صفحات الناس

السوريون.. والدواء المر: رفع الدعم عن المازوت يوسع الفجوة بين الفقراء والأغنياء.. ودعوات لاستبداله بالحطب والجلة

null
دمشق: سعاد جروس
من سيربح المازوت؟ هو عنوان برنامج مسابقات افتراضي في سورية. قالت رسالة إلكترونية ساخرة يجري تداولها بين المجموعات البريدية السورية، إن كل إجابة عن الأسئلة الواردة فيها ستخول المتسابق الحصول على كمية من المازوت تقدمها محلات الثروات الباطنية السورية. من تلك الأسئلة «هل أنت متزوج؟: إذا كان جوابك (لا) ستربح لترا من المازوت، وإذا كان (نعم) ستخسر لأن زوجتك تدفئك.. هل تأكل أكثر من وجبة باليوم: إذا كان جوابك (لا) ستربح لترا آخر وإذا كان (نعم) ستخسر لأن تناول الطعام الزائد يؤدي إلى تكديس طبقات من الدسم تحت الجلد تغني عن التدفئة بالمازوت»، وهكذا.. وتنتهي الرسالة بالقول: «إذا استطعت الإجابة بـ(لا) عن كل الأسئلة ستنتقل معنا إلى برنامج التدفئة بالكهرباء، ولا داعي للمازوت».
ومع أن هذه الرسالة ليست أكثر من «نكتة»، أو تعليق يسخر من الإجراءات الأخيرة التي اعتمدتها الحكومة السورية لتوزيع بدل نقدي يعوض رفع الدعم عن مادة المازوت يُمنح «لمستحقيها» من ذوي الدخل المحدود، إلا أنها تعبر عن رأي غالبية المواطنين السوريين ممن لا ينطبق عليهم شرط منح البدل.
أحمد (مهندس في شركة خاصة) لم يبد أي اهتمام بإعلان الحكومة السورية بدء تقديم طلبات الحصول على البدل النقدي لدعم «المازوت» والبالغ عشرة آلاف ليرة سورية، أي ما يقارب 180 دولارا، تدفع على مرحلتين، الأولى الشهر الحالي والثانية في فبراير (شباط) القادم. ومع أن قرار رفع الدعم اتخذ قبل نحو عام ونصف العام، إلا أن الحكومة وزعت العام الماضي للأسر السورية ألف لتر بالسعر المدعوم، وفق طريقة القسائم، لكنها تراجعت عن هذه الطريقة واستبدلتها بها دفع بدل نقدي لمن تعتبر أنه «يستحقه» وفق معايير وشروط حددتها في استمارة تقديم طلب البدل، وهي شروط اعتبرها أحمد «تعجيزية» فلم يهتم ببدء تقديم الطلبات ليس لأنه لا يحتاج إلى وقود للتدفئة بالسعر المدعوم، وإنما لأن من يستحق الدعم بحسب الحكومة هم «المعدمون وليس ذوي الدخل المحدود كما تزعم».
وتشترط الحكومة على طالب الدعم ملء استمارة، مع تعهد بصحة المعلومات الواردة فيها. وفي حال ثبت عدم صحتها يستعاد المبلغ المدفوع وضعفيه كعقوبة على المخالفة. يعلق أحمد على ذلك بالقول «لا شك في أن هذا مصدر دخل جديد للخزانة العامة وتستحق عليه حكومتنا براءة اختراع».
ويشار إلى أن الحكومة لجأت إلى طريقة صرف بدل نقدي، بعدما فشلت طريقة توزيع الدعم عبر القسائم، إذ تعرضت تلك الطريقة التي طبقت مرة واحدة شتاء العام الماضي لانتقادات كثيرة، لعدم تمييزها الغني عن الفقير، والمقيم عن المغترب. كما أنه، وبسبب الفساد، تم بيع أكثر 13 ألف بطاقة في السوق السوداء، وهي الذريعة التي قدمتها الحكومة لتبرير اللجوء إلى الطريقة الثانية، أي إصدار قانون توزيع بدل نقدي، لضمان وصول الدعم لمستحقيه.
الخبير الاقتصادي سمير صارم يعبر عن استيائه من طريقة إصدار هذا القانون. ويرى أنه يعبر عن تخبط الفريق الاقتصادي، ويقول «بدل أن يكافحوا التهريب رفعوا الدعم عن المازوت من دون ربطه بالسعر العالمي، وبدل أن يكافحوا الفساد فيما يخص بيع القسائم ألغوا القسائم، ولا أستبعد العام القادم أن يقولوا طريقة دفع البدل فشلت، وسنتخلى عن الدعم نهائيا»، ملخصا رأيه في هذا القرار بأنه «مقدمة لإلغاء الدعم نهائيا، وأن السياسية الاقتصادية الراهنة هي لخدمة الأغنياء».
لا شك أن الاقتصاد السوري تكبد خسائر فادحة لسنوات طويلة جراء تهريب المازوت الذي كان يعد بين المواد الأساسية المدعومة، إذ لم يكن سعر اللتر الواحد يتجاوز سبع ليرات، في حين كان في دول الجوار أربعة أضعاف. مصادر مطلعة تقول لـ«الشرق الأوسط» إن الفريق الاقتصادي عندما اقترح الإسراع باتخاذ قرار رفع الدعم عن المازوت، كان ذلك «حلا إسعافيا لا بد منه لإنقاذ الاقتصاد». وتضيف المصادر: «لا شك أن القرار كان مؤلما، لكن النتائج التي كانت ستترتب على خزانة الدولة جراء الاستمرار بالدعم خطيرة للغاية»، غير أن الحكومة ما زالت تدعم الخبز وبعض المواد التموينية الأساسية كالسكر والرز والمشتقات النفطية بنسب متفاوتة، عدا مادة البنزين.
وتفيد الأرقام الرسمية بأن مقدار الوفر الممكن تحققه في حال تم تحرير مادتي المازوت والفيول فقط هو 340 مليار ليرة سورية، الأمر الذي يُمكّن الحكومة من مضاعفة الرواتب بنسبة 100 في المائة.
لكن هذه الأرقام لا تقنع المواطن. فمع أن هناك نحو خمس زيادات على الرواتب منذ عام 2000 ولغاية عام 2008، الفجوة بين الدخل والإنفاق فإن لا تزال كبيرة، وردمها يتطلب القيام بعدد من الأعمال، هذا إذا لم نتحدث عن الفساد والكسب غير المشروع.
فقد شهدت الأسعار ارتفاعا تصاعديا متسارعا منذ بدء الإعلام الرسمي تهيئة الشارع لقرار رفع الدعم عام 2007، وخلال الأعوام الثلاثة الأخيرة فقدت سورية صفة (أم الفقير). حيث بدأت تداعيات المرحلة الانتقالية من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق، تلقي بظلالها على الأحوال المعيشية. وما كان يقال من قبيل التحذير من خطر تلاشي الطبقة الوسطى واتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء، راح يتحول إلى واقع تظهر ملامحه بوضوح في الشارع.
فقد نشطت وتكاثرت بسطات السلع الرخيصة، مقابل ظهور مجمعات تسوق لأفخم الماركات يرتادها نخبة من الأثرياء. وانقسمت الأسواق إلى شعبية تباع فيها بضائع محلية وصينية بأسعار متدنية، وأخرى راقية تباع فيها البضائع الأوروبية المرتفعة الثمن، حتى تكاد الآن تختفي البضائع المحلية الجيدة ذات السعر المتوسط، التي اشتهرت بها الأسواق السورية.
فبعدما ارتفع سعر المحروقات زادت تكاليف الصناعات المحلية، وبات هامش الربح من الاستيراد أكبر، وهو ما انعكس سلبا على الصناعات المحلية الصغيرة عموما والمتراجعة لصالح تنشيط الاستيراد. فالمواطن السوري المعروف بقدرته الكبيرة على التحمل والصبر وتدبر أموره، يبدو حائرا وهو يتجرع ما سبق ووصفته الحكومة «بالدواء المر» أي رفع الدعم. كما أثارت الشروط التي وضعتها الحكومة للحصول على مبلغ البدل الذي يعتبر زهيدا جدا الاستياء الشديد، بل إن تكاليف إجراءات الحصول عليه تكاد تساوي أو تفوق مبلغ البدل.
الكثير من الانتقادات نحت باتجاه السخرية من تلك الإجراءات، كان من بينها النصائح بالعودة إلى استخدام الحطب للتدفئة، فيما ينصح مراد (عامل في مصنع بريف دمشق) بالعودة إلى استخدام «الجلة» كأفضل وقود للتدفئة. والجلة هي أقراص مجففة من روث الحيوانات كانت تحضر في الأرياف قديما قبل ظهور مدافئ المازوت. فهل يعود السوريون إلى استخدام «الجلة»؟ سؤال يجيب عنه مروان صاحب محل بيع مدافئ وأدوات منزلية في أحد الأحياء الشعبية الدمشقية، بقوله إنه رغم عدم معرفته لهذه المادة إلا أن «كل شيء وارد». ويضيف «إن صدور قانون منح البدل لن يمنع المواطن من البحث عن طرق وأساليب للتحايل على القانون، أو إيجاد وسائل أخرى بديلة لاستخدام المازوت وتخفيف النفقات المزايدة يوما بعد آخر». ومن خلال ملاحظاته هذا العام، كان هناك إقبال على سخانات الكهرباء ومدافئ الحطب، علما بأنه العام الماضي لم يكن يبيعها في محله.
لكن نفقات الكهرباء ليست أقل من المازوت، بل هي أكثر بأضعاف، لا سيما بعد اعتماد النظام التصاعدي للاستهلاك. لكن سامر (موظف مبيعات في محل مأكولات) يفسر ذلك بقوله إن الحكومة بقرارها «شجعت المواطنين على سرقة الكهرباء». وبحسب سامر هناك طرق كثيرة لسرقة الكهرباء، فعدا الطريقة السائدة في مناطق العشوائيات وهي سرقة خط غير نظامي من الشارع، جرى ابتكار «طرق جديدة للتلاعب بالعدادات الرقمية الحديثة». ويرفض سامر شرح تلك الطرق كي لا يفتح عين الحكومة خاتما كلامه بالقول «الحكومة ليست أشطر منا».
لكن ناديا (أرملة تعول خمسة أطفال) لا تتفق مع هذا الرأي أبدا، وتقول «المواطن مغلوب على أمره». وقد جربت ناديا في سنوات سابقة سرقة خط كهرباء، لكن عندما كشف الأمر بسبب وشاية من صاحب البيت الذي تستأجره، دفعت الثمن وهو الرشوة لتفادي دفع الغرامة، وهذا العام استعاضت عن مدفأة المازوت بمدفأة حطب «تلتقط لها الأخشاب من هناك وهناك».
عندما حسم الفريق الاقتصادي قرار التوجه إلى اقتصاد السوق، أرفقه بكلمة «اجتماعي»، بمعنى أن الدولة لن تتخلى عن سياستها في الدعم بشكل كامل. لكن وبعد خمس سنوات على اتخاذ قرار التحول، بات واضحا أن كلمة «اجتماعي»، كانت تعني إلى حد ما إبقاء الباب مواربا، كمرحلة انتقال تدريجي، ريثما يتم إغلاق الأمر نهائيا. ولعل سياسة «توزيع الدعم لمستحقيه» من المراحل الأخيرة لسياسة «الباب الموارب»، إذ إن عدد الأسر التي استفادت من الدعم العام الماضي كان قرابة 4.5 مليون أسرة. ومن المتوقع ألا يتجاوز عدد الأسر التي ستستفيد من البدل النقدي هذا العام ربع ذلك العدد أي مليون أسرة.
قد يكون هذا من حيث المبدأ أمرا مطلوبا، لكن المشكلة برزت في كيفية تحديد الشريحة التي تستحق حقيقة هذا الدعم، فتم وضع استمارة تتضمن شروطا تعجيزية. فعدا ضآلة مبلغ البدل، يُشترط للحصول عليه أن «يكون رب الأسرة مواطنا سوريا، يقل دخله عن 8 آلاف دولار في السنة، ولا يزيد إنفاقه على الماء والكهرباء والهاتف النقال على 80 دولارا في الشهر، ولا يملك سيارة تفوق استطاعتها عن 1600 سي سي، ولا يملك أكثر من عقار واحد».
وتعلق هدى (معلمة ابتدائي في ريف حمص وأم لأربعة أولاد) على هذه الشروط «المطلوب حقيقة هو إثبات فقر حال أو شهادة شحاذ» لافتة إلى أن «كثيرا من سكان القرى أوضاعهم المعيشية دون الوسط ولديهم بأسمائهم أراض لكنها لا تدر عليهم دخلا، للأسف هؤلاء لا يشملهم البدل النقدي». وتعتبر هدى قانون دعم المازوت «غير عادل» لعدة أسباب، منها على سبيل المثال أن «دخل 8 آلاف دولار في السنة ليس مؤشرا سليما، لأن هناك أسرا تحقق هذا الدخل بل وأكثر، لكنها تسكن بيتا بالأجرة أو يكون عدد أفرادها كبيرا لا يتناسب مع هذا الدخل» وتضيف «هذا القانون مجحف لأنه أغفل الغالبية من المجتمع وتركها تحت رحمة التجار». وترى هدى أن الحل الأفضل هو «تخفيض السعر ليكون أشبه بدعم جزئي».
النواب في مجلس الشعب اعترضوا على تلك الشروط في جلسة خصصت لمشروع قانون توزيع البدل النقدي، وبعد ثلاث جلسات امتدت إلى أكثر من 12 ساعة، احتدم فيها النقاش والخلاف بين النواب والفريق الاقتصادي بحسب ما قالته النائبة في مجلس الشعب نجاة عطا الله لـ«الشرق الأوسط» رد النواب مشروع القانون إلى الحكومة، وطالبوا بإعادة النظر في التعهدات المتعلقة بدخل الأسرة وامتلاك سيارة سياحية خاصة وقيمة فواتير الكهرباء والماء والهواتف النقالة والثابتة، إضافة إلى ملكية سجل صناعي أو تجاري أو سياحي أو زراعي. ومن النواب من اقترح تخفيض سعر لتر المازوت إلى 15 ليرة. لكن في الجلسة التالية وافق مجلس النواب على القانون بعد إجراء تعديلات «خجولة» بحسب تعبير عطا الله، التي وصفت برنامج الفريق الاقتصادي بأنه «أكاديمي ولا يراعي الواقع».
إلا أن وزير المالية محمد الحسين أكد أمام مجلس النواب أن «القانون يشرع للحكومة دفع المبالغ النقدية للمواطنين كبديل عن دعم المازوت، وأن القانون مخصص لصرف الدعم لسنة واحدة فقط»، موضحا أنه «تم الطلب من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل الإسراع بإعداد نتائج المسح الاجتماعي الذي نفذته بداية العام الحالي من أجل الوصول إلى إحداث صندوق المعونة الاجتماعية لاعتماده في توزيع الدعم خلال السنوات القادمة». إلا أن نجاة عطا الله شككت في نتائج المسح الذي أفاد بأن عدد الأسر الفقيرة في سورية هو نصف مليون وسبعة عشر ألف أسرة، متوقعة أن يكون العدد أكبر بكثير، لافتة إلى أن «الأدوات المستخدمة في هذا المسح ليست صحيحة».
لا كلام وزير المالية ولا كلام أي مسؤول في الحكومة دافع عن هذا القانون، أو طمأن المواطنين بأن الحكومة لن تتخلى عنهم، وأن هذه الإجراءات لن تشجع المحسوبيات، بحسب تعبير غسان (الموظف الحكومي) الذي بدا متيقنا من أن «قانون وآلية دفع البدل الجديد سيشجعان المحسوبيات، وسيستفيد منهما الفاسدون، لا الفقراء». ويتساءل غسان «ألم يكن من الأفضل تخفيض السعر أو ربطه بالسعر العالمي؟.. على الأقل كانت الحكومة وفرت تكاليف تشكيل لجان جمع البيانات والتحقق منها ومن ثم توزيع البدل، من إجراءات بيروقراطية عديمة الجدوى، الأمر الذي يحتاج إلى جهد جيش من الموظفين وأطنان من القرطاسية، وضياع ساعات طويلة من العمل». ويقول غسان: «لو تم توفير تلك النفقات واحتسابها من مبلغ الدعم، ألن يكون أفضل للحكومة وللوطن وللمواطن؟!».
لكن من الذي يحدد ما هو الأفضل، المواطن الذي ينزلق إلى تحت خط الفقر، أم الفريق الاقتصادي المهموم باللحاق بالسوق العالمية الغارقة في المؤشرات والأرقام الكبرى؟

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى