صفحات ثقافية

الكتب حين تلهو

null
غسان الحلبي
المكانة التي تبوّأها ملحق “لوموند” الأدبي في “العالم القديم” تمايزت إلى حدّ مرموق بالترقب والمتابعة والقراءة وكشف الآفاق الثقافية الكبرى. كان اللقاء الأسبوعي بهذا القادم الورقي من باريس لحظات مستساغة من الشغف بحركة الفكر، وإثارة النهم في المعرفة، والحث على اقتناص الوعي كفريسة لا بدّ للحرية من مطاردتها بلا كُلول أو ملل. كان “عالم الكتب” (اسمه بالتحديد) نافذة إلى فسحة العقول الفعّالة في حقول الفكر والفلسفة والرواية والشعر والتاريخ… يترصّد إنتاجَها بأقلام كتّابه النقّاد الذين لم تطفئ روحهم المهنية العالية جذوة الانفعال بجماليات النص ودلالاته، ولم تتجاوز انطباعاتهم معايير التقويم اللمّاح الرصين، فكانوا أدلاء أكفاء على مضامين الإصدارات المهمة، وطليعة المترقّبين لشرارات الإبداع حين يلمع وهجها من عتمة النصوص المستكنّة بين دفّتين.
استولت “الانترنت” بانقضاض صاعق ماحق على تلك الهنيهات الحميمة التي كان يمنحها اللقاء الدوري الموعود بالمطبوعة الورقية، كاشفةً عن عالم ضوئي ابتلع فكرة الحياة الواقعية ليُظهرها صورة رقمية مذهلة، ما إن يدرك المرء مداها الشمولي المفرط حتى يصير في فلكها الموسوعي، الذي يدغدغ عتبات مطلق ما، جُزَيئـا باحثاً عن صورته.
تكيّف الملحق في حلّة تليق بشاشة كونية. ومرّ زمن كان في الإمكان “تحميله” من نافذة في موقع صحيفة “لوموند” بصيغة مطابقة للأصل. ثم حاول مهندسوه تطوير شكله على عادة الغربيين في السعي المحموم لاستباق إمكانات الوسيلة المستحدثة المتاحة بين أيديهم. لكن العجلة دارت بسرعة فائقة أدّت إلى إلغاء “التنزيل”، وتالياً، إلى تفكيك العرض، واختفاء التفاصيل، واضمحلال معالم الرؤية بتلاشي النواة، في حين أن العودة إليه ورقياً بدت ضرباً من الارتداد إلى خلف.
من المضحك في هذا المجال التحدّث عن تحوّل استراتيجي، لكن الحقيقة المذهلة (وفق الشعور الخاص) أن النفاذ إلى “عناوين” الملحق الراقي الرزين من موقع “لوموند” بات إجباريّاً عبر مدخل “تسليات” (Loisirs) المضاء بنوافذه المعتادة: سينما، رحلات، موضة، طبخ، ألعاب… هكذا، أضيئت إلى جانبها نافذة وافدة: “كتب”، التي باتت المعبر الجديد إلى الملحق القديم المحدَّث!! وقليلاً ما تُستخدَم الكلمة (loisir) بالفرنسية في صيغة الجمع، وهي تعني الوقت الحرّ خارج نطاق المشاغل والأعمال، تُقال للرجل “الذي يُشغِل روحَه بأمور ليست في صلب اهتماماته الجدية”، ومن دون فذلكات القواميس، هي اللهو بقصد المتعة والترفيه.
إنه فكّ ارتباط فظّ مع المفهوم الكلاسيكي لفنون الكتابة التي ارتبطت جمالياتها بمدى الصلة بربّات الفنون (Les Muses). علينا أن نتطلع بعيداً عن اليونان المفلسة في اتجاه أحفاد “الآباء المؤسّسين” في الولايات الأميركية الذين جعلوا من “الأنترتينمنت” ديانةً كاسحة، بربّاتها الحاضرات فوق المساحة الكبرى من صناعة الصورة الحديثة، مخيّلة الرعاة الجدد لثقافة هي بالفعل، فرعٌ من فروع “التسالي” و… اللهو.
لا بدّ الآن من الإقرار بواقع متجدّد: ثمة مكوِّنات ثقافية ذات هيبة، لها مكانتها في ذاكرة الوعي والإدراك الموضوعي للعالم، دخلت مرحلة التطبيع المتحاذق في “المول” Mall الأميركي الكبير. لكن “المول”، على اتساعه وشسوعه وكثرة فسحه، وعلى التنوّع شبه الشمولي لبضائعه وزخارف “فيتريناتها”، وعلى وفرة استراحاته ومطاعمه وصالات عرضه، هو عالم مقفل، يقحمك في لعبة التسوّق والاستهلاك المفتوحة بلا حدود، يعني فوق الطاقة الاستيعابية لمدارك الذوق والاختيار والحاجات الفعلية. هو يولّد لك الحاجات بما لم تره عين ولم يخطر على قلب. يطوّقك بالحالة المشهدية التي سبق للصورة الدعائية أن غذّتها وعزّزتها في مرآة الانطباع المولَّد، وهيّأت أجواء “عالم افتراضي” جذّاب لكنه مصنَّع بالكامل، وقائم بأكمله على طرائق الافتتان والغواية. ربّما يقع الزبون (كلمة مولدة من زبَنَ زَبَنهُ، أي دفعهُ ورمى به، وهي في هذا المعنى في غاية الإصابة لواقع المستهلك اليوم) على اسم متجر لبيع “الكتب” أمام الخريطة الالكترونية لمتاهة “المول”، من بين مئات أسماء المتاجر التي تحترف الزبن، فإذا اختار تزجية الوقت لاستعراض معروضاتها من آخر الإصدارات، وقع على خليط هجين من العناوين المتعلقة بسير النجوم، والطبخ، والخيال العلمي، والرحلات، و”أسرار” الفلك”… ومواضيع تتناسب مع المدخل العريض: “Loisirs”.
إنه أمر طبيعي يحدث في أيّ “مول” من أسواق الاستهلاك الحديث، ولكن، أن يخضع ملحقنا الرصين، الذي له في الذاكرة المقام المهيب، لهذا الخلط، فذلك من علامات الأزمنة! ¶
النهار الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى