أزمة النقاب في سوريةصبحي حديدي

نقاب الشيطان الأخرس

صبحي حديدي
سامي مبيض، الكاتب السوري والأستاذ في جامعة القلمون والمعلّق بالإنكليزية في صحف خليجية وآسيوية، عاكف هذه الأيام على تأصيل مسألة ‘العلمانية’ في سورية، وتأويل القرارات الحكومية التي قضت بمنع دخول المنقبات إلى الحرم الجامعي، ونقل قرابة 1200 معلّمة ومدرّسة منقبة خارج سلك التعليم. وهو يخلص إلى هذه النتيجة الدراماتيكية: طيلة 400 سنة ظلت المرأة السورية ترتدي النقاب، أو ‘الملاية’ في تعبيره، حتى جاءت سنة 1920 فكسرت العرف فتاة عمرها 21 سنة، وتظاهرت سافرة في شوارع دمشق، مع رجال تطوعوا في الجيش السوري لمحاربة فرنسا الغازية.
أغلب الظنّ أنّ مبيض، وهو المولع بمسلسلات التلفزيون الرمضانية كما تشير مقالاته الأخيرة، أدمن على مشاهدة ‘باب الحارة’ منذ جزئه الأوّل وحتى الخامس، فبلغ هذه الخلاصة اعتماداً على صورة المرأة الشامية كما قدّمها المسلسل، وألقى ‘الملاية’ على أربعة قرون من تاريخ المرأة السورية. وليس هنا المقام الملائم لمناقشة تاريخ الحجاب والسفور في سورية الحديثة، لكنّ واقعة الفتاة التي يشير إليها مبيض (دون أن يذكر اسمها، ولعله يقصد السيدة نازك العابد) لم تكن أولى معارك السفور في سورية، رغم مغزاها الرمزي الخاص، بالمقارنة مع وقائع أخرى يسردها المؤرّخ عبد العزيز العظمة، صاحب ‘مرآة الشام’.
مبيض، الغارق حتى أذنيه في استنباط الدلالات من سجال محافظي سورية وعلمانييها حول مسلسل ‘ما ملكت أيمانكم’، لا يبدو في المقابل وكأنه يكترث بواقعة وجود الطالبة طلّ الملوحي (19 سنة) قيد الإعتقال لدى جهاز أمن الدولة، منذ 27/12/2009، ليس لأي ذنب آخر سوى أنها دوّنت بعض أفكارها على شبكة الإنترنت. والمفارقة أنّ غالبية موادّ الملوحي تدافع عن المقاومة، وتمتدح رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان والشيخ رائد صلاح، وتحثّ على دعم صمود غزّة، وتحنّ إلى قرى وبلدات فلسطين، ولكنها لا تقول حرفاً واحداً ضدّ النظام السوري! وأمّا الكتابات القليلة التي تخصصها لقضايا المرأة، فإنها تنمّ عن روح تحررية، لا تنقصها الجسارة، وتساوي بين المرأة والرجل في كلّ أمر: ‘هي ‘إنسان كالرجل، مساوية له في الجوهر والمقام، وكافة الحقوق والواجبات، عائلية كانت أم اجتماعية’، كما تكتب الملوحي في مادّة تعود إلى تشرين الثاني/نوفمبر 2008.
هل ثمة نقاب ـ من طراز آخر مختلف تماماً، لأنه كشّاف وفضّاح ـ يمنع مبيض من إدراج قضية الملوحي في باب معارك تحرير المرأة، إنْ لم يكن على صعيد مشاركتها في الحياة العامة، فعلى الأقلّ في ما يخصّ ممارسة حقّ التعبير؟ أليس في روح تلك المعارك تشجيع الأجيال الشابة على امتلاك رأي تحرّري، غير رجعي، مستنير، يشارك في الحداثة عبر استخدام أحدث أدوات العصر الإعلامية؟ آخر الأخبار تشير إلى أنّ السلطات الأمنية أخذت تنكر اعتقال الصبية الشابة، وهذا نذير خطير اعتادت الأجهزة اللجوء إليه في حال وفاة المعتقل تحت التعذيب. وأمّا رسالة المناشدة المؤثرة، اليائسة البائسة، التي وجّهتها والدة طلّ إلى بشار الأسد مؤخراً، فقد وقعت على آذان صمّاء، ولا حياة لمن تنادي.
والحال أنّ آذان مثقفين من أمثال مبيض، صمّاء بدورها، إنما تكرّس سلوكَيْن متكاملين: التواطؤ على ممارسة الصمت في قضايا مثل اعتقال المدوّنة الشابة، أو الإكثار من الضجيج والعجيج في قضايا أخرى آمنة وشكلانية ولا تعرّض للأخطار والمساءلة. مثلها، كذلك، انخراطهم في تشويه حقائق التاريخ السوري، أو تدوينها على نحو انتقائي متعمَّد، كما فعل مبيض نفسه في بعض موادّ كتابه ‘فولاذ وحرير: رجال ونساء صنعوا سورية 1900 ـ 2000’، الذي صدر بالإنكليزية سنة 2005، في 624 صفحة، واحتوى تراجم 341 من رجال ونساء سورية في القرن العشرين.
خذوا ما يقوله مبيض عن رياض الترك، المعارض السوري الأبرز: هو صاحب خطّ ماوي (نسبة إلى ماو تسي تونغ)، اختلف فيه مع خالد بكداش؛ واعتُقل سنة 1980، وأُفرج عنه سنة 1998 بعد أن تعهّد بـ ‘ترك السياسة وقضاء ما تبقى من حياته في سلام وأمان’. أيضاً: ‘خلال السنوات الثلاث التالية تجنّب الترك الحياة العامة، فلم تضايقه السلطات الحكومية’، حتى ظهر في برنامج على فضائية ‘الجزيرة’، وتحدّث ‘بسلبيّة بالغة عن الحكومة السورية’، ولهذا فقد ‘اعتُقل مجدداً، ثم أُطلق سراحه بأوامر من الرئيس بشار الأسد في تشرين الثاني/نوفمبر 2002؛ ومنذئذ ‘أقلع نهائياً عن كلّ نشاط سياسي’!
في نطاق آخر، يدرج مبيض بثينة شعبان، الوزيرة السابقة ومستشارة القصر الإعلامية، في عداد كتّاب وفنّاني سورية، ولكنه يتجاهل عشرات الأسماء اللامعة التي لا يصحّ أن تغيب عن أبسط موسوعة تاريخية، مثل عبد الباسط الصوفي وسعيد حورانية وهاني الراهب وممدوح عدوان وسليم بركات، في الأدب؛ ونذير نبعة ومروان قصاب باشي وسعيد مخلوف، في الفنون التشكيلية؛ وأبو خليل القباني وفايزة أحمد وسعاد حسني ونجاة الصغيرة، في فنون المسرح والغناء والسينما.
وإذا كان نقاب الوجه هو العلامة الظاهرة على فعل، قسري أو إرادي، يعطّل ديناميكية الانكشاف المتبـــــادلة، والصحية، بين المرأة والعالم الخارجي؛ فإنّ نقاب الساكت عن الحقّ علامة خافية، لكنها تؤدّي وظيفة معاكسة عملياً، لأنها تسفر عن وجه شيطان أخرس!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى