صفحات ثقافية

متأكـــد أنـــي طـــرتُ قليـــلاً

null
عباس بيضون

لا أعرف متى شعرت بأني أفكر. لا أذكر عمري آنذاك ولا هيئتي ولا طولي. كنت نحيلاً ونحيلاً جداً. يتعجب الكثيرون من نحولي ويروزونني بسواعدهم وأكفهم أحياناً مظهرين أنهم لا يشعرون بوزن. كانت أمي تنظر إليّ كممروض وتجتهد في أن تُقيتني بكل ما هو أهم في اللحم. ابتلعت بالرغم مني كثيراً من الطحالات التي تعج بدمها وكثيراً من الكبد النيئ والكروش المحمرة التي أغالب قرفي منها. كانت تلحقني بها وتكرر على سمعي أني ضعيف وأضعف من ريشة. لم أسمن لكن استقر عندي أني ضعيف.
كان أبي معلم المدرسة الوحيد ومديرها يقوم وحده بعدة صفوف، أما أنا فتعلمت القراءة قبل سن الدراسة. كنت ألحقه إلى المدرسة وأجثم في تجويف النافذة، ومن هناك أجاوب بدلاً من التلاميذ. كانوا فخورين بي في البيت والقرية ما جعلني معتداً ومدللاً. هكذا رحت أدفع التلاميذ وأضربهم وأقفز عليهم إلى أن لاحظ أبي أني استبد بهم فقال لهم، ليردعني، ردوا عليه. بهتني ذلك ومنذ ذلك الحين كففت خوفاً. وقع في ظني أنهم سيجازونني ويقسونني إذا تجرأت عليهم. لم يبق حديث أمي عن ضعفي في الهواء. وجد بسرعة محكاً. كنت حقاً ضعيفاً وخوّافاً ولا أجسر على أن أبدأ عراكاً.
لا أعرف متى شعرت بأني أفكر، ولا أعرف ما صلة ذلك بنحولي وضعفي. لا بد من سبب لأفكر فيهما معاً. كنت أخفّ من ريشة، الريشة تفكر بسهولة أكثر من كومة لحم. إذا كان الضعف لا يقوى على العراك فهو أقدر على التفكير. لا بد أن هناك أموراً تجمعهما، فالأفكار هي أيضاً بلا وزن وهي أيضاً خفيفة طائرة، كنت خوّافاً وضعيفاً في حين أن كل شيء كان يحسم عندها بالعراك. لا بد أن هذه الأفكار التي تزورني بلا انقطاع لم تأتِ للاشيء.
كنت أدور مع صاحبي في القرية، لا أذكر أين، فالقرية كلها بهتت في ذاكرتي، وحين زرتها بعد خمسة وعشرين عاماً وجدت جميع ما فيها بحجم أقل بكثير مما تخيلته. البركة أصغر والنهر أقرب والأشجار أقل. أذكر فقط أني كنت أجرّ فيها شنتتي (ثوب كالجلابية) التي عانيت لدى استبدالها بالبنطلون تروما حقيقية وحنيناً فعلياً. لا بد أن اقترنت في بالي بالفضاء والتجول والحرية… والتفكير. كنت حينها ابن خمس أو ست، لا أذكر، لكن بات لي منذ ذلك العمر ماض وصار في وسعي أن أنظر إلى الوراء. لا أعرف من الذي كرهته في البنطلون. أظن أن الشنتة ارتبطت في ذهني بتلك السياحة في الحقول وفي الأفكار. لم أكن أتنقل فيها برأسي فحسب، بل بحسدي وبالطبع بشنتتي. لربما أحسست أن البنطلون يعوقني عن الانتقال بسرعة في أفكاري. إن الشنتة تحملني أسرع. هذه الأفكار التي كانت أيضاً تجوالاً يحتاج إلى الهواء والفضاء والشنتة المفتوحة تؤمن ذلك أكثر. التفكير لم يكن في الذهن فقط، كان يتم بالأيدي والأرجل والرأس ويتم بالمشي والركض بالتأكيد، وحين كنت أفكر أفعل ذلك وأنا أرقص وأقفز وأتعمشق وأطير. لم يكن البنطلون كما توجّست، مواتياً تماماً لذلك، لذا كرهته وظللت وقتاً غير قليل أتحسر على شنتتي. تراءى لي أنه سيثقل حركتي وتفكيري وأنني معه لن استطيع أن أكون فيهما حراً بما يكفي.
التفكير لم يكن أسئلة فحسب. كان في الغالب قصصاً وسيناريوهات. لا أذكر تماماً كيف كان. كان شيئاً يسير من تلقائه وينتشر، نوعاً من سياحة لطيفة. ربما لم يكن الأمر كذلك تماماً، إنما لا بد أن وقتاً مضى قبل أن ننتبه إلى أن هناك فرقاً بين أن نفكر أو أن نعيش، قبل أن نخلص هذا من ذاك. حين انتبهت غمرتني السعادة. كنت عند نفسي الوحيد الذي يفكر، الذين أحجّهم لا يظهر عليهم أنهم يفكرون، يصمتون لحظة قبل أن يقرروا شيئاً، لكن هذا لم يكن التفكير. التفكير لم يكن للاختبار بين الذهاب إلى البركة أو إلى الدكان. لم يكن لأي سبب، كان لنفسه فقط. أن أفكر يعني أن أفعل كل شيء بخيالي، يعني أن يكون هناك واقع آخر في رأسي. أن تكون هناك أمور تحصل بمجرد أن تخطر، فإن هذا إعجازي، سحر خالص، وبالتأكيد امتياز هائل.
كان عالمي، كما أظن، يزيد على الذي لأصحابي أضعافاً مضاعفة. ليس هناك أصلاً سبب للقياس، كنت بالقياس لهم هائلاً. جميعهم لا يملكون ما أملك. ليست لديهم بالأصل تلك الملكة التي أعطيت لي. كنت تحت رعاية خاصة. لي طبيعة أخرى. وحدي، وربما في العالم كله، أفكر.
لي وحدي أيضاً قدرات أخرى، كنت قادراً على أن أفعل بالجسد شيئاً أفعله بالفكر. لم أشك في أن ذلك ممكن حتى وإن لم أفعله. لاحظت في يوم أني أسير بخفة نشابة الطيران. حين فكرت في ذلك بدأ مشيي يشابه الطيران أكثر، لدرجة أني بدأت أسير بارتفاع قليل عن الأرض. بدا أني، على نحو ما، أسبح في الهواء. كان هذا تمريناً يندمج فيه خيالي وجسمي، ولوقت طويل بقيت أمارسه، ولا أذكر متى فقدت القدرة عليه، لكني حتى الآن متأكد من أني طرت قليلاً من قبل.
حين تخليت عن شنتتي عصر قلبي حنين قاس إلى الشنتة، وإلى شيء أكبر من ذلك، لا أعرفه، لكن بدا لي أني أفارقه مع الشنتة. كان الحنين اكتشافي الثاني. دون الآخرين كنت آنذاك الوحيد الذي يحن. سيعترضني هذا الحنين كل فترة من حياتي. كل قفزة ستخلف وراءها ماضياً جديداً لا عودة إليه.
حين غادرت القرية كنت أعرف أني لن أبقى فيها. ولدت فيها وأمضيت طفولتي لكنها لم تكن قريتي ولا بلدي. في هذه البلاد قلما نولد في مواطننا ولا ندين بشيء إلى حيث نُولد. نعرف مهما طال الوقت أننا عابرون وسنغادر في يوم بلا عودة. مع ذلك عصر قلبي حنينٌ ممزوج بالخوف، أو خوف كبير ممزوج بالحنين. كان عليّ ثانية أن أترك بدون أن أنظر إلى الخلف. كنت في الثامنة أو التاسعة يومذاك، لكن بدا لي أننا ننتقل دائماً إلى شيء أضيق. جعلني البنطلون مرئياً أكثر ومسؤولاً أكثر ومراقباً أكثر. أخرجني من الإغفال الواسع الذي خلت أن الشنتة تضعني فيه، وها هو الانتقال إلى المدينة يجعلني مجدداً تحت العين، ولن يكون بعد في وسعي أن أختفي بالقدر نفسه، أو أسوح على راحتي.
الحنين كان أيضاً لعنتي، أو هو طبيعتي الثانية التي أتناساها إلى أن تداهمني مجدداً وتملأني خوفاً من نفسي. ينعصر قلبي لدى ذكر أي فراق. أذكر كيف شق عليّ في فتوتي أن أتخيّل فراقاً لعادة كالتدخين قضى فيها الواحد 40 عاماً. كان هذا بالنسبة إلي خوفاً من الأبدية. أقول في نفسي كيف يستطيع الإنسان أن يترك إلى الأبد شيئاً ما، أي شيء. أتخيل أن في هذا ذهاباً في العدم إلى لا عودة. حين لا تكون هناك أقل فرصة لبقاء أثر ما، حين لا يعود هناك سوى التبدد الكامل.
مع ذلك كان حنيني للشنتة وحنيني للقرية بلا موضوع تقريباً. لعله ليس سوى خوف من شيء أكبر. لم أحاول العودة إلى القرية رغم أن هذا يكلف أقل من ساعة في السيارة. لم أفكر في العودة. لم نعش اللوعة أكثر من يوم. كان همي فقط أن لا يلحظ أحد أنني ابن ريف. بالفعل بدلت لهجتي في ليلة واحدة، فلم ينتبه أحد في الغد إلى أنني أميل بالألف. كأن لم يكن الحنين حقيقياً، وليس سوى فكرة تعذب أكثر بكثير من الواقع، أو كأن ذلك كان معروفاً إلى شيء آخر، إلى فجوة أصلية، وجرح أصلي، لا أعرف متى تكون.
تبدو الأشياء مرعية في الخيال والفكر أكثر مما هي في الحقيقة. ربما أعاني من «ميوب» في عقلي. أعيش في رأسي غالباً وكأني لا أرى أو أرى دائماً بشيء من الانحراف.
وصلت إلى صور ابن تسع تقريباً، منذ أن اجتهدت لأنخرط، ونجحت بمقدار. تقدمت، ما حسبت أنه يكفيني ولم أتجاوزه. فعلت ذلك بتصميم وكلفتني كل خطوة شيئاً من العناء. وكان لا بد من أن أتوقف قبل مسافة وأن لا أكمل. الاندماج لا يتم بإرادة وحساب، وأنا لم أملك حتى الفضول لأفعل. لم أكن مهتماً. بقيت هكذا بين بين. أنجح حين لا يجربني أحد في أن أبدو صورياً. صحيح أني لم أتقن السباحة، لكن لم أكن الوحيد. لم أعرف بما يكفي أخبار الحي وأهله لكن أحداً لم يمتحني. بالطبع لاحظوا شرودي لكن الأسوأ كانت ملاحظتهم لتفوقي. تباهيت بقدرتي على قراءة القرآن وتلاوته، وكان هذا أعلى بكثير من قدرات أولاد جاؤوا من بيوت لم يروا فيها كتاباً، لكنه لم يكن، مع ذلك، تحدياً حقيقياً. لم يكونوا قادرين على فهم أن شيئاً كهذا قد يكون مجالاً للتسابق. لقبوني «الشاعر»، لكن بعضهم مرقها على «الشارع». كان تفوقي على رهان خاسر، جرحني هذا لكني لم ألبث أن تسلّيت. امتلكت باستمرار هذه الحياة الموازية التي أطير فيها على كيفي. لم أندمج كلياً. لم أكن بحاجة إلى الاندماج، أخذت منه حاجتي وما بقي بقي لي. كنت ألعب وحدي. ألعب بخيالي وقدمي معاً. لم أكن بحاجة إلى آخرين. أقرأ ساعات وأغيب في القراءة إلى أن أنتبه لصياحهم يدعونني إلى الغداء. اتعمشق على سطح المطبخ لأصل إلى الدالية المنشورة فوقه، ثم أسقط بخفة عنه كالعصفور. لي أصحاب في الصف لا أشاركهم في اللعب. أصحاب في الحي ألعب معهم باحتراس. الاحتراس هو طبيعتي ولا أصل إلى تطابق مع أحد وشيء. في رأسي باستمرار هذا الفرق غير المرئي الذي يجعلني جانباً.
بقي لي أيضاً، ما حسبته، تفوقي بالفكر والخيال وبعدهما بالقراءة والكلام. هنا لا مجال للمقارنة، لم أحتج حتى لإظهار قدرتي. تفوقي على أصحابي ثم على أساتذتي كان واضحاً. تقدمت فيه بسرعة شيطانية. كنت من هذه الناحية طفلاً متعملقاً، أما هم فلا أعرف كيف كانوا يرونني. استضعفوني بالتأكيد، وكنت أرتجف منهم وأحمي نفسي بجواب سديد، أو استعطاف خفي، حتى يجعلني أقواهم تحت حمايته…

([) مقتطع، غير منشور، من كتاب للزميل عباس بيضون بعنوان «مرآة فرانكشتاين»، يصدر قريباً عن «دار الساقي»، تليه مقاطع أخرى في هذه الزاوية، ننشرها تباعاً، إلى أن يتعافى شاعرنا وكاتبنا، ويمسك قلماً وورقاً، ويعود قريباً إلى الكتابة.
السفير الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى