صفحات الحوار

ياسين الحاج صالح في حوار مفتوح حول : اليسار والإسلام و… اليمين

null
أجرى الحوار : حميد كشكولي
1- الدين الإسلامي مترابط بشكل وثيق مع الأنظمة الحاكمة في العالم العربي من خلال الدساتير التي تستند معظمها إلى الشريعة الإسلامية, في ضوء ذلك ما هي العلاقة المتبادلة بين الدين والاستبداد الذي يسود المنطقة؟ وهل لذلك دور كبير في إعاقة  بناء دول ديمقراطية حديثة في المنطقة؟
•    ليست النصوص الدستورية هي المدخل الأنسب لفهم النظم السياسية أو العلاقة بين الدين والدولة، لا في بلداننا ولا في غيرها. وحتى حين تكون الدساتير مرعية الإجراء، وهي ليست كذلك بالقطع عندنا، فإنها تعكس بصورة ما التوازنات الاجتماعية والسياسية والقيم الثقافية للبلدان المعنية. وإذا كان صحيحا أن “الدين الإسلامي مترابط بشكل وثيق مع الأنظمة الحاكمة في العالم العربي”، كما يقول السؤال، فلأنه لا يسع الأنظمة، وهي ضعيفة الشرعية السياسية والقانونية والإنجازية، ودينها الحقيقي هو تأبيد سلطانها، لا يسعها إلا أن تستند إلى المنبع الرمزي للقيم الاجتماعية الذي لا يزاله الدين. ثم إنه يتعذر عليها ممارسة سياسة اجتماعية وثقافية تغييرية لأن من شأن ذلك أن يوغر عليها صدر قطاعات من النخبة الاجتماعية، فيضعف فرصها في الحكم المؤبد الذي هو، مرة أخرى، دينها الوحيد. بل إنها ستراعي الحساسيات الاجتماعية والأهلية، وستترك المجال الاجتماعي الثقافي للنخب الأهلية، كي لا تنازعها هذه مِلْكها الغالي. القصد أن من يطلب حكما أبديا لنفسه سيجد نفسه منساقا إلى تدخل أدنى في الشؤون الدينية والثقافية والحقوقية، بل وربما إلى تشجيع صيغ التدين الأكثر محافظة وتقليدية لكونها فعالة في الضبط الاجتماعي وتستبطن ثقافة الطاعة. وعلى هذا النحو يغدو الدين منظمة سياسية للحكم المؤبد، أو لما سميته في بعض موادي “الدولة السلطانية المحدثة”.
والخلاصة أن شكل ومساحة حضور الدين في مجتمعاتنا المعاصر محدد سياسيا أكثر مما هي النظم السياسية محددة دينية. وقد نتذكر أنه في كل مرة تفجر صراع بين أطقم حاكمة (غير منتخبة) وبين إسلاميين سياسيين كانت السلطات تزعم لنفسها انتسابا أكبر إلى الإسلام، بينما هي تسحق الإسلاميين. وفي جميع الأوقات كانت تدمج قيادات دينية في النخبة الاجتماعية العليا وتحرص على التفاهم معها ومراعاة حساسياتها. قد تقدم لها تنازلات اجتماعية وثقافية من أجل ألا تقدم لها أية تنازلات سياسية.
أما أصل الاستبداد في مجتمعاتنا المعاصرة فأٌرجِّح أنه مركّب إلى أبعد حد، ولا يرتد إلى عامل واحد أيا يكن: تلتقي فيه بنى اجتماعية ورثت قدرا كبيرا من التجزؤ وتوفر تربة صالحة للاستبداد بفعل طابعها الانقسامي، مع هياكل اقتصادية ريعية، تمنح الدول استقلالا مبالغا فيه عن المجتمعات المحكومة، ومع تدويل عميق للمنطقة بحكم كل من الواقعتين البترولية والإسرائيلية (وربما القرب من أوربا)، أي غلبة تفاعلات بلداننا الخارجية على تفاعلاتها الداخلية وكون الناخب الحقيقي لنظمنا (بتفاوت) هو القوى العالمية المسيطرة، ومع وأخيرا مع ثقافة وتوقعات سياسية لا تشغل قيم الحرية واستقلال الأفراد موقعا مميزا. وبفعل تدني مستوى البرجزة الاجتماعية والثقافية ظلت نخب الحكم بالذات أقوى انتسابا إلى أوصولها ودوائرها الأهلية وقرابتها منها إلى منطق وعلاقات الدولة الحديثة. وهو ما يفسر ظاهرة نراها بصورة متواترة في سورية: حين يتقاعد أحد أركان الحكم، فإنه يكف فورا عن كونه رجل دولة، وتراه ناشطا في إطار طائفته.
أما الجذر الثقافي للاستبداد فربما يتمثل في أن ثقافتنا لم تعرف انعطافا تاريخيا مؤسسا يقطع مع الذهنية والقيم الأبوية السلطانية، ويتمحور حول مبدأ الحرية والفردية واستقلال العقل والضمير. وهو ما لا يتأتى في تقديري دون “صراع مع الإسلام” الذي هو مصدر التثبيت والمحافظة  الثقافية حين لا يكون مصدرا مباشرا للقيم المحافظة، والذي لا تزال نصوصه الأساسية تفهم فهما حرفيا يتناسب مع بيئة بسيطة وقديمة، ولا تزال صورة الله فيه صورة حاكم مطلق، ولا يزال المصدر الأساسي لتصوراتنا عن السيادة والعبودية والقانون والدولة والإنسان. وهذه كلها تصورات ما قبل حديثة، يمتنع الانقطاع عن الاستبداد على أرضيتها.
من هذا الباب ينبغي أن يشغل العمل الثقافي قيمة كبيرة في بيئتنا المعاصرة. الثقافة الرفيعة وحدها يمكن أن تنافس الدين، وربما أن تدفعه إلى إعادة هيكلة قيمه. هذا لأن لها (أعني الثقافة الرفيعة) تأثيرا روحيا وتربويا وأخلاقيا، يشرح صدر الإنسان ويجدد روحه، كأنما  يعيد خلقه بتقويم أحسن. بالمقابل، بعتاد ثقافي هزيل أو بدعوات إيديولوجية متعصبة أو بنشر الكراهية لا يمكن كسب المعركة الثقافية، وتاليا تحقيق الترقي الاجتماعي والإنساني المقوّض للاستبداد.
2-  الدول التي يحكم فيها الإسلام السياسي, إيران مثلا, تُنتهك فيها حقوق الإنسان  سياسيا وفكريا واقتصاديا واجتماعيا وبيئياً بشكل كبير وصارخ وهي مدانة دوليا, ولكن ما زالت الأحزاب الدينية التي تروج للحكم الديني ذات شعبية كبيرة في العالم العربي, كيف تفسرون هذه الظاهرة؟
•  لستُ متأكدا، بداية، أن انتهاك حقوق الإنسان في إيران الإسلامية أقوى من انتهاكها في بلدان عربية وإسلامية أخرى، أقلُّ منها تماهيا بالإسلام في أي من صيغه، أو في دول “علمانية” بهذا القدر أو ذاك. ويبدو لي أنه إذا وضعنا جانبا أن الإسلام الشيعي هو ركيزة للوطنية الإيرانية، لا يستطيع حتى معارضو نظام ولاية الفقيه تجاهلها، فإن معظم النشاط السياسي والثقافي المستقل والمعارض في إيران اليوم نقدي حيال الأسس العقدية للنظام، وإن علمنة عميقة قد تكون في سبيل التحقق هناك، وإن دون مساس بالهيمنة الرمزية للمعتقد الشيعي الاثني عشري.
أما مفتاح تفسير الشعبية الظاهرة للأحزاب الدينية فقد يقيم في الطابع المركب للظاهرة الإسلامية الذي نميل، دون وجه حق، إلى إلحاقه بصيغته الأشهر: الإسلامي السياسي. أعتقد أنه ينبغي أن نميز في الظاهرة الإسلامية بين إسلام اجتماعي يمنح المؤمنين قيمة واعتبارا ووجهة أخلاقية لا تتوفر من مصادر أخرى؛ وبين إسلام سياسي يصارع على السلطة موظِّفا الرصيد الرمزي الإسلامي الكبير، ومستفيدا من الإسلام الاجتماعي ومواسمه وبنياته التحتية (المساجد  بخاصة)؛ وبين إسلام ثقافي أو عالم رمزي متميز، يشكل اليوم وفي أي مستقبل منظور الركيزة الأكبر لثقافتنا ولاسمنا في العالم؛ وبين إسلام ديني، يُقتصَر على الإيمان والممارسات التعبدية للمؤمنين. ليس هناك تطابق بين هذه الإسلامات الأربعة، لكن ما يبدو من شعبية الإسلاميين السياسيين يتولد جزئيا على الأقل عن الالتباس بينها، وعن استفادتهم من هذا الالتباس، وربما حرصهم على تغذيته. هم أقدر على جعل أنفسهم الممثلين الشرعيين والوحيدين للمجمل الإسلامي كله. إذ ليس لدى الإسلام الاجتماعي والديني مطامح عامة، أما الإسلام الثقافي فهو مورد عام، حتى لأمثالنا من العلمانيين. ويساعد الإسلاميين السياسيين على التملك الخاص للإسلام معادون جهاديون للإسلام، لا يكتفون بمخاصمة الإسلام السياسي، بل ويعادون بعنف الإسلام الاجتماعي الثقافي والديني أيضا، واستنادا إلى أسس قيمية ضيقة وجزئية، تشكل في الغالب نسخا علمانية مزعومة من ذهنية تنظيم القاعدة: عصبوية مثلها، وناشرة للكراهية مثلها، ونخبوية مثلها، ومعادية للديمقراطية مثلها.
ولا أريد مما سبق القول إن الأحزاب الدينية السياسية ضعيفة أو هامشية. تقديري أنها قوية لكنها ليست كاسحة، وهي ربما تنال في انتخابات حرة نحو ربع أصوات الناخبين، أكثر أو أقل. وأنه إذا استقرت أوضاع ديمقراطية في بلداننا فربما يكون الحزب الإسلامي واحدا من الأحزاب المهمة، لكن بعد قليل سوف يحكم الناخبون عليه وفقا لأدائه في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لا لمعلنه الديني. وأن هذا الحزب لن ينفرد بالحكم إلا بالانقلاب، أي على طريقة النظم الحالية. وأن التهويل من قوة الإسلاميين نقطة تقاطع بين بعض الإسلاميين أنفسهم ممن يحبون أن يُظهِروا أنهم أقوياء جدا، وأن “الأمة” تساندهم، وبين خصوم لهم ينشرون مناخا هستيريا متخوفا من حكم الإسلاميين من باب صنع قضية مشتركة لهم مع أطقم الحكم ومع القوى الغربية النافذة.
3- تم تحديث وعصرنة الكثير من الأديان لكي تلائم التطور العالمي في مجال العلم وثقافة حقوق الإنسان ونمو الوعي العلماني, هل تعتقدون وجود إمكانية لعصرنة و”علمنة” الإسلام أو البعض من مذاهبه، وخاصة في ظل سيطرة الحكومات والإسلام السياسي على كافة المؤسسات الدينية؟ •    اسمح لي بداية أن أنتقد السؤال، والذهنية التي تصدر عنها معظم الأسئلة. من وجهة نظر ماركسية، وأقر أني قليل الماركسية، أرى أنها تصدر عن ذهنية مثالية، تفسر الوقائع الاجتماعية والسياسية بالدين وليس العكس، كما يتوقع المرء من ماركسي. ويبدو لي أن المعادل السياسي الوحيد لتفكير من هذا النوع هو سياسة نخبوية، يمينية ودكتاتورية، وليست بحال يسارية وديمقراطية وشعبية. وهذا هو الطابع العام للطرح العلماني الرائج اليوم في المداولات الإيديولوجية العربية، بما فيها ما نجد غير قليل من نسخه الرثة في “الحوار المتمدن”، للأسف.
وبالانتقال إلى مضمون السؤال، يبدو لي أنه من وجهة نظر التاريخ الاجتماعي والسياسي أن “الإسلام” حداثي سلفا، متشكل وفق الحداثة، تنظيميا وفكريا وسياسيا، وأنه لا يمكن فهم الإسلامية المعاصرة إلا عبر كونها تفاعلا مع الحداثة واستجابة لتحدياتها وأسئلتها (أحيل على مقالتي المتاحة في “الحوار المتمدن”: “في تاريخية الإسلام المعاصر وحداثته”).
لكن ينبغي القول إن هذا التشكل زائف أو عقيم، لا يؤدي كما هو ظاهر إلى تحرر أوسع أو نهوض ثقافي أو حيوية اجتماعية أو طاقات إنتاجية أكبر، ولا من جهة أخرى إلى إسلام مسترخ ومتوافق مع زمنه ومع معاييره الذاتية في آن. لكني لست متأكدا أن سبب ذلك هو “الإسلام”. حداثتنا التي لا تمتح من مصادر إسلامية لا تبدو أرفع فكريا وأخلاقيا وإنسانيا. في الغالب أدنى. ولعل الأمر علائقيٌّ، ويحيل إلى تفاعلات اقتصادية وسياسية وجيوسياسية وثقافية أشرت إليها إشارة مجملة في إجابة السؤال الأول. في المحصلة هناك تشكل حداثي زائف لمجتمعاتنا ككل، دولا ومجتمعات وثقافة واقتصاديات وعلاقات دولية. الإسلام المعاصر أحد وجوه هذا التشكل وأحد مصادر مقاومته وتثبيته في آن معا.
ومن المهم في تصوري أن نقاوم مركزة النقاش العام في بلداننا حول الإسلام. ليس “الإسلام هو الحل”، لكنه ليس هو المشكلة أيضا. وأخشى أنه تحت راية الحداثة والعلمانية يجري في الواقع ثقفنة الصراعات الاجتماعية والسياسية، بل تديينها وتطييفها، وحجب الرهانات الفعلية الكامنة خلفها، أي إخفاء الصراع على السلطة والثروة والنفوذ بين الفئات وللشرائح الاجتماعية، وكذلك الصراع الإقليمي والدولي الذي يتوسل الدين أو يزجه في معاركه. وبصورة نسقية أجد رافعي راية العلمانية بخاصة يقفون إلى جانب نخب السلطة وضد الجمهور العام. ورأيي أن هذا ليس مجرد خطأ مؤسف، إنه تعبير عن انحياز اجتماعي متأصل في الطابع الفوقي للدعوة العلمانية، وللحداثة عموما، وفي التكوين الاجتماعي لأولئك الدعاة الإيديولوجيين. ضد هذه العلمانية النخبوية واليمينية، قد يمكننا التكلم على علمانية تحررية وديمقراطية، يسارية إن شئت، منحازة إلى الجمهور العام وليست عمياء عن مطالبه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ هذا دون أن تكون أقل نقدية حيال الممارسات والأجهزة الدينية، النخبوية واليمينية أيضا بطريقتها.
أما “علمنة الإسلام” ذاته فلا أعرف لها معنى. المطلوب بالأحرى هو تديين الإسلام، أي جعله دينا، وليس دولة وقانونا وعلما على ما يقول ويريد التفكير الإسلامي المهيمن اليوم.
قد يمكن المجادلة في هذا التحليل، وهو على كل حال مجرد وتخطيطي، لكن أردت القول إن وضع الشروط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدولية بين قوسين عند التطرق إلى الدين والشأن الديني، لا يفضي إلى فهم شيء منه، ويقود إلى نظريات ثقافوية أو حضاروية من نوع نظرية “صراع الحضارات” لهنتنغتون. وكذلك إلى سياسات دكتاتورية ونخبوية معادية للعامة.
4- اليسار العربي لم يركز على انتقاد الأديان بشكل جذري, وإلى الآن الكثير من قواه  وأحزابه لا تطرح العلمانية بشكل صريح في برامجها, ما هو برأيكم الموقف الأمثل تجاه  الأديان الذي من الممكن أن تتبناه الأحزاب اليسارية والتقدمية في العالم العربي؟
•   أكرر نقد السؤال، والتمركز حول الدين الذي يصدر عنه.
علينا التمييز في رأيي بين حاجة ثقافتنا المعاصرة إلى اشتغال أوسع على نقد الدين والاشتباك الفكري والنفسي معه، وهذه حاجة حيوية فعلا، وبين الفاعلية السياسية والاجتماعية لليسار. ورغم أني لست معجبا باليسار التقليدي، فإني لا أرى من الصواب تفسير إخفاقاته بكونه لم ينتقد الدين. اليسار يُعرِّف نفسه بموقعه من الصراعات الاجتماعية والسياسية إلى جانب الفئات الأضعف والأكثر هامشية وحرمانا، أي إلى جانب الطبقات الدنيا، من أجل تمتعها بمستوى المساواة والحرية المتاح وطنيا وإنسانيا. يكون الكفاح اليساري مثمرا أكثر في ثقافة أرفع مستوى وأكثر نقدية حيال المطلقات، وأولها المطلقات الدينية، وإن لم تكن الوحيدة. لكن ينبغي الفصل بين نقد الدين، ولو من أرضية يسارية، وبين السياسيات اليسارية العملية التي كان اليسار العربي منشغلا بها. نقد الدين مسؤولية المثقفين وثقافتنا ككل، وليس مسؤولية اليسار وحده، أو أي تيار إيديولوجي بعينه. يمكن مؤاخذة اليسار على ضعفه الثقافي، على تقديسه لمراجعه الإيديولوجية، ولتنظيماته، بل يمكن نقده أيضا على تهيبه نقد الدين، مع ذلك لا يصح في رأيي أن تكون المسألة الدينية هي الشغل الشاغل لليسار.
لقد مارست شخصيا نقدا متعد الأشكال للدين (وآمل أن اصدر المجموع في كتاب في وقت غير بعيد)، لكني لم أفكر بالأمر أبدا كمهمة إيديولوجية أو سياسية. إنه عمل ثقافي، الغرض منه النهوض والتحرر الثقافي، وتوسيع الطاقة الاستيعابية لثقافتنا.
والنقطة المهمة هنا هي أن اليسار في بيئة متواضعة الثقافة كبيئتنا لا يمكن إلا أن يكون متواضعا هو نفسه. وأنه من أجل يسار أكثر دينامية وإبداعا نحتاج إلى إيلاء المسألة الثقافية وزنا أكبر. لكن مرة أخرى، نهوض الثقافة لا يقع على عاتق اليساريين. الثقافة خير عام، يشارك فيها الجميع، وتكون الثقافة اليسارية بخير حين تكون الثقافة ككل بخير.
أعود إلى السؤال. بلى، ينبغي ألا تتكتم الأحزاب اليسارية على علمانيتها، على تطلعها إلى صيغة للتنظيم الاجتماعي تستقل فيها الدولة عن الدين، وهذا عن تلك، وصيغة للحساسية والوعي العام مستقلة عن الأوامر والنواهي الدينية. لكن يبدو لي أن على علمانية اليساريين أن تكون علمانية ديمقراطية ويسارية، لا علمانية ثقافوية ويمينية من الصنف المهيمن اليوم. أعني أن اعتراضها على الدين وإصرارها على الفصل بين الدين والدولة مبني هو ذاته على الحد من التلاعب بالدين لتحييد الجمهور العام المهمش، وعلى ضرورة كشف الرهانات الدنيوية في الصراعات الاجتماعية والسياسية القائمة، لكن أيضا دون تقديم تنازلات لنظم حكم تسلطية ونخبوية لمجرد أنها تقمع الإسلاميين السياسيين.
5- الكثير من القوى اليسارية العربية وحتى الغربية ومن منطلق مواجهة السياسات الأمريكية والإسرائيلية تتحالف أو تدعم قوى الإسلام السياسية في المنطقة مثل حزب الله في لبنان وحركة حماس, أو تدعم بعض الأنظمة العربية, ألا يشكل ذلك تعارضا كبيرا مع الفكر الماركسي برأيكم؟
•     من بين سبعة أسئلة، خمسة حول الدين أو تحيل عليه مباشرة. هذا كثير. وهو يفسر جزئيا أزمة اليسار أكثر من أشياء أخرى، بخاصة عبر ما سميته ثقفنة الصراع الاجتماعي والسياسي أو تديينه، بما فيه أيضا الصراعات الوطنية والقومية. في هذا يشارك محسوبون على اليسار والعلمانية خصومَهم الإسلاميين مشاركة تامة. فالإسلاميون يعملون بداهة على تديين الصراعات لأنهم قوى دينية، ومن شأن التديين أن يمنحهم مواقع القيادة في صراع ديني. لكن ما بال خصوم الإسلاميين لا يفعلون إلا الشيء نفسه؟ ما بال اليساريين والعلمانيين يتمحور تفكيرهم بدرجة كبيرة، وأحيانا بصورة حصرية، حول الدين؟ ألا يخذل اليسار المفترض نفسه وهو يجر الصراعات القائمة إلى مجال الدين بدل كشف جذورها الاجتماعية والاقتصادية والدولية؟ في أحسن الأحوال هو يعمل في هذا الحال كوكيل أو تابع إيديولوجي لعلمانيين يمينيين.
وأخشى أن مضمون السؤال يضفي كثيرا من النسبية على مخاصمة السياسيات الأميركية والإسرائيلية، وكثيرا من الإطلاق على مواجهة “قوى الإسلام السياسية”، وهو ما لا أؤيده بحال، ومن شأنه إن انطلقت منه القوى اليسارية أن يقلبها إلى يمينية وذيلية لمراكز القوة في العالم. هذا محقق هنا وهناك بالفعل.
ترى، لماذا من الصعب علينا أن نعترض على المُركّب الأميركي الإسرائيلي الذي يسلك في منطقتنا وفي العالم كنخبة ممتازة أو كطبقة سادة فوق القانون، بل كعصبة بلطجية مسلحة، وأن ننتقد أو نتحفظ على مجموعات مثل “حزب الله” و”حماس” وغيرهما. من جهتي أتحفظ عليهما فعلا لأسباب سياسية ولأسباب إيديولوجية، لكن تحفظي “علماني”، مندرج في التاريخ وفي النسبية. أعني لست مستعدا لأبلستهما، أي لتديين الصراع معهما على ما يفعل من يعتبرون أنفسهم معادون للدين. ولا أرى أن “الفكر الماركسي” الذي ينطق السؤال باسمه، وأكرر القول إني قليل الماركسية، يزكي سياسة واحدة ثابتة في كل زمان ومكان. يتعلق الموقف من قوى كحماس وحزب الله بخريطة القوى القائمة وبحقل الصراعات السياسية والإيديولوجية العياني وبالاستقطابات الفعلية ضمن هذا الحقل. أي كذلك بالمواقع والأدوار الفعلية لهذه القوى، وهي مواقع وأدوار لا تستخلص من إيديولوجيتيهما وحدها. وهذا على المستويين المحلي (لبنان وفلسطين)، وعلى المستوى الإقليمي.
والواقع أن هناك بالفعل يسارا يضع نفسه بصورة حاسمة وغير نقدية في صف قوى إسلامية مثل حزب الله وحماس، وسلطات مثل الحكمين السوري والإيراني. ربما يناسب أن يسمى يسارا ممانعا. وبينما يؤبلس يسار علمانوي وثقافوي الإسلاميين ساكتا على كل ما غيرهم، يؤبلس اليسار الممانع الغرب، ويعاديه عداء أعمى ومطلقا، ساكتا بدوره على كل شيء آخر بما في ذلك الشأن الديني. والمؤسف أنه إذا طرحنا من اليسار العربي اليسار الممانع واليسار الثقافوي اليميني لا يكاد يبقى شيء. ليس هناك يسار مستقل ونقدي، ذو روح شعبية، ويربط كفاحه من أجل الديمقراطية بالانحياز الحاسم للطبقات الدنيا المعرضة اليوم لمزيد من الهامشية والحرمان، بل والسحق، في ظل التطور الرأسمالي الجديد المتحالف مع طغم الحكم الدكتاتورية.
ثم إنه علينا التمييز بين أدوار هذه القوى الدينية في مواجهة المحتل الإسرائيلي وأدوارها الاجتماعية والثقافية والسياسية في بلدانها. اليسار الممانع يتحمس لمواجهتها إسرائيل فيسكت على أدوارها الداخلية، واليسار الثقافوي يتحفظ على هذه الدوار الأخيرة، يسكت على مواجهتها لإسرائيل أو يتحفظ عليها بدورها. ورأيي أنه يتعين التمييز بين الجبهتين: الاعتراض علي الممارسات التمييزية والرجعية لتلك القوى اجتماعيا وثقافيا، والتعاطف معها أو مساندتها في المواجهة مع المعتدي الإسرائيلي.
تبقى نقطة ختامية في الإجابة على هذا السؤال. لا أرى من الإنصاف وضع حماس وحزب الله في سلة واحدة، رغم انتمائهما لمحور سياسي واحد، ورغم عنوانهما الديني العام. حزب الله أكفأ وأكثر انضباطا وجدية، وأنبه سياسيا من حماس. ولقد كان أداؤه القتالي في حرب تموز 2006 أرفع بما لا يقاس من أداء حماس في عدوان آخر 2008 ومطلع 2009 ضد غزة.
6- اليسار في حالة تراجع كبير في العالم العربي في حين يتقدم اليسار في أمريكا اللاتينية بشكل ملفت للنظر وفي الكثير من دولها, فما هو الخلل عندنا؟ وهل من الممكن الاستفادة من  تجربة أمريكا اللاتينية عربيا؟ وكيف؟
لا أكاد أعرف شيئا للأسف عن تجربة أميركا اللاتينية. لكن يبدو لي أن البنية الوطنية لبلدانها أكثر اكتمالا من بلداننا، وأنه منذ نهاية الحرب الباردة ارتفعت المظلة الأميركية عن تلك البلدان وتحررت الديناميات الاجتماعية والسياسية الداخلية فيها، فانتهى عهد الدكتاتوريات القاتلة التي كانت مدعومة من واشنطن. صعود اليسار اللاتيني قد يكون مؤشرا بالتالي على تعمق الديمقراطية في بلدان استحقت طبقاتها العليا الإدانة بسبب تبعيتها للولايات المتحدة، وعلى تنامي وزن ودور الطبقات الوسطى المتعلمة فيها. يبدو لي كذلك أن مستوى النخب السياسة والمثقفة اللاتينية أرفع من نظيراتها العربيات، وأكثر دنيوية، وأوسع معرفة بالعالم.
الأمر مختلف لدينا. البنية الوطنية أقل اكتمالا. دور الروابط الأهلية أقوى تاليا. وثمة مظلة أميركية تحدد اتجاهات تطور المنطقة التي هي اليوم ومنذ عقود الأكثر تدويلا في العالم. وهو يعني أن الديناميات الداخلية لا تكاد تتحكم بمسارات هذه البلدان. هذا فضلا عن التشوه الريعي الذي يصيب الهياكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وكذلك الثقافية والأخلاقية في بلداننا. ليس ريع النفط وحده، بل كذلك ريع الموقع أو الريع السياسي. ثم أيضا ضعف التراكم الثقافي الحديث في بيئتنا، إن قيس إلى حجم التراكم الثقافي القديم المتمحور حول “الإسلام”، وكذلك إن قيس إلى المنجز الحداثي الغربي الذي يستطيع الأميركيون اللاتينون التماهي فيه نسبيا بيسر أكبر بكثير مما نستطيع، ولا يكاد يكون ثمة عوائق تحول دون محاكاتهم له. والتماهي والمحاكاة آليتا تعلُّم لا منافس لهما.
بلى بالطبع يمكن أن نستفيد من تجربة أميركا اللاتينية، لكن ينبغي أولا أن نعرف عنها ما يتجاوز العناوين العامة. قلت وأعيد أني لا أعرف. وأظن أنه لم يترجم إلى العربية كتاب واحد أو تنشر دراسات ذات قيمة عن التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لأميركا اللاتينية أو بعض بلدانها. لكن حتى لو صرنا أفضل اطلاعا على مسارات القارة التي كانت للتو شريكة لنا في التبعية والتخلف، فأظن أن علينا بناء تحليلاتنا الخاصة لأوضاعنا الخاصة، وتطوير حلول مناسبة لمشكلاتنا. ليس هناك نماذج تحوز صلاحية عابرة للأمكنة والأزمنة.
7- كيف ترون إمكانية تحقيق نهوض جديد في قوى اليسار في العالم العربي, وما هي مستلزمات تحقيق ذلك؟
نحتاج إلى ثلاثة أشياء في تقديري.
أولها تغير في البيئة الدولية والإقليمية لما لها من تأثير سلبي، كثيف وضاغط، في منطقتنا. وثانيا قدر أكبر من “عمل الثقافة” أو الإبداع الفكري والفني والتجديد الأخلاقي ونقد المطلقات وأنسنة السياسة والدولة وتجديد الحساسية باتجاهات أكثر دنيوية ومبادرة وإقبالا على الحياة. وثالثا شيء من الحظ، هذا الذي يحيل إلى مواهب الأفراد وحسن التصرف في اللحظات الحاسمة والتوفيق في اتخاذ قرارات سديدة في الأوقات المناسبة…
أرجح أن تغيير البيئة الإقليمية والدولية لن يتحقق بفعلنا وحدنا، ربما يكون بفعل عام، نساهم نحن فيه بمقادير، في فلسطين وحولها، وقد يكون مرتبطا بنضوب النفط أو الاستغناء عنه قبيل منتصف القرن.
ما ينبغي أن يكون فعلنا، وفعلنا حصرا، هو عمل الثقافة.
أما الحظ فمن… الله.
على أن هذا كله يتصل بشروط النهوض العام، وليس بنهوض مخصوص لليسار. هذا ببساطة لأن فرص نهوض يساري في منطقة مُدوّلة، مجتمعاتها ممزقة، نخبها متواضعة، وبناها الاجتماعية مشوهة، ويفتك بها الاستبداد، تبقى محدودة.
هذا لا يعني أنه ليس لدى اليسار ما يمكن عمله. في رأيي عليه أن يظهر استقلالية أكبر حيال كل من الممانعة والحداثية اليمينية، لكن دون انزلاق نحو الانعزالية، ودون عداوة تأثيمية لليبرالية أو بالطبع للعلمانية. الليبرالية والعلمانية طبقتان من طبقات التفكير اليساري، لا يستقيم من دونهما، وإن كان لا يستقيم بتسييدهما.
في المقام الثاني تلح الحاجة إلى معرفة أعمق بعمليات تطور الرأسمالية في بلداننا ونوعية الروابط والتحالفات القائمة بينها وبين أطقم الحكم الحالية. ألاحظ في سورية مثلا أن من يهتمون بالتطور الرأسمالي يتغافلون عن نمط ممارسة السلطة القائم، وبالعكس أن من يركزن على الأخير لا يكادون يهتمون بنمط التطور الرأسمالي الجاري. التنويعة الأولى اشتراكية دون ليبرالية، تشعر نفسها في بيتها في مناخات العقائد والممارسات التسلطية، والتنويعة الثانية ديمقراطية منقوصة البعد الاشتراكي يتضخم فيها البعد الليبرالي الذي يأخذ منزعا نخبويا في بيئتنا الاجتماعية.
في المقام الثالث من المهم أن يحوز اليسار تفوقا أخلاقيا وثقافيا لا يصعب عليه تحقيقه، ومن شأنه أن يُسهِّل له تحقيق ضرب من الهيمنة في المجال الثقافي، ويشكل تعويضا من نوع ما عن الوزن الاجتماعي المتواضع له حاليا وفي المدى المنظور. ولا أعني بصفة الأخلاقي استبطان المعايير الاجتماعية القائمة، بل تطوير حساسية مختلفة، مبادرة ومنشقة، لكنها مسؤولة وعادلة، وتعمل على تطوير معايير قابلة للتعميم. أي أنها أيضا منزهة عن النخبوية والتعالي الفاشي على العامة.
أميل أيضا إلى أن على اليسار أن يتخلى عن فكرة الاستيلاء على السلطة، وأن يكون قوة تنشيط اجتماعي وثقافي حيوية.
ليس هذا خارج الإمكان، ولا يكاد يقتضي غير تنشيط الميزات التقليدية لليسار: الثقافة النقدية وحس الالتزام والروح الشعبية والتواضع للناس ونزعة المساواة. وبالطبع الروح الاستقلالية.
الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى