أن تحقيق الاشتراكية يفترض صيرورة عملية توصل إليها. ويتشكل الحزب من أجل تحقيق التغيير في أفق منظور، لأن نشوءه مرتبط بوضع يدعو إلى تحقيق التغيير، عبر وجود أزمة مجتمعية تفرض تحرك العمال والفلاحين الفقراء والفئات الوسطى من أجل الدفاع عن وجودها، وبالتالي نشوء الصراع الطبقي في شكله المطلبي الاحتجاجي. هنا الحزب هو نتاج ظرف موضوعي، الذي بدوره يرتبط نضجه بدور هذا الحزب. والحزب هنا يجب أن يلعب دور القوة التي تدفع الصراع الطبقي إلى منتهاه، الذي يعني حسم الصراع مع الطبقة المسيطرة واستلام السلطة. وإلا لا حاجة للحزب الماركسي، حيث يمكن أن تتشكل جمعيات وهيئات ونقابات مهمتها المطالبة والمناشدة والاستجداء.
وحين النظر لوضع القوى التي “تحتل” الموضع الذي يخص الاشتراكية، وأقصد كل الأحزاب الشيوعية والماركسية، سوف نلمس أن مبدأ التغيير غائب، وأن الأفق الاشتراكي تحوّل إلى خيال، وأن البرامج المطروحة هي أقرب لأن تكون برامج قوى ليبرالية أو منظات حقوق الإنسان، وتقوم على المطالب والمطالبة دون سياق لتحقيقها غير ذلك. هذا إذا لم نرد الإشارة إلى الأحزاب التي تكيفت مع السيطرة الطبقية للبرجوازية الكومبرادورية عبر مشاركتها في السلطة، أو حتى تكيفت مع الاحتلال. إن حدود رؤية هذه الأحزاب هو حدود الإعتراض وتلمس بعض المشكلات والمطالبة بتجاوزها. إنها إذن أقرب إلى نشاط “نقابي” خامل، وهو الذي تبلور في سياسات الحركة الشيوعية العربية منذ سبعة عقود تقريباً، حيث النشاط المطلبي للطبقات و”النضال” الديمقراطي في السياسة.
فالأحزاب الشيوعية نشأت منذ تسعين سنة، وإذا كانت قياداتها فرحة لهذا العمر الطويل، ومزهوة لأنها صمدت كل هذه السنوات، وبالتالي انها لازالت باقية ولم تمت، واصبحت ترى بأن مهمتها تتمثل في “الحفاظ” على هذا الوجود “البيولوجي”، فإن هذا العمر الطويل هو الاثبات على أن هذه الأحزاب قد فشلت فشلاً ذريعاً، حيث أن المسألة لا تتعلق بوجود الحزب بل بالدور الذي يلعبه في لحظة تفاقم الصراعات. فهو حزب التغيير في لحظة تفجر الصراع الطبقي. ولقد أوضحت كل التجارب بأن كل الأحزاب التي انتصرت، انتصرت خلال عقدين إلى أربعة (الحزب البلشفي الذي تشكل سنة 1898 وانتصر سنة 1917. والحزب الصيني الذي تأسس سنة 1921 انتصر سنة 1949، والفيتنامي كذلك)، أو حتى أقل كما في الانتصار الأول في فيتنام وفي كوبا. وهو الوضع الذي تتبلور فيه الأزمات، ويتفاقم الصراع، وعبر ذلك يكون الحزب قد تبلور، لكي ينتصر.
وإذا تلمسنا الوضع العربي منذ نشوء الحركة الشيوعية سوف نلمس أنه كان يختمر في أزمات متعددة، أزمة السيطرة الاستعمارية، وأزمة الفقر والتخلف الناتجين عن النهب الإمبريالي ونهب القوى الإقطاعية التجارية المسيطرة. وكان يسير نحو تفاقم الصراعات ضد الاحتلال وضد النظم التي تخضع له. وحين انتهت الحرب الثانية بتراجع وضع القوى الاستعمارية آنئذ (انجلترا وفرنسا) كانت الأزمة الاجتماعية تتصاعد، خصوصاً في الريف الذي كان يشكل البنية الأساسية من حيث الإنتاج والتشكل البشري والصراع الطبقي. وإذا كانت نكبة فلسطين قد لعبت دوراً في تأجيج الصراع فإن الوضع كان قد وصل إلى حالة “الأزمة الثورية” كما تسمى عادة في الماركسية، حيث لم يعد الشعب قادراً على استمرار الوضع كما هو، ولم تعد النظم قادرة على الحكم، خصوصاً بعد انسحاب الاستعمار والفراغ الذي تركه ذلك.
هذا الوضع هو الذي فرض تقدّم الطبقة التي لا تستطيع أن تلعب سوى دور انتقالي، لأنها لا تمتلك مقدرة على تأسيس نمط خاص، وأقصد البرجوازية الصغيرة، والريفية بالتحديد. إن الفراغ الذي نشأ، ليس عن انسحاب الاستعمار فقط، بل عن عجز الطبقات التي هي وحدها قادرة على تشكيل نمطها الخاص، وهنا البرجوازية التي كانت في ترابط مع الإقطاع من جهة، ومع الرأسمال الإمبريالي من جهة أخرى، والطبقة العاملة من جهة أخرى. وإذا كان يجب أن ندرس مرحلة البرجوازية الصغيرة الريفية فإن ما هو هام هنا هو أن نعرف بأن هذا الدخول لها (عبر الجيش خصوصاً) كان نتيجة الفراغ وليس نتيجة مؤامرة أو كونه دور طبيعي. فهي لا تستطيع أن تتشكل في حزب متماسك، ولا أن تقدّم بديلاً يعبّر عنها، لأنها بالضبط تحلم بالملكية الخاصة، والذي يقود تحقيقها إلى الترسمل، وهو ما يمكن دراسته عيانياً على ضوء تجاربها في مصر وسورية والعراق والجزائر والسودان. ولهذا استغلت الجيش الذي تشكل من أغلبية ريفية.
لماذا هذا الفراغ؟
هنا تقع مناقشتنا لسياسات الحركة الشيوعية، التي كان الظرف الموضوعي مهيأ للتغيير لكنها لم تُقدم. وهي لم تقدم ليس نتيجة خطأ بل نتيجة وعي أيديولوجي ورؤية سياسية، رغم أن قوتها كانت تسمح لها بذلك كما توضح في وضع الحزب الشيوعي العراقي في خمسينات القرن الماضي، وحتى الحزب الشيوعي السوري في الفترة ذاتها، وأيضاً حتى الحركة الشيوعية المصرية التي تشكلت خلال هذا الفراغ المترابط مع الأزمة، والتي تطورت بسرعة كان يمكن أن تلعب دوراً تغييرياً، حيث اصبحت قوة حتى في الجيش، لكنها اختلفت مع عبد الناصر سنة 1954 لميلها لتحقيق “نظام ديمقراطي” برجوازي طبعاً، ولأنها لم تعِ أهمية الريف الذي كانت بعيدة عنه (سوى بعض تياراتها). ورغم أن السياسات التي اتبعت منذ نهاية ثلاثينات القرن العشرين فيه كانت تضعف الحزب ذاته، وصبّت في مصلحة نشوء حزب البعث الذي كان مؤسسوه على هامش الحزب الشيوعي في الثلاثينات حينما كان يسعى إلى الثورة والتغيير وتحقيق الوحدة العربية.
إذن، كان عدم انتصار الحركة نتاج سياسات خاطئة، عبّرت في الأخير عن مصلحة برجوازية صغيرة مدينية تحلم بالرأسمالية والحريات والبرلمان. وهنا يمكن لمس المفصل الذي حكم هذه السياسات وقاد إلى هذا “العمر الطويل”، رغم أنه كان يؤشّر إلى مشكلات عميقة في الوعي والمصالح والارتباطات يمكن الإشارة إليها تالياً. هذا المفصل هو الانطلاق من تصور (كان يسمى لدى الماركسية السوفيتية قانون) يفرض الانتقال الحتمي من الإقطاع إلى الرأسماليةن وليس إلى أي طريق آخر. فلأن وضعنا كان في مرحلة سيطرة الإقطاع فإن الهدف هو انتصار البرجوازية. هذه الفكرة “البسيطة” كانت في جوهر “الجريمة” التي ارتكبت. فالبرجوازية كانت تتشكل في صيغة مختلفة عن البرجوازية الأوروبية لحظة انتصارها، حيث نبعت من صلب الإقطاع وظلت متداخلة معه، وبالتالي لم تكن تسعى إلى كسب الفلاحين عبر تحقيق الاصلاح الزراعي، من جهة، ونشظت في التجارة والخدمات والمال كونها باتت وسيطاً في العلاقة بين الرأسمال الإمبريالي والسوق المحلي من جهة أخرى. لقد كانت تتكيف مع الإقطاع وتلتحق بالرأسمال الإمبريالي، وبالتالي لم تفكر لا في بناء الصناعة (سوى أفراد لحقت بهم الهزيمة) ولا في إنهاء الإقطاع، ولا في فك الارتباط بالرأسمال الإمبريالي.
هنا كان المشروع الرأسمالي وهماً نشأ في رؤوس قادة الحركة الشيوعية، أو أنه أُدخل إلى رؤوسهم عبر “المعلم الأول”، أي “كبار العلماء السوفيت”، الذين كانوا في مقام الأسطورة لدى هؤلاء القادة، ربما نتيجة ضعف وعيهم، وقلة اضطلاعهم على الماركسية. ومن امتلك الماركسية منهم كان يهمش ويطرد أو يحاصر (فهد، فرج الله الحلو، عبد الخالق محجوب، سليم خياطة، ورهط طويل من “التيتاويين والتروتسكيين”). حيث بدت الحركة الشيوعية العالمية كفروع للحزب السوفيتي الذي كان هو المقرر في “النظرية” والسياسات وحتى التكتيك. وهو ما عبّر عنه الرفيق خالد بكداش بالقول ما معناه أنه إذا اختلف مع الرفاق السوفيت في الموقف فإن موقف هؤلاء هو الصحيح.
هذا الوضع كان يؤشّر إلى أن الطابع الذي اتخذته الحركة الشيوعية يتقولب في حدود المطالبة والمناشدة والنقد (الخفيف)، والبحث عن ممثل البرجوازية الذي يجب أن يُدعم لكي تنتصر الراسمالية. أي أن الأحزاب مثلت شكلاً من أشكال النضال الديمقراطي البرلماني، المؤسس على طرح المطالب. وكذلك الالتحاق بمن يلوح بأنه يحقق الرأسمالية. وبالتالي لم تطرح على ذاتها مهمة التغيير ولم تدعِ ذلك، على العكس كانت ترى في الدعوة إلى التغيير طفولية وفوضوية وتروتسكية وماوية، هكذا كان موقفها من حزب البعث قبل أن تلتحق به وتعتبر أنه يحقق ما أرادت تحقيقه (وهو في كل الأحوال أسوأ أشكال الرأسمالية كما تبلور فيما بعد، رغم أن البعث كما الناصرية حققت أكثر مما كان يطالب الشيوعيين).
إن الاستراتيجية التي وضعتها الحركة لذاتها (أو وضعت لها من قبل الرفاق السوفيت) لم تكن في وارد التغيير، رغم أن تطور القرن العشرين وأزماته بعد تبلور النمط الرأسمالي كنمط عالمي إمبريالي كان يدفع نحو انتصار الشيوعية كما توضح في مناطق واسعة من العالم الطرفي. وهنا يمكن أن نلمس التحوّل الذي حكم هذه الاستراتيجية التي كانت تقوم على أساس “الماركسية اللينينية”، وتعلي من قيمة لينين، حيث تجاهلت أهم ما أضافه، وهو التقاطه للوضع العالمي الجديد ونشوء الإمبريالية، والذي فرض عليه التأكيد على ضرورة قيادة الشيوعيين للنضال من أجل التغيير وتحقيق المهمات الديمقراطية في طريق الانتقال إلى الاشتراكية. هذه الفكرة الفذة هي التي فتحت أفق التغيير في ما يقارب نصف العالم، لأنها قامت على رؤية التناقضات في بنية النمط الرأسمالي، والتي أوصلت إلى “اكتشاف” عجز البرجوازية عن لعب “دورها التقليدي”، دورها التقدمي، وتحوّلها في الأطراف إلى كومبرادور فقط، يحافظ على التكوين الإقطاعي الكومبرادوري المترابط مع الرأسمال الإمبريالي، وبالتالي تخليه عن تشكيل بنية رأسمالية بالمعنى الأوروبي، أي الصناعي الحداثي.
بالتالي فقد كان نضال الشيوعيين (رغم بطولتهم وتفانيهم) ينحكم لرؤية وهمية، لم يفعل سوى تحقيق بعض القضايا المنطلبية في وضع كان يحتاج إلى تغيير جذري، ينطلق من تحقيق “المهمات الديمقراطية” (التي بدا أن النظم القومية تحققها): الاصلاح الزراعي والوحدة القومية وبناء الصناعة عبر دور الدولة، والتحديث، والدمقرطة والعلمنة، لكي يكون ممكناً تحقيق الاستقلال الحقيقي. كوفئ بأن أصبحوا جزءاً من النظم القومية، يلعبون دوراً ثانوياً، دون تلمس طبيعة مسارها وآفاقها، مكتفين بما يتحقق.
أظن أن التحولات التي تحققت على ضوء الدور الذي لعبته البرجوازية الصغيرة الريفية، والذي انعكس في تغيرات في أوضاع كل النظم التي بقيت “رجعية” (إقطاعية كومبرادورية)، انهى الحركة الشيوعية، وما تبع ذلك هو استمرارية العطالة، التي اصبحت تُخضعها للتغيرات العميقة في البنى الطبقية، وتطور الوعي العام، وبالتالي كانت تهمشها شيئاً فشيئاً. ومن يتلمس توضعاتها الطبقية السابقة يلمس معنى ذلك. حيث أن الاصلاح الزراعي قد افضى إلى تقلص حجم الأحزاب في الريف، وتلاشيه تقريباً في كثير من المناطق. وأن الحقوق التي حصل عليها العمال، ثم التشكل الجديد للطبقة العاملة على ضوء دور القطاع العام، قد همش كذلك وجود هذه الحركة. وحتى في الفئات الوسطى تراجع وضع الحركة نتيجة استبدادية الأحزاب التي كانت تسحق كل الآراء المخالفة في وضع كان تطور الوعي يزيد من الفهم والملاحظات، وبالتالي قبول هذا النمط من الأحزاب.
هذا الوضع كان يفك العلاقة بين الأحزاب وقاعدتها الطبقية، ويقلص من حجمها، ويحصرها في بنى منغلقة على ذاتها، تعيش بالعطالة، وتنحصر في فئات عمرية عجوز شيئاً فشيئاً. وهو مؤشر على الانقطاع عن الشباب الذين، وعلى ضوء التغيرات التي تحققت وأفضت إلى تشكل مجتمع مديني في الغالب ويحظى بتعليم أفضل ومعرفة أوسع، ابتعدوا على النشاط السياسي في وضع لم يكن مأزوماً، نتيجة التغيرات الطبقية تلك بالتحديد. قبل أن يجري التحول من جديد، ونشوء أزمات باتت تفرض الصراع من جديد. لكن وضع الأحزاب الشيوعية لم يكن قادراً على استيعاب الوضع الجديد كما نلاحظ اليوم. وهذه هي المشكلة التي تدعونا إلى التأكيد على أنه “يجب أن ندفن موتانا”.
إذنن سأقول بأن الحزب الذي لا يلتقط هذا الرابط بين تشكله والظرف الموضوعي، ويعرف بالضبط الدور الذي يجب أن يلعبه فيه، سوف يموت، وإن بقي دون دفن. والحركة الشيوعية في الوطن العربي لم تلتقط هذا الرابطن بل ربطت وجودها وذاتها بالاتحاد السوفيتي. لقد فهمت أن أساس وجودها قائم على ذاك الوجود للاتحاد السوفيتي، وليس على الظرف الموضوعي الذي كان في أساس نشوئها، وهذا ما فهمه قادتها الأوائل في السنوات 1924 إلى 1937، والى 1949 في العراق، والى 1971 في السودان. ولهذا فقد لعبوا دوراً “عظيماً” في “الدفاع عن بلد الاشتراكية الأول”. هذا هو دورهم الأكبر، فقد كانوا جزءاً من حزب عالمي رأسه في موسكو، وكانوا ملتزمون بكل التكتيكات التي ترسم هناك. طبعاً هذا يفرض السؤال عما كانت رؤية الاتحاد السوفيتي للوطن العربي وللعالم (لأن سياسة الحركة الشيوعية العربية كانت هي ذاتها سياسة كل الأحزاب الشيوعية التي ارتبطت بالاتحاد السوفيتي، ولهذا فقد فشلت كلها على الصعيد القومي/المحلي)، وعن “الماركسية” التي كان يحقنها لهم عبر “الدورات الحزبية” و”معاهد الماركسية اللينينية”.
هنا يمكن تناول مستويات متعددة نظرية وسياسية وعملية، لكن ما يمكن التأكيد عليه الآن هو أننا ندخل مرحلة جديدة من تفاقم الصراعات الطبقية والقومية معاً، حيث فرضت الراسمالية سيطرتها العالمية من جديد فعمقت من أزمات مجتمعات الأطراف، وأتت الأزمة الجديدة لتفتح أفق صراع عميق في كل العالم. هنا ينطرح من جديد دور الماركسية، والحزب الماركسي، هل تستطيع الحركة الشيوعية والقوى الماركسية القائمة أن تكون في صلب الصراع الطبقي من أجل التغيير؟ نسأل لأنها لازالت قائمة بـ “عمرها الطويل”، ولازالت تعتبر بانها ممثلة الطبقة العاملة، وانها تطرح السياسات التي تعبّر عن مصالح هذه الطبقة. وأنها ممثلة “الماركسية القويمة”، وما إلى ذلك من توصيف ذاتي. ولكن، وكما يقول ماركس، فليس المهم ما يقوله المرء عن ذاته المهم ما هو في الواقع. إن الخطوة الأولية تتحدد في وعي الواقع من أجل بلورة الاستراتيجية المطابقة له والتي تفضي إلى تغييره. هل أن هذه القوى قادرة على ذلك؟
يمكن أن نقول بأنها تعاني من استمرار “العقل” الذي تعمم مع “الماركسية السوفيتية”، وبالتالي فهي بعيدة عن الماركسية ويحكمها منطق صوري. وهي تعاني من تشوش في الرؤية والتصورات والبرنامج، حيث لازال معظمها يكرر السياسات ذاتها والرؤى ذاتها، وهي باتت متضيقة وتخلو من العنصر الشاب، ولا وجود لها في طبقات العمال والفلاحين سوى ربما بشكل هامشي. وبنيتها نابذة نتيجة تكوينها البيروقراطي و”المركزي”، وتغرق في “النشاط السياسي” الذي يعني الحراك في مستوى العلاقات السياسية وإصدار البيانات والمهرجانات إذا أمكن ذلك، والتواصل مع الأحزاب الأخرى. والتعبير عن الوضع الجديد وصراع الطبقات الراهن يفترض تحقيق نقلة في الوعي/ الفكر من أجل وعي الواقع وعياً صحيحاً (أو علمياً)، ومن ثم لتأسيس الاستراتيجية الضرورية الآنن والتي تسمح بتحقيق التشابك مع العمال والفلاحين الفقراء. وبالتالي فإن هذه الحركة ليست في وضع يؤهلها لتحقيق ذلك، رغم كل “التجديد” الذي قالت به، والشعارات التي كبّرتها أحياناً. وكما أشرت فإنها قائمة نتيجة العطالة ليس أكثر، ولقد أوضحت انشقاقاتها التي بدأت منذ سبعينات القرن العشرين بأنها تتفتت كجثة لم تدفن. وكل محاولاتها للنهوض لحظية وتفضي إلى تفكك أكبر.
وإذا كان التركيز قد جرى هنا على الحركة الشيوعية العربية فلأنها لازالت الأكثر استمرارية رغم نشوء قوى ماركسية في موجة ثانية منذ نهاية ستينات القرن العشرين. وربما لن يختلف النقد في مفاصل أساسية بين هذه وتلك، سوى في اتباع استراتيجية مقلوبة تركز على “الثورة الاشتراكية”، و”الكفاح المسلح”، وحتى الوحدة العربية وتحرير فلسطين، لكنها قامت على منطق نصي ولم تلمس القطيعة الضرورية مع “الماركسية السوفيتية”، فتفككت سريعاً أو تكيفت مع هذه الماركسية لتتشابه مع الحركة الشيوعية سوى في بعض المواقف. ولقد مال كثير من أعضائها إلى الليبرالية، أو التزمت “النضال الديمقراطي”، وتقوقعت في فئات وسطى كذلك. من هنان ورغم كل التمايزات، ظلت في السياق العام الذي حكم الحركة الشيوعية من حيث الوعي والسياسات. وبالتالي سيكون الحكم عاماً رغم ما يبدو أن فيه قسوة، فطول العمر للأفراد، لكننا نشير إلى تجربة طويلة فقدت مبررات وجودها. رغم أن الأفق مفتوح لكل الذين هم مهمومون بأن تلعب الماركسية دورها الثوري للتغييري، لكن خارج هذه التجربة وفي سياق تأسيس بديل.
لقد اصبحت عبئاً على الماركسية، وعلى الشيوعية واليسار، ورغم نضالات أعضائها وتقديرنا لهم ولكل التضحيات التي بُذلت، فإن المطلوب هو دفنها. وهذه الرمزية في التعبير تعني تفكيك منطقها ورؤيتها وبنيتها من أجل تأسيس جديد، أو على طريق تأسيس جديد عبر وعي حقيقي بالماركسية، ووعي عميق بالواقع، من أجل بلورة استراتيجية تترابط مع نهوض الصراع الطبقي والقومي الراهن. وهي تعني دفن “الماركسية اللينينية” التي تعممت، والتي هي أيديولوجية صاغتها البيروقراطية السوفيتيتة كتعبير عن مصالح الدولة، والعودة إلى ماركس ولينين، والى الماركسية كمنهجية هي الجدل المادي. وتعني دفن الرؤية العامة التي حكمتها والتي اشرنا إليها قبلاً، وكل رؤيتها للواقع (الموقف من الوحدة العربية، وفلسطين، والتطور والعلمنة)، والتي كانت منافية لحركة تطوره. وأساساً دفن منطقها القائم على التكيف مع الأمر الواقع بحجة الواقعية، والتخلي عن الطابع الثوري للماركسية، ولصراع العمال والفلاحين الفقراء. وأيضاً دفن شكل التنظيم البيروقراطي الاستبدادي الذي تشكلت فيه. لقد كانت أحزاب بلا روح، وبالتالي يجب أن تدفن. طبعاً دون تجاهل ما يمكن أن يكون مفيداً في التجربة، ما يبقى منها مفيداً لأفق جديد.
نحن بحاجة إلى تأسيس جديد يرتبط بالوضع الثوري الراهن، لكن قبل ذلك يجب أن ندفن موتانا لكي نستطيع أن نتنفس هواء الماركسية النقي بعد أن تفسخت الجثة أكثر مما ينبغي.
الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى